لا شك أن قراءة وثائق قوامها 2800 صفحة سيستغرق وقتاً طويلاً، ولا أحد سيحتمل الانتظار لمعرفة تفاصيل وأسرار حدث جلل وقع في 22 نوفمبر عام 1963.. حدث وصفه الكاتب والمؤرخ الأمريكي دون دوليللو بالقول: "سبع ثوان قصمت ظهر القرن الأمريكي"، ويبدو الرجل علي حق، إذ اتجهت البلاد إلي مرحلة من الاضطرابات المرتبطة بالحقوق المدنية وانخرطت بشكل أوسع في حرب فيتنام. كما أنه وبعد 54 عاماً تبدو هذه الثواني السبع مصدراً للإلهام بكل أنواع الدسائس والمؤامرات، ويكفي ملاحظة هذا الكم الهائل من الاهتمام الذي أثاره قرار الرئيس دونالد ترامب بالإفراج عن وثائق رسمية عن مقتل الرئيس الراحل جون إف كينيدي. نشر الوثائق جاء عملاً بقانون وُقّع عام 1992، رداً علي ظهور فيلم JFK لأوليفر ستون، وكان القانون يقضي بنشر 3100 وثيقة، ولكن بقرب حلول الموعد المقرر في نوفمبر 2017، تم الإبقاء علي 300 وثيقة سراً بضغط من المخابرات المركزية الأمريكية »IA والمباحث الفيدرالية الأمريكية FBI، علي اعتبار أنها "حساسة في سياقها، ولما قد تسببه من ضرر علي الأمن القومي الأمريكي"، وتم إرجاء النظر بشأنها ل26 أبريل 2018. بعض الوثائق كُتبت بخط يد يصعب بل يستحيل قراءته، وأخري بدت عشوائية وغير مرتبطة بالحدث الرئيسي، وبعضها سبقت حادث الاغتيال وبعضها الآخر جاء بعده بعدة سنوات. ونُشرت علي الموقع الإلكتروني لمركز الأرشيف الوطني الأمريكي، وهو ما سيتيح الفرصة لباحثين وصحفيين وكتاب للغوص داخل خزانة من الأسرار، لا سيما أن كثيرين يؤمنون بنظرية المؤامرة في تلك القضية تحديداً وينتظرون منذ أكثر من نصف قرن أي معلومة تقول إن أجهزة أمنية عتيقة كان لها اليد في مقتل كينيدي، وأن المتهم الرئيس لي هارفي أوزوالد ليس هو القاتل الحقيقي، أو علي الأقل أنه لم يكن مسؤولاً وحده عن العملية، لاسيما أن القاتل لقي مصرعه بشكل غامض علي يد أحد عناصر الشرطة في دالاس بعد الحادث بيومين، بينما هناك من يتهم عصابات مافيا، وآخرون يرون الرئيس الكوبي الراحل فيدل كاسترو المخطط الأول للاغتيال. فلاش باك بالعودة إلي الحادث الذي هز العالم يمكن اكتشاف الوقائع متسلسلة علي النحو التالي: -اغتيل الرئيس جون فتزجيرالد كينيدي يوم الجمعة، في 22 نوفمبر عام 1963، في مدينة دالاس بولاية تكساس عند الساعة 12:30 بعد الظهر بالتوقيت المحلي. - كينيدي كان في موكب يسير ببطء وسط المدينة، ويستقل سيارة رئاسية مكشوفة برفقة زوجته جاكلين كينيدي وحاكم ولاية تكساس جون كنالي وزوجته نيلي. وفي ضاحية ديلي بلازا أصيب بطلقات نارية قاتلة أطلقها شاب يٌدعي لي هارفي أوزوالد. - في 24 نوفمبر 1963، قام اليهودي جاك روبي (صاحب ملهي ليلي وعضو بعصابات المافيا) بإطلاق النار علي لي هارفي أوزوالد وأرداه قتيلا بينما كان محاطاً بحراسة شرطة دالاس. - تقول سيرة جاك روبي إنه ولد في 25 مارس 1911 في شيكاغو لأب يهودي مهاجر من بولندا وبدأ أنشطته الإجرامية وهو في سن صغيرة، وعند بلوغة ال16 من عمره انضم لعصابة آل كابوني، وكان يتقاضي أجرا في البداية من خلال السوق السوداء، وأيضا عن طريق الغش من خلال الملاهي الليلية. وأصبح في عام 1937 وسيط بيع وتبادل أسلحة في شيكاغو، بتعليمات المافيا، وقد صار معروفا وحديث الناس حين أطلق النار علي أوزوالد، وقد تمت إدانة جاك روبي في 14 مارس 1964 وصدر بحقه حكم بالإعدام لكنه لم يعدم وتوفي في 3 يناير 1967 في دالاس بعد وقت قصير من إعادة فتح قضيته. - اللجنة الرئاسية التي قادها رئيس المحكمة العليا في حينها القاضي إيرل وارن، للتحقيق في حادث اغتيال كينيدي، خلصت إلي أن مطلق النار هو لي هارفي أوزوالد، وقالت إنه تصرف بمفرده. - بعض التفاصيل المحيطة بالجريمة كانت محل شك كثير من الأمريكيين، ما دفع البعض إلي تصديق سيناريوهات تظل حتي يومنا هذا في إطار نظرية المؤامرة. مثير للانتباه في كل الأحوال يمكن العثور في هذا "الصندوق الخشبي ذي الأوراق المبعثرة"، كما تصف صحيفة النيويورك تايمز الوثائق التي غاصت آخر ساعة في داخلها من خلال شبكة الإنترنت، علي معلومات توضح كيفية عمل أجهزة المخابرات المركزية »IA والمباحث الفيدرالية FBI والآثار التي تتبعوها والفرضيات التي طرحوها، والتي تسمح بفهم حدث أحاطه الكثير من الغموض والخيالات والإشاعات المسممة. وبعد قراءة سريعة لبعض ما ورد في الوثائق يمكن القول إن تشكيل صورة متكاملة عن جريمة الاغتيال ودوافع القاتل أوزوالد وعملية قتله علي يد أحد عناصر الشرطة في دالاس بعد يومين من مقتل الرئيس، ستأخذ وقتا طويلاً وتحليلاً مستفيضاً للأحداث، لكن هناك بعض التفاصيل المثيرة للانتباه في الوثائق المنشورة حديثا. -إحدي الوثائق تكشف أن جاك روبي الذي قتل لي هارفي أوزوالد، زار إسرائيل برفقة زوجته في الفترة ما بين 17 مايو و7 يونيو 1963، وتعزز تلك الوثيقة فرضية أن لإسرائيل يداً في مقتل كينيدي، حيث تم الكشف عن رسائل بين كينيدي والرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، اتفقا خلالها علي حل القضية الفلسطينية. ولكن بمراجعة علاقة كينيدي بالدولة العبرية يتضح أن هناك الكثير من التوترات نتيجة خلافات عميقة، حيث كان ديفيد بن جوريون، أحد مؤسسي إسرائيل وأول رئيس وزراء لها، أن هناك ضرورة ملحة لامتلاك تل أبيب أسلحة نووية علي اعتبار أن ذلك من الاستراتيجيات التي بني عليها سياسة الأمن القومي لتل أبيب، فيما كان الشغل الشاغل لكينيدي منع حدوث ذلك. وكشف الكاتب الأمريكي إيثان برونر من خلال وثائق خاصة، علي صفحات النيويورك تايمز عام 1998، عن فحوي رسائل تمتلئ بالعنف اللفظي بين كينيدي وبن جوريون، ونقل برونر عن مصادر رسمية في الدولة العبرية تفيد بأن بن جوريون كان يحتقر كينيدي لدرجة تدفع للاعتقاد بأنه كان أحد المخططين الرئيسيين لاغتيال الرئيس الأمريكي، لا سيما أن بن جوريون، الذي أفني عمره في التخطيط لإنشاء دولة إسرائيل، كان يري في كينيدي عدوا لإسرائيل وللشعب اليهودي ومعادياً للسامية وكان يقول ذلك صراحة في جلسات خاصة، إذ كان من المعروف عن كينيدي إعجابه بالزعيم النازي هتلر في مطلع الثلاثينيات وحتي اندلاع الحرب العالمية الثانية. - ما يعزز فرضية ضلوع الموساد الإسرائيلي في اغتيال كينيدي أيضاً، هو الضغط الهائل الذي مارسه الرئيس الأمريكي في الفترة من 1961 إلي 1963، كي تقبل تل أبيب بتفتيش دولي علي مفاعل ديمونة، وإن كانت تلك الضغوط لم تغير شيئاً في السياسة الإسرائيلية، فإنها كانت أحد العوامل القوية التي أدت لاستقالة بن جوريون عام 1963، قبيل أشهر قليلة من اغتيال كينيدي. -أبلغ مواطن كندي مكتب التحقيقات الفيدرالي غداة اغتيال الرئيس كينيدي أنه سمع ثلاثة رجال كانوا يتحدثون قبل ثلاثة أسابيع من عملية الاغتيال عن الرئيس الأمريكي، ونقل عنهم القول "إن كينيدي لن يترك دالاس حيا إذا زارها"، مبدياً ثقته بأن أحد هؤلاء الرجال الذين كانوا في طريقهم إلي كوبا، هو لي هارفي أوزوالد. ولكن أبلغ أحد أصدقاء هذا المواطن الكندي مكتب التحقيقات أن لصديقه خيالاً واسعاً. ورجح عملاء المكتب أن تكون رواية الرجل محض خيال. -تشير وثائق وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي إلي أن لي هارفي أوزوالد كان له ارتباطات بالاتحاد السوفيتي السابق، وكان ذلك معروفاً لهما قبل وقوع الحادث، وهو ما يعني أن أوزوالدو لم يكن فقط علي رادارات الأجهزة الأمنية، بل إنه كان مراقباً عن كثب، وهو ما رفضت المخابرات الأمريكية والمباحث الفيدرالية الاعتراف به حتي وقت قريب. ولكن هناك وثائق أخري تناقض ذلك كما سيتضح من خلال السطور التالية. -قال مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي حينذاك إدجار هوفر، في رسالة أعقبت اغتيال كينيدي، إن لدي المكتب أدلة تثبت تورط أوزوالد في الجريمة، وارتباطه بكوبا والاتحاد السوفيتي. -في 2 نوفمبر 1959، ظهر مقال يسرد حياة أوزوالد الجندي السابق بمشاة البحرية الأمريكية (المارينز)، والذي ظهر عليه تعاطف كبير مع الأيديولوجية الماركسية، وتوجه ذات يوم للسفارة الأمريكية في موسكو للتنازل عن جنسيته واللحاق بالمعسكر السوفيتي. - وثيقة بتاريخ الأول من أكتوبر 1963، تشير إلي أن مكتب التحقيقات الفيدرالي في دالاس تلقي معلومة من "مصدر كوبي" تفيد بأن لي هارفي أوزوالد شخص "خلفه مصلحة" ويجب توقيفه، ولكن كان من الصعب العثور عليه "الآن". - بعد مقتل كيندي بيومين أي في 24 نوفمبر 1963، قُتل لي هارفي أوزوالد برصاصة في البطن بينما كان محاطاً برجال الشرطة، وكتب إدجار هوفر مدير الFBI آنذاك مذكرة عن هذا الحادث الذي "لا يمكن غفرانه"، حيث إن المباحث الفيدرالية حذرت شرطة دالاس منه قبيل وقوعه. وجاء في مذكرة هوفر:" في الليلة السابقة لمقتله تلقينا مكالمة من رجل كان يتحدث بصوت هادئ وأخبرنا أنه عضو في منظمة أنشئت خصيصاً لقتل أوزوالد.. نقلنا المعلومات بدورنا لرئيس شرطة دالاس الذي أخبرنا أن أوزوالد سيحظي بحماية كافية ولكن هذا لم يحدث". - في وثيقة أخري يتضح أن جاسوساً أمريكياً في أوساط الدوائر الرسمية بالاتحاد السوفيتي نقل ما كان يعتقده القادة السوفيت في أوزوالد، حيث كانوا يعتبرونه "مجنوناً مصاباً بأمراض عصبية غير مخلص لبلده أو لأي شيء آخر"، أما جهاز مخابرات الاتحاد السوفيتي KGB فكان منكباً علي دراسة فرضية أن من يقف خلف مقتل كينيدي هو اليمين المتطرف بقيادة ليندون بي جونسون نائب الرئيس القتيل. - وثيقة للمخابرات الأمريكية تتحدث عن سعادة بالغة للسفير الكوبي في واشنطن حينما علم بخبر مقتل كينيدي. -وثيقة بتاريخ 24 نوفمبر منسوبة لإدجار هوفر مدير المباحث الفيدرالية توضح أن الرجل والجهاز الذي يترأسه كانا يريدان أن يبعدا عن الرأي العام فرضية المؤامرة، حيث تقول الوثيقة علي لسان إدجار هوفر: "إن أكثر ما يشغلني هو أنه يجب نشر شيء ما لكي نقنع الرأي العام أن أوزوالد هو الفاعل الحقيقي". -أقر ضابط مخابرات كوبي عام 1967 بمعرفته الشخصية بأوزوالد، حسب وثيقة لمكتب التحقيقات الفيدرالي. -اعترضت وكالة الاستخبارات المركزية مكالمة هاتفية بين أوزوالد عندما كان في المكسيك وأحد عناصر الاستخبارات الروسية في سفارة موسكو في ميكسيكو ستي. وتشير الوثيقة إلي أن أوزوالد تحدث مع الضابط بلغة روسية ركيكة. والغريب هنا أن ضابطاً في المخابرات الروسية لا يتحدث الإنجليزية! -المكسيك كانت طرفا متعاونا مع الولاياتالمتحدة علي عدة محاور، من المساعدة في التجسس علي الاتصالات في السفارتين الروسية والكوبية في المكسيك، إلي محاولة تقفي أثر ارتباطات أوزوالد في البلاد. وأبلغت مصادر وكالة الاستخبارات المركزية أن أوزوالد أودع مبلغ خمسة آلاف دولار في أحد البنوك المكسيكية. وتعقبت السلطات المكسيكية جميع الإيداعات في بنوك البلاد ولم تعثر علي ما يثبت إيداع القاتل أموالاً هناك. -تشير وثيقة لوكالة الاستخبارات المركزية إلي أن شخصا يلقب ب"إيل مكسيكانو" كان يرافق أوزوالد في رحلته الغامضة إلي المكسيك في سبتمبر عام 1963، أي قبل تنفيذ عملية الاغتيال بشهرين. الوثيقة عرفت "إيل مكسيكانو" علي أنه فرانسيكو رودريجاس تامايو، قائد ميليشيا كانت معارضة لنظام كاسترو في كوبا حتي فراره ولجوئه إلي الولاياتالمتحدة عام 1959. وتعرف وثيقة أخري هذا الشخص علي أنه قائد معسكر تدريب قوة معارضة لكاسترو. مكالمة غامضة وبحسب إحدي الوثائق المفرج عنها، فإن صحفيا بريطانيا في صحيفة "كامبريدج نيوز" تلقي مكالمة هاتفية غامضة من شخص مجهول، قبل 25 دقيقة من مقتل كينيدي، وطلب منه المتحدث الاتصال بالسفارة الأمريكية للاستفسار عن "حدث كبير". وبعد ذيوع خبر مقتل الرئيس، قالت تقارير بريطانية إن الصحفي أخبر السلطات الأمنية في بلده بالمكالمة التي تلقاها، وبدورها أرسلته لندن إلي جهات الاستخبار الأمريكية. وأشارت الوثيقة التي كشفت عن المكالمة المريبة، إلي "ملاحظة" كتبها نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI بتاريخ 26 نوفمبر عام 1963، أي بعد 4 أيام من حادث الاغتيال. وجاء بالملاحظة: "الاستخبارات البريطانية أبلغتنا أنه في تمام الساعة 18.05 بتوقيت جرينتش، تلقي صحفي كبير في "كامبريدج نيوز" مكالمة غامضة. وخلالها قال المتصل للصحفي إن عليه الاتصال بالسفارة الأمريكية في لندن من أجل حدث كبير ثم أنهي المكالمة". وطبقا للوثيقة فإنه "بعد خبر مقتل الرئيس اتصل الصحفي بالشرطة وأبلغها بالمكالمة، والشرطة أبلغت الاستخبارات البريطانية". وأضافت الملاحظة التي أشارت إليها الوثيقة: "الأمر المهم في هذه المكالمة أنها، طبقا للاستخبارات البريطانية، أجريت قبل اغتيال الرئيس ب25 دقيقة. الصحفي لم يسبق له استقبال مكالمات مشابهة والاستخبارات البريطانية قالت إنه شخص معروف لديها وموال لها". تبريرات غير مقنعة في النهاية، فإن كثيرين لم يقتنعوا بتبريرات المخابرات الأمريكية والمباحث الفيدرالية بشأن حجب 11٪ من الوثائق في اللحظات الأخيرة، فالمؤرخ باتريك مانيي يقول لوكالة الأسوشيتدبرس: "طالما أن الحكومة ترفض نشر هذا النوع من الوثائق فإن ذلك سيغذي الشكوك حول معلومات غير مسبوقة عن مقتل كينيدي". واحدة من الوثائق التي تغذي تلك الشكوك وبقوة، هي تلك المؤرخة بعام 1975، وفيها شهادة بالغة الأهمية لريتشارد هيلمس المدير الأسبق للمخابرات المركزية الأمريكية »IA، وكانت شهادته أمام لجنة رئاسية عن أنشطة ال»IA. وكان هيلمس وقت إدلائه بتلك الشهادة مساعداً لمدير التخطيط بالمخابرات، وحينما سُئل: "هل أنت تتولي منصب مساعد مدير التخطيط ب »IA" أجاب ب"نعم"، ثم كان السؤال التالي من اللجنة لهيلمس: "هل تمتلك أي معلومات عن مقتل الرئيس جون إف كينيدي والتي يمكن أن توضح أن لي هارفي أوزوالد كان بشكل أو بآخر عميلاً ل»IA أو ل....". (تم حجب باقي الوثيقة).