الديون الداخلية والخارجية خنقت روسيا وأوشكت على إعلان إفلاسها عام 1998 ارتفاع أسعار النفط أنقذت روسيا بعد تولى الرئيس بوتين للسلطة
قال أول رئيس لروسيا بوريس يلتسين فى مذكراته، «إن الإصلاح الاقتصادي فى روسيا مزق الاقتصاد السوفيتى كما يمزق الجزار اللحمة بسكين بارد». كان الرئيس الروسى يخشى من الإصلاحات التى قدمها له الإصلاحيون الشباب واعتبرها قاتلة للشعب، وقال حينها إنه لو وافق عليها، فإن الشعب سيلقى به إلى خارج الكرملين. اعتمد الرئيس يلتسين على مجموعة من الاقتصاديين الشباب على رأسهم يجور جيدار وأناتولى تشوبايس وبوريس فيودروف، وهم مجموعة شباب من ذوى التوجهات الليبرالية، للقيام بعملية إصلاح اقتصادي تهدف لتحول الاقتصاد السوفيتى الاشتراكي إلى اقتصاد السوق. فاعتمد جيدار سياسة «الصدمة»، وهى تعتمد على ما يعرف فى الاقتصاد باسم «مونيتريزم» وهى تعنى أن كمية النقود الموجودة فى السوق هى معيار تطور الاقتصاد، بمعنى أن زيادة النقود أو نقصها غير مستحبة، أى لابد أن تكون النقود انعكاسًا للنشاط الإنتاجي فى المجتمع، أو كما قال جيدار نفسه يجب أن نعيش على قدر مواردنا. وقدم يجور جيدار وزملاؤه للرئيس يلتسين برنامجهم الاقتصادي بكل جرأة، وهو ما أزعج الرئيس وجعله يخشى أن يلقى مصير جورباتشوف، غير أنه فى نهاية الأمر وافق، فلم يكن أمامه حل آخر، وللحقيقة ورغم المتاعب تقبل الشعب الإصلاحات بالصدمة على أمل تحسن الأوضاع، ولأنهم شعروا بأن الإصلاحات ستخلصهم من قيود الاقتصاد السوفيتى، الذى أصيب بالسكتة الدماغية فعليًّا منذ فترة طويلة وخاصة فى نهاية فترة حكم السكرتير العام ليونيد بريجنيف، وأصبحت الفترة الأخيرة من حكمه تعرف بفترة الركود. وبالطبع رفض قادة الحزب الشيوعى السوفيتى إصلاحات أليكسى كوسيجين عام 1965، وكان من الممكن أن تجعل من الاتحاد السوفيتى مثل الصين، إلا أنها رفضت فى ذلك الوقت، لأسباب إيديولوجية، فقد خشي القادة السوفيت فى وجود ماوتسى تونج فى السلطة أن يتهموا بالتحريف، وكانوا حينها على خلاف مع الصين ومنافسين لهم فى دعم حركات التحرر فى أفريقيا، كل منهم يعتبر نفسه الحارس الأمين على الماركسية. الصين وسياسة الانفتاح إلى أن جاء للسلطة فى الصين دينج سياو بينج وقلب الطاولة على الجميع بنظريته البراجماتية «لا يهم لون القط ما دام يأكل الفئران» واعتمد سياسة الانفتاح على الغرب وتحررت الصين اقتصاديًّا وغزت العالم بسلعها وبضائعها، وهذا ربما ساعدها على الحفاظ على النظام السياسى القائم، أى كان الاتحاد السوفيتى يحتاج إلى شيء من المرونة الاقتصادية على غرار الصين، وربما كان يستطيع الحفاظ على الدولة، لكنه اعتمد على النفط والغاز كسلع رئيسية للتصدير، إلى أن جاء شباب الإصلاحيين المتأثرين بمدرسة شيكاغو الاقتصادية التى رفضتها تشيلى والأرجنتين من قبل. تحرير الأسعار أهم ما جاء فى برنامج يجور جيدار كان نقطتين أساسيتين وهما كفيلتان بالقضاء على أى اقتصاد موجه كالاقتصاد السوفيتى، الأولى وتتمثل فى تحرير الأسعار من أى سيطرة حكومية عليها، والثانية هى الخصخصة، أى إعطاء الممتلكات الحكومية للقطاع الخاص. وبالفعل مع أول يناير عام 1992 تم تحرير الأسعار، وفى ظروف قلة الإنتاج وندرة السلع ارتفعت الأسعار بشكل جنونى ومطرد، فعلى سبيل المثال ارتفعت أسعار المواد الغذائية عام 1997 مقارنة بتلك التى كانت قائمة عام 1990 10 آلاف مرة. الخصخصة فى روسيا وفى الأول من أكتوبر 1992، بدأت الخصخصة التى قادها أحد كبار الإصلاحيين وهو أناتولى تشوبايس، فقد منحت الدولة لكل مواطن صك ملكية عبارة عن نصيبه من أملاك الدولة، تعطى المواطن حق أخذ جزء من المصانع والمباني التابعة للدولة بمقتضى هذا الصك. وفى واقع الأمر قام بعض من أطلق عليهم فيما بعد «الروس الجدد»، والذين كان لديهم أموال مجهولة المصدر أن تم اكتنازها على مدى عقود دون علم الدولة، بشراء هذه الصكوك من المواطنين واستحوذوا هم على ممتلكات الدولة، وخرج الشعب من المولد بلا حمص، فى كل الأحوال أرادت الدولة خلق طبقة رأسمالية تحل محل رأسمالية الدولة أو لنسمها القطاع العام، ومن هنا نشأت «الأليجاركية» الروسية الحالية، لم يكن لدى الإصلاحيين الجدد وقت فقد أرادوا تفكيك الدولة والاقتصاد على وجه الخصوص بسرعة وخلق طبقة تضمن للنظام القائم وللغرب عدم عودة النظام السابق (الشيوعى). إفقار الشعب بعد ذلك وعلى وجه التحديد فى 1 يوليو 1994، تبدأ مرحلة جديدة من عملية الخصخصة النقدية، أى البيع مباشرة ليس من خلال صكوك بل بعرض أملاك الدولة للبيع بشكل مباشر بعيدا عن المشاركة الشعبية فى العملية، بين الدولة ومن يشترى. نتج عن سياسة الإصلاح بالصدمة أو العلاج الاقتصادي بالصدمة عدة ظواهر هامة رغم المعاناة التى عاشها الشعب الروسى جراء ذلك 1 – تكون فى روسيا سوق للسلع المصنعة وللمواد الغذائية 2 – حدثت عملية إفقار عامة للشعب نتيجة ضآلة الرواتب وانخفاض قيمة المدخرات فى البنوك 3 – وصلت "السوق السوداء" إلى قمتها، ونتيجة لذلك انتشرت الجريمة فى المجتمع، وتبع ذلك انخفاض حصيلة الضرائب، ما أدى إلى عجز رهيب فى الموازنة ومن ثم انخفض تمويل الدولة للإنتاج والثقافة وغيرها من أوجه الحياة فى البلاد. 4 – ارتفاع أسعار المواد الأولية والمحروقات والكهرباء، أدى إلى تعميق الأزمة الاقتصادية. وهنا تظهر أزمة عدم القدرة على السداد، الشركات أصبحت غير قادرة على سداد ثمن الخامات للموردين، وعلى وجه الخصوص عانت من ذلك الصناعات العسكرية، التى تعتمد على توريد منتجاتها للدولة. 5 – وبسبب عدم القدرة على المنافسة مع السلع الأجنبية، إنهارت تقريباً الصناعات الخفيفة الضعيفة من الأصل، وغمرت البلاد سلع مستوردة رديئة الجودة. 6 – المؤسسات الحكومية عانت أكثر من أى مؤسسات أو شركات أخرى لاعتمادها بالدرجة الأولى على الميزانية العامة، وتقريبًا لم يعد هناك تمويل من قبل الدولة لها، وانتهى الأمر بها إلى الإنهيار التام، والعاملون بهذه المؤسسات أصبحوا تحت خط الفقر. 7 – بدأت هجرة القوى العاملة فى مجالات الإنتاج والعلوم وغيرهما من المجالات الحيوية إلى التجارة، هكذا فقدت العلوم والثقافة آلافًا من الاختصاصيين ذوى المستوى الرفيع ما أدى إلى هبوط حاد فى الإنتاج. 8 – لكن الأهم كان هجرة العقول أى هجرة الاختصاصيين رفيعي المستوى إلى خارج البلاد وهو ما اعتبر استنزافًا للثروة البشرية الروسية. فشل الإصلاح أدى عدم وجود الاستقرار الاقتصادي الذى وعد به جيدار فى بداية عملية الإصلاح إلى فشل إصلاحاته، وفى ديسمبر 1992 قرر مؤتمر نواب الشعب (البرلمان) حينها إقالة يجور جيدار من منصب القائم بأعمال رئيس الحكومة الروسية، وعين بدلاً منه السياسى المخضرم فيكتور تشيرنوميردين رئيسًا للوزراء، وهو سياسى من الطراز السوفيتى ومن أهم رجال تصدير وإنتاج الغاز فى روسيا، لكن لا علاقة له بالاقتصاد. أهم ما سعى إليه رئيس الوزراء الجديد كان 1 – الحصول على قروض من الخارج 2 – جذب الأموال الموجودة لدى المواطنين من خلال إنشاء منظومة بنكية ضخمة لإقراض الدولة. 3 – وقف دفع الرواتب للموظفين لدى الدولة، وهذا خفف بدرجة كبيرة من معدلات التضخم فى البلاد ولكنه نقل المواطنين من فقراء إلى معدمين. لكن هذه المسألة لم تكن لتستمر طويلاً، فقد أصبحت ديون الدولة للمواطنين وللمقرضين الأجانب أمرًا مزمنًا لا يمكن تحمله، ومن هنا قامت الحكومة بإجراء إصلاح نقدي فى 2 يناير 1998، استبدال النقود القديمة بجديدة مع إلغاء أو حذف الأصفار، لكن هذا الإجراء لم يكن حلًا، لكنه فقط جعل الأزمة القادمة أقل ضررًا. وفى مارس 1998 تمت إقالة فيكتور تشيرنوميردين، وتم تعيين شاب حينها كان محسوبًا على الإصلاحيين وهو سيرجى كيريينكو، وهو الآن أحد المقربين من الرئيس بوتين. أزمة اقتصادية نتيجة تعيين الشاب عديم الخبرة والشخصية والذى كان مغامرة من قبل الرئيس الروسى يلتسين، أن ضربت البلاد أزمة اقتصادية حادة فى 17 أغسطس 1998، أدت الأزمة إلى انهيار كامل للعملة المحلية ما أدى إلى تقليل الاستيراد ونتيجة لهذا حدثت أزمة فى العديد من السلع، مما قضى على "الطبقة الوسطى" الروسية الناشئة نهائيًّا فى ذلك الوقت. وفى سبتمبر 1998، تمت إقالة كيريينكو وتعيين السياسى المخضرم والمستشرق الأكاديمي يفجينى بريماكوف، الذى أعلن عن توجهه الجديد فورًا وهو "الاعتماد على القوى الذاتية لروسيا" لحل أزمات البلاد. وكان خفض الاستيراد مدخلًا ساعد على دعم المنتجات والمنتجين المحليين، وتم إقرار ميزانية متوازنة لعام 1999. غير أن الديون الخارجية على روسيا كانت ضخمة، وأصبحت البلاد على حافة إعلان إفلاسها. حاولت روسيا بقدر المستطاع نسيان الإصلاحات الليبرالية، لكن السلع الوحيدة التى يمكن تصديرها هى النفط والغاز والسلاح. ولما كان بريماكوف قد جاء لرئاسة الحكومة لضرورة ملحة وبضغط من البرلمان الذى كان فيه الحزب الشيوعى صاحب أغلبية، لم يستطع الرئيس يلتسين تحمل أن يلوى الشيوعيون ذراعه وعند أول فرصة أقال بريماكوف فى يونيو 1999، وعين بدلاً منه شخصية مهتزة ارتكبت أخطاء قاتلة فى حرب الشيشان الأولى، الأمر الذى كان من الممكن أن يؤدى إلى انفراط عقد الاتحاد الروسى، وهو سيرجى ستيباشين، الذى حل محله فى شهر أغسطس من نفس العام فلاديمير بوتين رئيسًا للحكومة، ومع نهاية العام أعلن الرئيس يلتسين عن تنحيه عن السلطة، وكلف رئيس الوزراء بوتين بتسيير أمور البلاد لحين إجراء انتخابات جديدة وأعلن بوتين عن ترشحه للرئاسة. بوتين والاقتصاد بعد تولى الرئيس بوتين لمقاليد الحكم فى البلاد، شهد الاقتصاد الروسى حالة من الانتعاش، فقد كان بوتين نسبيا صغير السن من ناحية وعلق الشعب الروسى عليه آمالًا كثيرة، لكن الأهم هو ارتفاع أسعار النفط والغاز العالمية، السلع التصديرية الرئيسية لروسيا مما مكن الاقتصاد الروسى والرئيس الجديد من التقاط الأنفاس وتسديد ديون الدولة أمام المواطنين، وأصبحت الرواتب والمعاشات تدفع بانتظام، كما سددت روسيا ديونها للخارج، وكمحاولة للخروج من نفق الاعتماد على النفط والغاز كمصدر لحوالي 40% من الموازنة الروسية، بذل الرئيس بوتين محاولات حثيثة لكى يجعل من روسيا دولة صناعية عظمى، لكن محاولات الغرب لم تتوقف لجعل روسيا تبقى على حالها بعد انهيار الاتحاد السوفيتى. وضمن محاولات الغرب كان توسع الناتو شرقاً مما شكل ضغطًا أمنيًّا ودفاعيًّا على روسيا وزاد من إنفاق روسيا العسكرى، أى أن الغرب يلعب بنفس الطريقة التى هدم بها الاتحاد السوفيتى عندما أجبره على الدخول فى سباق التسلح، والآن نزاع أوكرانيا وهو يدخل ضمن نفس الإطار وهو شغل روسيا عن أهدافها الرئيسية فى أن تكون قوة أو قطبًا دوليًّا على قدم المساواة مع الولاياتالمتحدة.