من المؤسف أن يفتي من لا يعرفون الدين في الدين ، وأن يستبيحوا أرواح الناس ، ويستبيحوا فيما يستبيحون كل تراث الإنسانية ، شاملين بهذه الاستباحة المدافن والمراقد والأضرحة ، يمعنون فيها الهدم ، ويمدون ذلك إلي أضرحة الأولياء والصالحين ، وإلي مراقد آل البيت ، غير مبالين بحرمة جثامين الموتي المدفونة في الأضرحة والمراقد ، ولا بإيذاء شعور المسلمين وترويعهم ! المدافن والمراقد وهدم الأضرحة دخل الإسلام مصر منذ نيف وأربعة عشر قرنًا ، فاحترم الآثار والمدافن الفرعونية والقبطية ، ولم يعرض لها بهدم أو بسوء ، وعلي مدي هذه القرون مارس المسلمون في مصر فروضهم ونوافلهم وشعائر دينهم ، ودفنوا موتاهم وموتي من مات بمصر من الصحابة وآل البيت ، وأقاموا أضرحتهم الخاصة ، وأضرحة آل البيت والأولياء والصالحين ، واعتادوا زيارة أضرحة الحسين والسيدة زينب والسيدة عائشة والسيدة نفيسة وغيرها من أضرحة الأولياء والصالحين ، واعتاد من يحج منهم أو يعتمر زيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام والمدفون فيه معه صاحباه أبو بكر وعمر ، واعتادوا إقامة موالد الأولياء والصالحين والاحتفال بها حول أضرحتهم ومدافنهم ، كمولد السيد أحمد البدوي بطنطا ، والسيد إبراهيم الدسوقي بدسوق ، وعبد الرحيم القنائي بقنا ، والمرسي أبو العباس بالإسكندرية ، وغيرهم بطول مصر وعرضها ، وافتخروا ولا يزالون بأن جامع عمرو بن العاص وبه ضريح ابنه عبد الله ، هو أول مسجد أقيم في أفريقيا ، واعتادوا في الأعياد والمناسبات زيارة مقابر وأضرحة موتاهم وقضاء بعض الوقت فيها قبل أن يعودوا لمواصلة احتفالاتهم بأعيادهم ، وعاشت مصر ومسلموها ومسيحيوها آمنين وادعين يرتاحون إلي ما أضفاه الشعب علي مراقد الجميع من احترام ، شمل فيما شمل مدافن وأضرحة موتي الأقباط ، ومنها ما يعد لليوم مزارًا ويتبرك به المسيحيون ، ويحترمه ويزوره من يشاء من المسلمين ، لا يشغلون أنفسهم بكيف رقد ومن رقد من الراحلين ، ويتهيبون ويؤثمون نبش القبور أو العبث بالمراقد والراقدين فيها ، ولم يخلّ ذلك يومًا بمعتقدهم ولا بأدائهم لفرائض ونوافل وشعائر دينهم في سلام وأمان تميزت به دائمًا مصر المحروسة. وفجأة انفجرت في وجه الجميع حوادث جعلت تتري هنا وهناك ، بهدم أضرحة ومراقد ، وقلقلة أمان المصريين ، وهدم أعرافهم ومعتقداتهم برؤية لم يقصرها أصحابها علي أنفسهم وموتاهم ، وإنما أساغوا لأنفسهم هدم أضرحة ومراقد وبعضها لآل البيت ، وجاءنا بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف أنباء صدامات حدثت في أربع محافظات مصرية بين الجمهور وبين مجموعات جعلت تقوم بهدم الأضرحة ، وأخري نقلت عراكًا إلي بعض المساجد والمنابر ، وبثت الفضائيات مشاهد من هذه الأعمال والمصادمات ، واتجه العقلاء إلي الأزهر الشريف طالبين إليه أن يبدي كلمته حول حكم الشرع في هذه الأعمال التخريبية. وفي اجتماعنا بمجمع البحوث الإسلامية ، بجلسته الحادية عشرة في دورته السابعة والأربعين التي عقدت بتاريخ 26 من ربيع الآخر 1433ه الموافق 31 مارس 2011 ناقشنا فيها هدم الأضرحة ، وانتهي مجلس المجمع بالإجماع إلي إصدار البيان التالي : » يعرب مجمع البحوث الإسلامية عن رفضه واستيائه الشديد وإنكاره البالغ لما حدث من اعتداء علي بعض المساجد والمنابر ، ومن ادعاء البعض أنهم مخولون في إقامة الحدود. ويعلن المجمع أن هذه التصرفات محرمة شرعًا ، ومجرمة عرفًا وقانونًا ، ويناشد المسئولين أن يتصدوا لهؤلاء المعتدين وألا يمكنوهم من تحقيق أهدافهم ، وأن يحولوا بينهم وبين ما يريدون. والله الموفق والهادي إلي سواء السبيل ». خلط الأوراق والمفاهيم إن الذين امتشقوا الفئوس والمعاول في فبراير / مارس 2011 لهدم الأضرحة في أربع محافظات مصرية ، قد استغلوا الفوضي التي عمت البلاد منذ 25 يناير 2011 ، للخروج علي النظام العام ، وقلقلة أمان العباد ، مدعين لأنفسهم مرجعية إسلامية اصطنعوها لا تتفق والإسلام ، واستباحوا بها ترويع مصر والمصريين في أمانهم وفي معتقداتهم وفي حرمة موتاهم ، خلافًا للشرع والقانون ، ظانين أن مفاتيح الإسلام في أيديهم أو بيد من أوحوا إليهم وحرضوهم علي القيام بهذا العمل المؤسف الضرير. ومن المؤسف أن يجري هذا الجنوح في بلد الأزهر الشريف ، وأن يجترئ علي هذا التخريب كل من ظن بنفسه قدرة علي استنباط أحكام الإسلام ، وأن ينتقل بما يراه من موقع الرأي إلي مرحلة القرار والفعل والتنفيذ ، فيحل نفسه في ضربة واحدة محل الأزهر ومحل الدولة ومحل المصريين ، ويحمل فكره علي كاهله ومعه فأسه ومعوله ، ليعمل الهدم في الأضرحة ، وينتهك حرمة الأموات في قبورهم ، غير مبالٍ بأن هذه جريمة يعاقب عليها القانون ! هدم مراقد آل البيت ! مع أن من اندفعوا لهدم الأضرحة ، ليسوا من أهل الذكر الذين نص القرآن المجيد علي الرجوع إليهم ، ورغم أن بيان الأزهر الشريف صاحب المرجعية الأولي في الإسلام ، جاء واضحًا قاطعًا في رفضه واستيائه وإنكاره البالغ لهذا العمل ، وفي إيضاح أن هذه التصرفات محرمة شرعًا ، ومجرّمة عرفًا وقانونًا ، ولم يكد ينصرم العام ، حتي قدم المجلس الأعلي لرعاية آل البيت طلبًا إلي المسئولين لعرضه علي الأزهر الشريف ، متشكيًا من هدم مراقد للأولياء ولبعض آل البيت ، وطالبًا إعادة بناء المراقد التي هدمت ، وتم عرض هذا الأمر علي لجنة التعريف بالإسلام من لجان مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف ، فكتبت اللجنة مذكرة أنكرت فيها هذه الأعمال ، وإن خشيت من أن إعادة بناء المراقد التي هدمت سوف تؤدي إلي حدوث فتن كبيرة !! مجمع البحوث الإسلامية ومبادرة شيخ الأزهر عرض علينا الأمر بمذكرة اللجنة ، في مجمع البحوث الإسلامية ، بجلسته الخميس الثالث من ربيع الأول سنة 1433ه الموافق 26 من يناير 2012م ، وبادر فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر فأبدي أنه لا يصح القعود عن واجب إعادة بناء ما هدم من المراقد لخوف أو خشية ، وأنه يتعين محاسبة الذين هدموا هذه الأضرحة بالإضافة إلي وجوب إعادة بنائها ، وأبدي فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم أن هدم هذه المراقد غير جائز شرعًا ، واستدل بمقام رسول الله عليه الصلاة والسلام وضريحه ، فهو مبني في عهد الخلفاء الراشدين ، وشهده أبو بكر وعمر قبل أن يدفنا فيه ، وشهده عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين ، وأن الصحابة الكرام الذين أقروا جميعًا هذا البناء ، هم الذين قال فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام : » عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ ».. وأشار فضيلته إلي كتابٍ ضافٍ قرأه في شرعية المراقد والأضرحة لفضيلة الشيخ محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية تحت عنوان : » مراقد آل البيت » بيّن فيه بالأدلة الشرعية مشروعية هذه المراقد والأضرحة ، ومن ثم فليس للسلفيين ولا لغيرهم أن يعتدوا علي مراقد الأولياء خروجًا علي رأي جمهور فقهاء المسلمين. وأضاف فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر ، أن الإمام أحمد بن حنبل المعتبر عند أهل السنة والسلفيين ، له مرقد بالعراق تعلوه قبة ، ولم يعرض له أحد بسوء . وتحدث فيمن تحدثوا ، فضيلة الأستاذ الدكتور محمد المختار المهدي ، فأبدي أن هذه الأعمال لم تقتصر علي المراقد الموجودة في مصر فقط ، وأشار إلي أن إحدي الفضائيات الليبية بثت أن هناك من هؤلاء من أحضروا معدات ثقيلة وضربوا بها مقابر بعض العلماء ، وأخرجوا الجثث التي بها والتي بلغت ثلاثًا وثلاثين جثة ، وألقوا بها في الشوارع ، وتساءل فضيلته : أليس هذا نبشًا للقبور »؟!!