على ضفاف التاريخ وفي أجواء محملة بعبق الماضى وعراقته تشهد قلعة صلاح الدين فعاليات الدورة ال 31 من مهرجان القلعة الدولي للموسيقى والغناء، هذا المهرجان الذى يُعبر عن روح مصر وزخمها الموسيقى ويقدم عاما بعد عام لوحة غنائية متكاملة وممتعة ليؤكد أن هذه الأرض تنبت دوما بالغناء وتفوح جدرانها بسحر الموسيقى ولا تتوقف عن مد كل من حولنا بكل جديد وثمين ومبهر . فعلى الرغم من الهجوم الذى لا يتوقف من جانب كل أشكال التردي والابتذال على وعينا وذاتنا إلا أنه يبقى مهرجان القلعة أحد أشكال الصمود فى وجه القبح الذى يحاول أن يزحف على وادينا الفني اليانع. ذلك الوادي الفني الذى يضرب بوجوده فى عمق التاريخ ويعلمنا علماء التاريخ المصري القديم أن الموسيقى كانت حاضرة بقوة ضمن مكونات الحضارة الأعرق والأقدم والأكثر تأثيرا فى تاريخ البشرية، فمنذ آلاف السنين والمصريون يعرفون الموسيقى ويمارسون الغناء بكل أشكاله؛ فهو فن ليس غريباً على تاريخهم الطويل ولا حضارتهم القديمة، ونقش المصري القديم على جدران معابده ما يثبت علاقته الوثيقة بالموسيقى والغناء، وكان المصريون القدماء يلقبون مخترع الموسيقى ب "ابن الأبدية" كما أكد "أفلاطون" – الذي عاش في مصر اثنا عشر عاما وتنقل بين معابدها وتأثر بفنونها واعتنق ديانتها – حيث قال عن تميز ورقى الموسيقى المصرية: "أرقى موسيقى في العالم"، وأن الموسيقى المصرية القديمة هي "الملائمة لتكون لحن جمهوريته الفاضلة"، وأشار "أفلاطون" في محاوراته – وهى من ترجمة وتقديم وتعليق الدكتور فؤاد زكريا – والمعروفة باسم "القوانين" إلى: "تفوق الموسيقى المصرية على الموسيقى اليونانية، وهى النموذج الأفضل والأكثر اكتمالاً بسبب تدفقها، وحيويتها، وسمو تعبيرها، وروعة وجمال ألحانها، والاحتفاظ بحالتها الأولى البعيدة عن التحريف، كما أشار أيضاً إلى تفوق الموسيقى المصرية وتميزها بالروعة على الشعر والعمارة والنحت والكثير من العلوم والفنون بسبب أن المصريين كان لهم ذوق أكثر رقة، ومبادئ أكثر رسوخاً من باقي الشعوب المجاورة، كما أشارت الوثائق التاريخية إلى تأثر الإغريق بالموسيقى المصرية القديمة، والدليل على ذلك نقل قواعدها ومحاورها الفنية إلى ثقافتهم لاعتقادهم في قدرتها السحرية على طباع البشر وأمزجتهم. يأتي مهرجان القلعة فى صيف كل عام ليؤكد على مجموعة من القيم أهمها ضرورة تحقيق العدالة الثقافية ووصول الخدمة الفنية إلى أهالينا في مختلف أحياء القاهرة بمقابل بسيط يتناسب مع الجميع ويُمَكن الجميع من المشاركة في ليالي القلعة الغنائية بالإضافة إلى انه فرصة مهمة لتقوم دار الأوبرا المصرية بأحد أهم أدوارها وهو رعاية وتقديم الأصوات الواعدة والتجارب المبشرة وهذا يحدث من خلال ما نراه من تألق عدد كبير من الفنانين والفرق الموسيقية المستقلة أو الرسمية التي تظهر عبر مسرح القلعة لتراها مصر وتتعرف عليها. هذا بالإضافة إلى أن المهرجان يرسخ لقيمة مهمة جدا وهى " الوفاء " وتقدير كل من ساهم فى إثراء الحالة الموسيقية والغنائية فى مصر بمختلف مكونات الأغنية وصناعة الموسيقى وقد جاءت التكريميات مثيرة للإعجاب في الدورة الحالية حيث تشرفت منصة التكريم بأسماء مهمة وملهمة وصاحبة بصمة فى مسيرتنا الفنية ومن بين هؤلاء. كرمت الدكتور نيفين الكيلاني والدكتور خالد داغر، اسم الشاعر الراحل شوقي حجاب الذى رحل منذ أيام بعد مسيرة حافلة مع الشعر الغنائي ورصيد كبير فى مجال فنون الطفل بمختلف أشكاله كما جاء تكريم اسم الفنان العظيم صوت موسيقى الجنوب الفنان أحمد منيب وتسلم درع التكريم ابنه فتحي منيب، كما تم تكريم الشاعر الكبير والفنان التشكيلي المبدع مجدي نجيب أحد الذين ساهموا فى صناعة الأغنية البديلة التى ظهرت مع نهاية السبعينيات من القرن العشرين . كما تم تكريم المايسترو الكبير عبد الحميد عبد الغفار، والسوبرانو تحية شمس الدين، المدير الفني المايسترو ناير ناجي ومن جيل الشباب جاء تكريم المطربة المميزة ريهام عبد الحكيم، مدير المكتب الفني والتصميمات بدار الأوبرا ابتسام حلمي، مدير عام الإضاءة بدار الأوبرا ياسر شعلان، محمد السيد عبد المقصود من أبناء الورش الفنية في الأوبرا تلك التكريمات التي يستحق من رشحها كل التحية والتقدير، تحية إلى وزير الثقافة وتقدير وعرفان لدار الأوبرا على دورة ناجحة وتكريمات لاقت تقديرا وإعجاب كل المهتمين بالموسيقى والغناء ونأمل أن تسير دار الأوبرا على نفس النهج فنرى خلال السنوات المقبلة تكريم محمد حمام وإمام عيسى وعدلي فخرى والشعراء أحمد فؤاد نجم وعبد الرحيم منصور وغيرهم من الذين أثروا نهر الأغنية فى النصف الأخير من القرن العشرين.