العنف الثقافى فى زمن العولمة *بقلم :د. عواطف عبد الرحمن لم يعد أمامنا نحن العرب سوى الميدان الثقافى الذى يمكن أن تتجلى فيه إمكانية توحيد جهودنا، خاصة فى ظل خبرات الإخفاق والاستلاب المتكرر للأراضى العربية والتشتت الأيديولوجى والتفتيت السياسى. ويمكن أن تلعب الثقافة نفس الدور الذى كان يلعبه الدين والذى مازال يمارسه كعنصر أساسى من عناصر الثقافة كاللغة والأخلاق والأيديولوجيات. والثقافة تجمع بين الثابت والمتحول وتضم الأصول المعيارية التى توجه نشاط إنتاج وإعادة إنتاج الهوية كما تضم أشكال الإبداع الذى يشمل التجديد المعرفى والتقنى. وعوامل التغيير والتعديل فى ثقافة مجتمع ما قد تأتى من داخله بفعل الديناميكية الداخلية للمجتمع أو تكون بفعل التأثير والتأثر بين ثقافات المجتمعات الأخرى حيث تنشأ ظواهر التثاقف والتفاعل الثقافى بين المجتمعات. والمعروف أن ثقافة المجتمعات القومية ثقافة متفتحة لا تخشى الاستيعاب وهى أيضاً ثقافة فاتحة أى تميل فى ذات الوقت إلى التوسع والانتشار خارج مناطقها الجغرافية وفرض معاييرها وانساقها ومنتجاتها على حضارات العالم الأخرى. وهذا كان شأن الثقافة الإسلامية فى عصور إزدهارها وهو أيضاً شأن الثقافة الأمريكية فى عصرنا الحالى. واليوم فى ظل ثورتى المعلومات والاتصال وتجاوز العولمة الاقتصادية للحدود السياسية والجغرافية الوطنية والإثنية والحضارية تتعقد إشكاليات تفاعل الثقافات التقليدية مع ثقافة ما بعد الحداثة أو ثقافة العولمة. فالعولمة ليست ظاهرة جديدة بل عملية تاريخية نميز فيها بين مرحلتين: عولمة الرأسمالية منذ أواخر القرن ال 19 حتى نهاية النصف الأول من القرن ال 20 وقد أدت إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية. وعولمة الرأسمالية الجديدة أى ما بعد الصناعة وتتميز بسطوتها على النظام الدولى وتقريبها المذهل للمسافات وتوسيعها لإطار السوق وتجاوزها الدول الوطنية وتنافسها غير المتكافئ مع قدرات وصلاحيات الدول الوطنية فى تشكيل وسائل ومناهج إعادة إنتاج وإبداع نماذجها الثقافية التقليدية والحداثية. والسمة الجوهرية للعولمة الرأسمالية أنها مركزية التراكم التقنى والمالى والمعرفى والثقافى وليست مجرد عولمة التبادل التجارى أو الانتشار المعلوماتى والاتصالى. ويصبح السؤال المطروح هل دينامية هذه العولمة دينامية اقتصادية أم ثقافية؟ أم أن هناك بعداً ثقافياً يفرض معاييره لصالح تراكم رأس المال فى دول المركز ويضفى سماته على العولمة فيتم تحديدها بمعايير الغرب الثقافية لتكون العولمة هى تغريب العالم. فى ظل المرحلة الراهنة من العولمة تنتقل مراكز القرار والفاعلية السياسية والاجتماعية فى الغرب إلى المؤسسات الاتصالية والمؤسسات التى تعتمد على إنتاج المعرفة وتكنولوجيا المعلومات. وتشير الإحصاءات إلى هذا التحول فى طبيعة السلع المنتجة والمتبادلة فى دول المركز فالمنتجات الثقافية تتزايد مقارنة بالسلع التقليدية فهى فى الولاياتالمتحدة مثلاً تصل إلى 8% من الناتج القومى متقدمة على الزراعة والصناعات الالكترونية. ان العولمة الثقافية مثل العولمة الاقتصادية فكما أن عولمة السوق لا تشمل عولمة العمالة، وكما أن عولمة رأس المال تصب فى طاحونة المؤسسات المالية الدولية وفى ساقية تراكم رأس المال الأحادى المركزى (أمريكا). وكما أن عولمة الاستهلاك لا تخص إلا النخب فى العالم الثالث بينما تبقى الغالبية العظمى من البشر على هامش المجتمع الاستهلاكى أيضاً تبدو عولمة الاتصال لصالح الاقتصاد المهيمن والثقافة المهيمنة وتجرد المجتمعات الجنوبية من عناصر ثقافتها بل تحاول منعها من تأكيد حضورها الثقافى أو تقديم أى بديل ثقافى يختلف عن الثقافة الغربية (المركزية). وفى ظل تردى صناعاتنا الثقافية تبدو القنوات الفضائية الوطنية التى تبث من المواقع المحلية أو من الخارج كأطر مفرغة من المضمون بسبب تغييب الكفاءات والكوادر البشرية المتخصصة وبسبب صعوبة ملء هذه القنوات بمنتجات ثقافة عربية لذلك أصبحت ميداناً للمنافسة الثقافية بين الأفلام والمسلسلات والبرامج الأوروبية والأمريكية واليابانية. وهذا يؤكد الطابع الثقافى للعولمة الاقتصادية ويفسر العديد من ردود الفعل فى مواجهة الهيمنة القطبية الأحادية للولايات المتحدة وتتجلى في مقاومة أمركة الثقافة وظهور مفهوم الاستثناء الثقافى الذى واجهت به فرنسا الجولة السابعة والأخيرة من مفاوضات الجات التى بدأت منذ 1946 بعد إنشاء البنك الدولى 1944 وصندوق النقد 1945. ولذلك يبدو مشهد العولمة كفعل عنف ثقافى وتكثيف إعلامى شرس وإنكار للثقافات الأخرى وتسليط للأضواء على الثقافة المركزية الأمريكية كى تبهر العيون والعقول وتجب سواها من الثقافات الوطنية. والعنف الثقافى تمارسه مؤسسات الغرب العالمية من الخارج وينفذه من الداخل وكلاؤها من المتخصصين فى إعادة إنتاج العنف الثقافى فى مواجهة المثقفين الوطنيين والثقافة الوطنية ورموزها. وتمارس الدولة القطبية الأمريكية العنف الثقافى لتحقيق أهدافها السياسية والاستراتيجية من خلال منظمات حقوق الإنسان ومراكز الأبحاث والبرامج والمسلسلات وشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى. ولاشك أن ازدواجية المعايير سلاح تستخدمه أمريكا ضد من يعارض مصالحها وهى تعمل على دمج العالم وتوحيده تحت هيمنتها. فى هذا السياق يبرز عجز الحكومات المحلية التى تُخّدم على المصالح الأمريكية وترتبط مصلحياً مع رجال الأعمال والمثقفين والخبراء ورجال البنوك وينخر فى كيانها الفساد الإدارى والقانونى. وتدخل الدولة فى علاقات مشاركة ومنافسة مباشرة مع هذه الفئات فتتوزع مراكز القوى وتتفكك الدولة ولا يبقى لها غير الشرعية الصورية والسيادة البوليسية والجنائية ويسيطر على المشهد جماعات المصالح والطوائف الدينية والمهنية والعصبيات الأثنية والعشائرية ويتراجع الولاء للوطن ويتحول من المصالح الوطنية والقومية إلى شركات وبنوك العولمة ويصبح الولاء للمصالح الوطنية والقومية من مخلفات الماضى.