نواصل حديثنا فنشير الي قوله تعالي في الحديث الشريف: ثم قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتي أحبه". والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب. فإن القلب ملك والأعضاء جنوده. فإذا خبث الملك خبثت جنوده. ولهذا قال النبي ": "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله". وكذلك أعمال القلب لا بد أن تؤثر في عمل الجسد. وإذا كان المقدم هو الأوجب [سواء] سمي باطناً أو ظاهراً فقد يكون ما يسمي باطناً أوجب مثل ترك الحسد والكبر فإنه أوجب عليه من نوافل الصيام. وقد يكون ما سمي ظاهراً أفضل. مثل قيام الليل. فإنه أفضل من مجرد ترك بعض الخواطر التي تخطر في القلب من جنس الغبطة ونحوها. وكل واحد من عمل الباطن والظاهر يعين الآخر. والصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر وتورث الخشوع ونحو ذلك من الآثار العظيمة. هي أفضل الأعمال والصدقة. والله أعلم. مكاشفات أهل الصفا: 8- وذكر أيضاً في "مجموع الفتاوي" الجزء الحادي عشر ص "395": "سئل: ما الحكمة في أن المشتغلين بالذكر والفكر والرياضة ومجاهدة النفس وما أشبهه يفتح عليهم من الكشوفات والكرامات وما سوي ذلك من الأحوال ? مع قلة علمهم وجهل بعضهم ? ما لا يفتح علي المشتغلين بالعلم ودرسه والبحث عنه؟ حتي لو بات الإنسان متوجهاً مشتغلاً بالذكر والحضور لا بد أن يري واقعة أو يفتح عليه شيء. ولو بات ليلة يكرر علي باب من أبواب الفقه لا يجد ذلك. حتي أن كثيراً من المتعبدين يجد للذكر حلاوة ولذة. ولا يجد ذلك عند قراءة القرآن مع أنه قد وردت السنة بتفضيل العالم علي العابد لا سيما إذا كان العابد محتاجاً إلي علم هو مشتغل به عن العبادة. ففي الحديث "إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع. وإن العلماء ورثة الأنبياء. وإن فضل العالم علي العابد كفضل القمر علي سائر الكواكب". وفي الحديث القدسي عن النبي " أنه قال: "إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل للعابدين والمجاهدين: ادخلوا الجنة. فيقول العلماء: بفضل علمنا عبدوا وجاهدوا. فيقول الله عز وجل لهم: أنتم عندي كملائكتي. إشفعوا. فيشفعون ثم يدخلون الجنة" وغير ذلك من الأحاديث والآثار. ثم إن كثيراً من المتعبدين يؤثر العبادة علي طلب العلم مع جهله بما يبطل كثيراً من عبادته كنواقض الوضوء أو مبطلات الصلاة والصوم. وربما يحكي بعضهم حكاية في هذا المعني: بأن "رابعة العدوية" رحمها الله أتت ليلة بالقدس تصلي حتي الصباح. وإلي جانبها بيت فقيه يكرر علي باب الحيض إلي الصباح. فلما أصبحت رابعة قالت له: يا هذا! وصل الواصلون إلي ربهم وأنت مشتغل بحيض النساء. أو نحوها. فما المانع أن يحصل للمشتغلين بالعلم ما يحصل للمشتغلين بالعبادة مع فضله عليه؟. فأجاب: الحمد لله رب العالمين. لا ريب أن الذي أوتي العلم والإيمان أرفع درجة من الذين أوتوا الإيمان فقط. كما دل علي ذلك الكتاب والسنة. والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثته الأنبياء كما قال النبي ": إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم. فمن أخذه أخذ بحظ وافر. وهذا العلم ثلاثة أقسام: "القسم الأول": "علم بالله وأسمائه وصفاته" وما يتبع ذلك. وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص وآية الكرسي ونحوهما. "والقسم الثاني": "العلم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية وما يكون من الأمور المستقبلة. وما هو كائن من الأمور الحاضرة". وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص والوعد والوعيد وصفة الجنة والنار ونحو ذلك. "والقسم الثالث": "العلم بما أمر الله به من الأمور المتعلقة بالقوالب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها وأقوال الجوارح وأعمالها". وهذا العلم يندرج فيه العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام. ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة. وهذا العلم يندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة. فإن ذلك جزء من جزء من جزء من علم الدين. كما أن المكاشفات التي تكون لأهل الصفا جزء من جزء من جزء من علم الأمور الكونية. والناس إنما يغلطون في هذه المسائل لأنهم يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة. ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة. فرب رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن ولا يكون له من الفهم. بل ولا من الإيمان ما يتميز به علي من أوتي القرآن