تحولت تركيا إلى أكبر مركز لتصدير القمح للعالم والغاز لأوروبا أنقرة الأقرب للعب دور الوسيط في أي مفاوضات قادمة يحاول الكثير من المراقبين تفسير العلاقة بين تركيا وروسيا على أى نحو وأي مقياس، لكن هذه العلاقة لا تخضع لأي مقاييس وفى كثير من الأحيان لل تخضع لأى منطق. تركيا عضو فى الناتو الذى أشعل النزاع الروسى – الأوكرانى بمحاولة ضم أوكرانيا للحلف واعتراض روسيا على ذلك، تركيا أسقطت مقاتلة روسية من طراز سو- 24 والتى تعتبر فخر الصناعة العسكرية الروسية، إردوغان ساعد أذربيجان على أن تستعيد ناجورنوكاراباخ من أرمينيا حليفة روسيا، والتى بها قاعدة عسكرية فيها ولم تحرك موسكو ساكناً رغم عضوية الأخيرة فى اتفاق الأمن الجماعى. تركيا تقصف قوات المشير حفتر على أبواب طرابلس وتطارده حتى مدينة سرت، رغم تأييد روسيا لحفتر، هذا ليس كل سجل الرئيس إردوغان، ولا ننس دخول سفن بأعلام تركية لنقل الغلال من البحر الأسود عندما أرادت روسيا وقف اتفاق نقلها بدعوى أن أوكرانيا تستخدم السفن المحملة بالغلال فى نقل أسلحة وذخيرة للجيش الأوكرانى، مما دفع روسيا لتمديد الاتفاق، وبالطبع أخيراً وليس آخراً تنظيم موسكو لاجتماع وزراء دفاع روسياوسوريا وتركيا فى موسكو لبحث مشكلة اللاجئين السوريين فى تركيا وتهيئة المناخ لعودتهم إلى ديارهم، وهنا أيضاً موسكو تمد اليد لتركيا فى قضية تعتبر حيوية للرئيس إردوغان لأنه مقدم على استحقاق انتخابي العام المقبل. وإذا عدنا بالتاريخ للوراء قليلاً، نجد أن لروسيا وتركيا تاريخًا طويلًا من العداء والتناقض وتقاطع المصالح يصل إلى ما يقرب من 500 عام من الحروب، منذ نشوء الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية عقب سقوط الدولة البيزنطية، حيث كانت الإمبراطوريتان تعتقدان أنهما ورثا إرث بيزنطة، واستمر التنافس بينهما لفترة طويلة ومن ثم استمرت الحروب بينهما لفترة طويلة. المثير للاهتمام فى كل هذه الحروب أن روسيا لم تستول على أى أراض تركية، بينما حاول السلاطين الأتراك الاستيلاء على وسط وشرق أوروبا والنمسا ومنطقة الفولجا فى روسيا، وما زالت آثارهم موجودة حتى الآن من خلال مسلمى تتارستان وبشكورتشتان الروسيتين، ولتركيا تأثير ثقافى كبير فى هاتين الجمهوريتين اللتين تتمتعان بالحكم الذاتى داخل الاتحاد الروسى، وبالفعل كانت هاتان الجمهوريتان معرضتين لأن تقعا تحت الاحتلال التركى، لكن مقاومة الروس والمدعومين منهم من قوازق منطقة الدون وزابوروجيا أنقذت وسط أوروبا من الاحتلال التركى، لكن الآثار التركية ما زالت موجودة فى البلقان حتى الآن وكانت أحد أسباب الحرب فى يوغسلافيا السابقة، كما أنقذ الأمراء الروس أوروبا من غزو التتار فى القرن الثالث عشر. مضايق البحر الأسود كان كل ما تطمح له روسيا هو المرور الحر لسفنها التجارية والحربية عبر مضايق البحر الأسود (البوسفور والدردنيل) وضمان عدم مرور سفن حربية لدول معادية عبر هذه المضايق تحت أى ظرف من الظروف، وهذا كان برنامج الحد الأقصى للإمبراطورية الروسية ومن بعدها الاتحاد السوفيتى، والمتمثل فى امتلاك قاعدة فى منطقة المضايق لتأمين مرور السفن وضمان عدم وصول أى قوات بحرية من الغرب للبحر الأسود، وكأنه بحيرة قاصرة على الدول الواقعة عليه فى ذلك الوقت، وكانت معظمها تابعة للاتحاد السوفيتى مثل رومانياوبلغاريا، باستثناء تركيا، وعندما أرادت تركيا ذات مرة إزعاج الاتحاد السوفيتى فيما يتعلق بالمرور عبر المضايق، يقول جروميكو كان يكفى حديث ودى وغير رسمى مع بعض الصحفيين الغربيين حول تصرف الاتحاد السوفيتى كرد فعل على ذلك عندما قال لهم إنه من الممكن قيام الاتحاد السوفيتى بشق طريق للمرور عبر المضايق، لكن للأسف حينها لن تكون إسطنبول موجودة، الرسالة وصلت لأنقرة، بعد ذلك لم تفكر تركيا فى هذا الأمر مرة أخرى. حلفاء ولكن لكن هل كانت تركيا وروسيا حلفاء على مدى تاريخهما؟ نعم كانتا كذلك، مرتين فى تاريخهما. الأولى خلال الفترة من 1798 – 1805، حين ساعدت الإمبراطورية الروسية تركيا فى الدفاع عن نفسها لصد عدوان نابليون. وفى الفترة من 1920 – 1922، قدمت روسيا السوفيتية مساعدات كبيرة للجنرال مصطفى كمال أتاتورك فى استعادة استقلال الدولة التركية وطرد قوات ما كان يعرف "بالوفاق" من أراضيها، وكما نرى روسيا سواء القيصرية أو السوفيتية كانت مهتمة بالحفاظ على الدولة التركية، وكانت على استعداد للحرب من أجل ألا تسمح بوقوع جارتها الجنوبية لقمة سائغة للغرب، لكن للأسف أصبحت هذه الجارة عضوًا فى حلف الناتو الذى ناصب الاتحاد السوفيتى العداء على مدى تاريخه، وما زالت حرب تدور فى أوكرانيا أحد أسبابها الرئيسية هو انضمام دولة سوفيتية سابقة لهذا الحلف، حيث إنه فى حال انضمامها سيتحول البحر الأسود إلى بحيرة للناتو تقريباً. على أى حال هذه مقدمة تاريخية كان لا بد منها، تبين أنه لا العداء دائم ولا الصداقة دائمة والدائم الوحيد هى المصالح المشتركة. علاقات معقدة فى التاريخ الحديث تعتبر العلاقات التركية – الروسية بالغة التعقيد، خلال فترة الحرب الباردة كانت العلاقات بين الاتحاد السوفيتى وتركيا متوترة، لأن تركيا كانت تنظر للاتحاد السوفيتى على أنه دولة شيوعية تمثل تهديداً للأمن القومى التركى، فى حين كان ينظر السوفيت لتركيا باعتبارها دولة فى حلف الناتو تتجسس على الاتحاد السوفيتى وتمثل تهديداً مباشراً له. وهذا كان سبباً فى انعدام الثقة بين الطرفين، خاصة فى فترات الأزمات الشديدة، وذلك نتيجة تصورات سلبية قادمة من ماضى العلاقات والحروب القديمة. والطريف والغريب أن العلاقات بين روسيا وتركيا حتى فى أيام الاتحاد السوفيتى، لم تشهد تطوراً كبيراً حتى فى عهد الحكومات العلمانية المتعاقبة فى تركيا، نتيجة عدم الثقة الضارب بجذوره فى تاريخ العلاقات بينهما، لكن لسخرية الأقدار شهدت هذه العلاقات التطور الكبير أو الطفرة الحالية فى عهد حكومة حزب "العدالة والتنمية" ذى التوجه الإسلامى، لكن فى نفس الوقت كانت روسيا قد تخلت عن الإرث الشيوعى، وتركيا بتوجهها الإسلامى تريد أن يكون لها تأثير ثقافى بعد انهيار الإيديولوجية، وربما كانت تمنى نفسها باستعادة الماضى فى منطقة الفولجا، والقرم الذى أصبح فى عهدة أوكرانيا ثم روسيا ومن ينظر للعلاقات التركية – الروسية يجد أنها تتراوح بين التنافس والعداء أحياناً، والشراكة الاقتصادية أحياناً أكثر، والأخيرة تحكمها الجغرافيا، وعدم قبول الاتحاد الأوروبى لتركيا، ومن السهل رؤية هذا التناقض فى موضوعات مختلفة، تتراوح مثلاً من اختلاف وجهات النظر بين تركيا وروسيا من "حزب العمال الكردستانى" وكذلك موقف البلدين من النظام فى سوريا، فبينما تنتقد أنقرة النظام فى دمشق وتمد يد العون للمعارضة السورية، نجد أن روسيا حليف وثيق لدمشق، مما جعل العلاقات بين أنقرة وموسكو دوماً على جدول أعمال أى فعاليات تتعلق بسوريا. حيث تستخدم روسيا حق الفيتو ضد أى قرار يدين دمشق فى أى عمل بصرف النظر عن مشروعيته أم عدمها. ورغم أن الناتو ضم تركيا فى فترة بداية تأسيس حلف الناتو عام 1949، وكان الهدف هو حصار الاتحاد السوفيتى بالطبع، ولأن دول البحر الأسود الأخرى مثل رومانيا كانت شيوعية حتى أن بلغاريا كانت تلقب بالجمهورية السوفيتية السادسة عشرة وأعضاء فى حلف وارسو، الآن تغيرت الأحوال للعكس تقريباً فقد انهار حلف وارسو ودخلت رومانياوبلغاريا حلف الناتو وأوكرانيا تناضل وتقاتل من أجل الانضمام للناتو ليصبح البحر الأسود بحيرة داخلية للناتو حقيقة واقعة فى حال قبول جورجيا المطلة كذلك على البحر الأسود، إذا تحقق انتصار أوكرانيا أو تخلت روسيا عن القرم بعد ذلك. حافة الهاوية فى الوقت الحالى تبدو العلاقات التركية – الروسية قوية ومتينة، لكن عند أول خلاف نجد أنها تجنح إلى حافة الهاوية وتسرع أنقرة إلى الغرب، كما حدث أثناء مشكلة تصدير الغلال والمواد الغذائية وعند إسقاط الطائرة الروسية. فى واقع الأمر الصداقة التركية – الروسية هشة للغاية، إن جاز التعبير، ورغم ذلك عند محاولات الغرب متمثلاً فى الولاياتالمتحدة وبريطانيا زرع بذور الخلاف بين أنقرة وموسكو، فإن العلاقة من الممكن أن تتشوه لبعض الوقت ولكنها تعود كما كانت وكأنها تتمتع بمرونة غير عادية. أهم ما فى العلاقة الروسية – التركية، أن الأخيرة تفعل ما فيه مصلحتها، وإذا استغرقنا فى التفكير بعض الشيء وتساءلنا هل الرئيس التركى صديق لروسيا أم عدو؟ وهل من الممكن أن نعتبره حليفًا؟ لكى نجيب عن هذين السؤالين يجب أن نتتبع علاقات موسكو وأنقرة خلال الفترة منذ عام 2014 فقط، عام استرجاع روسيا للقرم، وبداية النزاع فى الدونباس، تركيا فى ذلك الوقت لم تستسلم لضغوط الغرب، تركيا لم تعترف بالقرم جزءاً من روسيا وأعلنت أنها مع وحدة وسلامة الأراضى الأوكرانية، وفى نفس الوقت لم تنصع للعقوبات الغربية على روسيا رغم موقفها الداعم لأوكرانيا ولم تقطع التعاون الاقتصادى مع موسكو، لأن هذا ليس فى صالح أنقرة، القيادة التركية تفعل ما هو فى صالحها فقط. خلافات عميقة الخلافات بين روسيا وتركيا كثيرة وعميقة ومبدئية، على سبيل المثال النفوذ فى الشرق الأوسط هنا الدولتان متنافستان، روسيا تدعم بشار الأسد، بينما أنقرة من مصلحتها القضاء على أكراد سوريا الذين تعتبرهم مهددين لأمنها. وزادت الخلافات بين البلدين عندما أسقطت مقاتلات تركية مقاتلة روسية من طراز سو – 24 فى سوريا، وتعقدت الأمور بين البلدين، فنتج عنها أزمة سياحة، ووقف الاستيراد والتصدير، وغيرهما مما هدد تلك العلاقات، لكن كما قيل فإن الأمر كان يحتاج إلى اعتذار من الرئيس التركى، وبعد ثمانية أشهر اعتذر الرئيس التركى وعادت الأمور إلى نصابها الصحيح، لكن فى عام 2018 ظهرت أزمة أخرى تنتظر روسيا فى علاقاتها مع تركيا، حيث كان عليهما فرز "الإرهابيين" عن المقاتلين "المعتدلين" فى سوريا (ما حدث فى إدلب) وتمت تسوية الوضع بعد مشاورات طويلة بين الرئيسين الروسى والتركى. جنى الأرباح لكن يبدو أن العملية العسكرية فى أوكرانيا أنست الرئيس التركى الأوضاع فى سوريا لبعض الوقت وإن كان بدأ يجدف من جديد لجنى الأرباح، ما دام الوضع فى القرم غير قابل للتغيير، فاخترع الرئيس التركى لنفسه مهمتين غاية فى الأهمية وهما أن يصبح مركز تجارة الغلال والغذاء المصدر من روسياوأوكرانيا من خلال اتفاق وقعه مع الأممالمتحدةوروسياوأوكرانيا، لكن الأهم بالنسبة للرئيس التركى أنه أصبح مركز تجارة الغاز، ونقطة ترانزيت عبور سواء الغاز الروسى أو الأذربيجانى أو حتى الإيرانى فى المستقبل إلى أوروبا، ويمكن القول أنه نجح فى ذلك بعد أن وقعت بلغاريا عقداً لتوريد الغاز طويل الأجل مع تركيا، فى المقابل تحصل تركيا على عمولة وتدفع لها روسيا تكلفة عبور الغاز عبر أراضيها، كما أنها تخدم أوروبا التى تصر على عدم استيراد الغاز الروسى ولكنها تستورد الغاز "التركى" القادم من روسيا، وبذلك تكون روسيا لم تخسر كثيراً، والأوروبيون الذين حلفوا بالطلاق أنهم لن يستوردوا الغاز الروسى لم يقع طلاقهم وحفظوا ماء وجههم. باختصار تركيا لم تنضم للعقوبات على روسيا، والأخيرة تقدر ذلك جداً، وتركيا لفظها الاتحاد الأوروبى وتجد فى روسيا شريكا تجاريا يعوضها عن عدم انضمامها للاتحاد الأوروبى، وهى تستفيد اقتصادياً مستغلة موقعها الجغرافى الفريد، وها هى تركيا الأبرز لتلعب دور الوسيط لحل الأزمة الأوكرانية – الروسية فهى فى الناتو، وهى أهم شريك تجارى لروسيا ربما بعد الصين، وهى صديق لأوكرانيا التى قد تكون زميلا لأوكرانيا فى الناتو، وأوكرانيا تثق فيها لموقفها من القرم ووحدة وسلامة الأرض الأوكرانية، ولدى تركيا أوراق ضغط على طرفى النزاع من خلال تصدير الحبوب الأوكرانية وتصدير الغاز الروسى.