أسعار الحديد والأسمنت اليوم 11 يونيو.. عز يتراجع والاستثماري ب 38 ألف    تعرف على التأخيرات المتوقعة لبعض القطارات اليوم بالسكة الحديد    أستاذ اقتصاد: الاتحاد الأوروبي يولي اهتماما بمصر كداعم أساسي ومهم    تباين أسعار «العملات العربية» في بداية تعاملات اليوم    المقاومة العراقية تعلن استهداف إيلات بالطيران المسير    موسكو: تعليق اتفاقية التعاون الشامل بسبب مشاكل مع الشركاء الإيرانيين    انتشال عدد من الشهداء من تحت أنقاض منازل استهدفها الاحتلال بمدينة غزة    وزيرة التنمية الألمانية: هناك تحالف قوي خلف أوكرانيا    موعد مباراة منتخب مصر القادمة في تصفيات كأس العالم 2026 والقنوات الناقلة    عبد العال: تغييرات حسام حسن تأخرت كثيرًا أمام غينيا بيساو    الأهلي يستأنف تدريباته استعدادا لمواجهة فاركو    الطقس اليوم الثلاثاء في مصر.. بداية موجة شديدة الحرارة والعظمى بالقاهرة 38    أحدهم مجهول الهوية.. مصرع 3 أشخاص وإصابة 2 آخرين في حادث سيارتين بأسيوط    موعد ومكان تشييع جنازة وعزاء الفنانة مها عطية    عصام السيد: وزير الثقافة في عهد الإخوان لم يكن يعرفه أحد    عصام السيد: تغيير الهوية سبب ثورة المصريين في 30 يونيو    8 نصائح من «الإفتاء» لأداء طواف الوداع والإحرام بشكل صحيح    عالم أزهري: دعاء «أهل الكهف» مفتاح الفرج والتوفيق من الله.. ويحقق المعجزات    دعاء اليوم الخامس من ذي الحجة.. «اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك»    شغل في القاهرة.. بحوافز وتأمينات ورواتب مجزية| اعرف التفاصيل    تراجع محدود في أسعار الفراخ اليوم 11 يونيو.. والبيض مولع    تراجع أسعار الذهب الثلاثاء 11 يونيو 2024    حكم الشرع في ارتكاب محظور من محظورات الإحرام.. الإفتاء توضح    دراسة ترصد زيادة كبيرة في معدلات تناول المكملات اللازمة لبناء العضلات بين المراهقين في كندا    ذاكرة الكتب.. كيف تخطت مصر النكسة وبدأت حرب استنزاف محت آثار الهزيمة سريعًا؟    استشهاد 4 فلسطينيين وإصابة 8 آخرين في الضفة الغربية    عيد الأضحى 2024.. الإفتاء توضح مستحبات الذبح    مصطفى كامل يتعرض لوعكة صحية خلال اجتماع نقابة الموسيقيين (تفاصيل)    آبل تطلق نظارات الكمبيوتر فيجن برو في السوق الألمانية    احتفالا بعيد الأضحى، جامعة بنها تنظم معرضا للسلع والمنتجات    أيمن يونس: لست راضيا عن تعادل مصر أمام غينيا بيساو.. وناصر ماهر شخصية لاعب دولي    عيد الأضحى في تونس..عادات وتقاليد    عمرو أديب: مبقاش في مرتب بيكفي حد احنا موجودين عشان نقف جنب بعض    إيلون ماسك يهدد بحظر استخدام أجهزة "أبل" في شركاته    صحة الفيوم تنظم تدريبا للأطباء الجدد على الرعاية الأساسية وتنظيم الأسرة    مصر ترحب بقرار مجلس الأمن الداعي للتوصل لوقف شامل ودائم لإطلاق النار في غزة    تعليق ناري من لميس الحديدي على واقعة تداول امتحانات التربية الوطنية والدينية    وزراء خارجية "بريكس" يؤيدون منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة    بعد 27 عاما من اعتزالها.. وفاة مها عطية إحدى بطلات «خرج ولم يعد»    عيد الأضحى 2024.. إرشادات هامة لمرضى النقرس والكوليسترول    الحق في الدواء: الزيادة الأخيرة غير عادلة.. ومش قدرنا السيء والأسوأ    بعد تصريحاته المثيرة للجدل.. إبراهيم فايق يوجه رسالة ل حسام حسن    تحذير عاجل ل أصحاب التأشيرات غير النظامية قبل موسم حج 2024    «جابوا جون عشوائي».. أول تعليق من مروان عطية بعد تعادل منتخب مصر    حازم خميس يكشف كواليس التحقيق مع رمضان صبحي في منظمة مكافحة المنشطات    أحمد عبدالله محمود: «الناس في الشارع طلبوا مني أبعد عن أحمد العوضي» (فيديو)    التحقيق في إصابة 4 أشخاص في حريق مبنى على طريق إسكندرية مطروح الساحلي    قصواء الخلالي: وزير الإسكان مُستمتع بالتعنت ضد الإعلام والصحافة    إبراهيم عيسى: طريقة تشكيل الحكومة يظهر منهج غير صائب سياسيا    رئيس خطة النواب: القطاع الخاص ستقفز استثماراته في مصر ل50%    بالصور.. احتفالية المصري اليوم بمناسبة 20 عامًا على تأسيسها    منتخب السودان بمواجهة نارية ضد جنوب السودان لاستعادة الصدارة من السنغال    وفد من وزراء التعليم الأفارقة يزور جامعة عين شمس .. تفاصيل وصور    «شيلنا من دماغك».. نجم الزمالك السابق يفتح النار على حسام حسن    وزيرة الثقافة تفتتح فعاليات الدورة 44 للمعرض العام.. وتُكرم عددًا من كبار مبدعي مصر والوطن العربي    هل تحلف اليمين اليوم؟ الديهي يكشف موعد إعلان الحكومة الجديدة (فيديو)    الاستعلام عن حالة 3 مصابين جراء حادث مروري بالصف    عالم موسوعي جمع بين الطب والأدب والتاريخ ..نشطاء يحييون الذكرى الأولى لوفاة " الجوادي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام والدولة المدنية
بقلم‏:‏ عبد الرحيم علي

الحلقة الأولي: الطاعة‏,‏ في الثقافة العربية‏,‏ فضيلة الفضائل‏,‏ والضمان الأكبر لاستقرار المجتمع وتماسكه‏,‏ وهي وفق هذا المنظور صالحة لكل زمان ومكان‏
مثل هذه الفضيلة الراسخة‏,‏ التي تتكيء علي مفهوم ديني‏,‏ وتستهدف المصالح الدنيوية ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمثابة الداء العضال الذي يفضي إلي شلل العقل‏,‏ ويقود الي العجز عن الإبداع والتجديد ويعرقل
كل رغبة في التفكير الحر المستقل‏,‏ وينتهي بنا إلي الاستسلام
السلبي لمتغيرات الواقع المعقد الذي لا يكف عن التغيير‏.‏إن الأنظمة الشمولية الديكتاتورية المتسلطة جميعا‏,‏ مع اختلاف النشأة والفكر الذي يحكمها‏,‏ تريد مواطنا مطيعا خائفا خاضعا لكل ما هو موروث جامد‏,‏ وكارها لكل ما هو جديد متجدد‏.‏
من المنطقي أن يقود الجمود‏,‏ والإعراض عن التجديد‏,‏ والتشبث بكل ما هو تقليدي استاتيكي‏,‏ إلي حالة فكرية خطيرة‏,‏ تتجلي أهم مظاهرها في الاعتقاد اليقيني بامتلاك الحقيقة المطلقة والصواب الذي لا يداخله الشك‏,‏ وهو إيمان يقترن بالماضي وحده‏,‏ ويتعلق بالأفكار القديمة مهما تنأي عن روح العصر وتتناقض مع إيقاعه المختلف‏.‏
مناقشة قضية مهمة مثل حرية الرأي والتعبير في الإسلام تستدعي التوقف أمام بعض الإشكاليات التي يتجاوزها من يقنعون بالظاهر السطحي‏,‏ ويقفزون إلي النتائج التي يرغبونها ويريدون البرهنة عليها‏,‏ دون نظر إلي المقدمات والجذور والممارسات المتراكمة عبر قرون مضت إلي أيامنا المعاصرة‏.‏
الإشكالية الأولي‏:‏
تتعلق بالتداخل بين النظري والعملي في التعامل مع التراث الإسلامي‏,‏ ففي نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وهي الأساس النظري ما يتيح القول بأن الإسلام يعلي من شأن الإنسان وحقوقه‏,‏ ويتيح حرية التعبير دون قيود‏.‏ وفي المقابل‏,‏ فإن التاريخ الإسلامي وممارسات المسلمين‏,‏ تقدم سلوكا عمليا يختلف جذريا عن ذلك الإطار النظري المثالي‏.‏ وفي هذا السياق‏,‏ يؤكد بعض الباحثين أن الإسلام سابق للمواثيق الدولية الحديثة التي تدعو إلي حقوق الإنسان وحريته في التعبير‏,‏ لكن هؤلاء يستندون في أحكامهم علي قراءة النصوص وحدها‏,‏ بمعزل عن السياق التاريخي الذي يفرز الضد‏,‏ ويشير إلي غلبة الممارسات التي لا تمت بصلة إلي القرآن والسنة‏.‏
الإشكالية الثانية‏:‏
تتمثل في ضرورة الانتباه إلي التمييز بين حرية التعبير في إطار الالتزام الديني‏,‏ وحرية التعبير في إطارها العام الذي يتعلق بالدنيا وشئونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية‏.‏
حرية التعبير قد تعني الحق في الاجتهاد والاختلاف من منطلق ديني صرف‏,‏ ولكن إطلاق الحق يصطدم بالكثير من المعوقات التي تقيد الحرية موضوعيا وتضع مرجعية مقدسة لا ينبغي تجاوزها‏,‏ ولا يمكن إهمالها أو إهدار خطورتها‏.‏
ومن هنا فإن غير المسلمين‏,‏ ومن خلال استقرائهم لمعطيات التاريخ الإسلامي‏,‏ قد يذهبون إلي القول بأن مفهوم حرية التعبير في الإسلام إنما يعني حق المسلمين وحدهم في اعتناق رؤي مختلفة تنم عن تباين فهمهم للدين واجتهادهم في التأويل علي أساس الانتماء إلي الإسلام‏,‏ وبذلك فإن الحق في التعبير ليس متاحا للجميع‏,‏ ولا يعني تجاوز الديني إلي الدنيوي‏.‏
الإشكالية الثالثة‏:‏
تتجسد في القراءة الانتقائية غير الموضوعية‏,‏ التي يلجأ إليها كثير من أنصار الإسلام وخصومه‏,‏ فكل فريق يقرأ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ويفسرها كما يحلو له‏,‏ وكل فريق يبحث عن دليل لإثبات وجهة نظره والانتصار لها‏,‏ ولا يبالي كلا الفريقين بما يختارون أوبما يهملون‏,‏ المهم هو البرهنة علي صواب الرؤية المراد إثباتها والتدليل عليها‏.‏
دراستنا هذه تسعي إلي التعرف الموضوعي علي مفهوم حرية الرأي والتعبير في الإسلام باعتباره الركيزة الأساسية التي بدونها تسقط كل فروع الدولة المدنية ومدعيها‏,‏ وذلك في إطار اجتهاد عقلاني‏,‏ يعي خطورة وأهمية الإشكاليات الثلاث التي أشرنا إليها آنفا‏.‏ وفي هذا السياق‏,‏ تضم الدراسة ثلاثة أقسام‏.‏
أولا‏:‏ القرآن وحرية الرأي والتعبير‏.‏
ثانيا‏:‏ سنة الرسول‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وحرية الرأي والتعبير‏.‏
ثالثا‏:‏ حرية الرأي والتعبير في الفكر الإسلامي‏.‏
وغاية ما يأمله الباحث أن يكون اجتهاده نافعا في تسليط الضوء علي قضية خطيرة‏,‏ تتعلق بالفكر الإسلامي من ناحية‏,‏ وهو الذي يتعرض لكثير من سوء الفهم من قبل كثير من الجاهلين به والمحسوبين عليه‏,‏ خاصة أولئك الذين رفعوا شعاراته زورا وبهتانا في محاولة للمرور عبرها إلي ما يخططون له‏,‏ وهو الدولة الدينية‏,‏ وتتعلق بواقع المسلمين ومستقبلهم من ناحية أخري‏,‏ من منطلق أنهم جزء من المنظومة الإنسانية الشاملة‏.‏
قضايا جوهرية‏:‏
يهدف هذا التمهيد إلي مناقشة بعض المصطلحات والقضايا الجوهرية‏,‏ التي يري الباحث أن الوعي بأبعادها يمثل مدخلا لاغني عنه‏,‏ من أجل الإدراك الصحيح المتكامل لمفهوم حرية الرأي والتعبير في الإسلام‏:‏
مكانة الإنسان في الإسلام
ثنائية الجبر والاختيار
معني الاجتهاد وأهميته
مكانة الإنسان في الإسلام‏:‏
إذا كان حق الإنسان في التعبير الحر عن آرائه وأفكاره ومعتقداته مطلبا لاغني عنه ولا تفريط فيه‏,‏ كما تدعو مفاهيم وقيم العصر الحديث‏,‏ فإن الإحاطة الواعية الموجزة بنظرة الإسلام إلي الإنسان‏,‏ تبدو ضرورية قبل التطرق إلي مناقشة موقف الإسلام من حرية الرأي والتعبير‏.‏
ينظر القرآن الكريم إلي الإنسان علي اعتبار أنه قيمة غالية ثمينة‏,‏ فهو خليفة الله علي الأرض‏,‏ والمسئول عن تحمل الأمانة الثقيلة التي لا تطيقها الكائنات والمخلوقات الأخري‏:‏
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعملون‏(‏ البقرة‏:30)‏
لقد وردت مفردة الإنسان في عشرات من الآيات القرآنية‏,‏ وكثيرة هي الدراسات التي توقفت أمام صورة الإنسان في القرآن الكريم‏(‏ عباس محمود العقاد‏:‏ الإنسان في القرآن‏,‏ دار الهلال‏,‏ القاهرة‏,1966).‏ لا تتسع المساحة هنا لتقديم عرض تفصيلي للجوانب المختلفة عن طبيعة الإنسان في القرآن‏,‏ ولكن الركائز المهمة لهذه الصورة‏:‏
‏1‏ الإنسان خليفة الله علي الأرض‏.‏
‏2-‏ وهو المسئول عن إعمار الكون واستمرار وجوده‏.‏
‏3‏ مثل هذه المهمة الجليلة لا تنافي محدودية الكائن الإنساني‏.‏
‏4-‏ يختلط الخير والشر في أعماق الإنسان‏,‏ فهو ليس ملاكا ولا شيطانا‏.‏
‏5-‏ هذا الاختلاط والتداخل هو ما يجعل من الإنسان كائنا متفردا‏,‏ ذا إرادة وقدرة علي التمييز بين الخير والشر‏.‏
الإنسان مجبول علي الفساد والإفساد وسفك الدماء‏,‏ والإنسان وهذا سر عظمته وتميزه يمتلك التي تتيح له أن يسعي إلي الإرتقاء والسمو‏,‏ ولابديل عن امتلاكه للأدوات التي تتطلبها الإرادة‏:‏ إعمال العقل‏,‏ والقدرة علي التعبير‏,‏ والحق في إبداء الآراء المخالفة للسائد والشائع‏.‏
لا يمكن‏-‏ منطقيا أن يكون خليفة الله علي الأرض عرضه للاضطهاد والظلم والقهر والقمع والكبت‏,‏ والقرآن الكريم يمنحه ما يستحق من الاحترام والتقدير والتبجيل‏,‏ لكن المشكلة فيمن يفهمون القرآن ويفسرونه ويحولون أحكامه الإلهية السامية إلي دولة وسلطان وسياسة قوامها المصلحة والمنفعة‏.‏
المحافظون المتزمتون‏,‏ يدعون إلي الأخذ بالنص الحرفي للعقيدة بلا تصرف‏,‏ ولايعترفون إلا بالأوضاع التي وردت في ذلك النص والحلول التي أتي بها لهذه الأوضاع‏.‏ ومن الواضح أن هذا الموقف يؤدي إلي ايجاد هوة سحيقة‏,‏ وازدواجية عميقة‏,‏ بين المصدر الذي يستمدون منه أفكارهم ويبنون عليه تصرفاتهم‏,‏ وبين الظروف الفعلية التي يعيشون فيها‏.‏ وتنعكس هذه الازدواجية بوضوح علي إخفاقهم في التصدي لمشكلات العصر‏,‏ ومخاطبتهم الجماهير‏,‏ والأجيال الجديدة بوجه خاص‏,‏ بلغة يصعب أن نجد لها انطباقا علي الواقع‏.(‏ د‏.‏ فؤاد زكريا‏:‏ الصحوة الإسلامية في ميزان العقل‏,‏ ص‏110)‏
المفارقة‏,‏ التي تستحق الاهتمام والتأمل‏,‏ أن النص القرآني يتسع للكثير من الحقوق التي لا يقر بها من يعتقدون أنهم أوصياء علي الإسلام ومحتكرون لفهمه واستنباط أحكامه وشرائعه‏.‏
ثنائية الجبر والاختيار‏:‏
الجبر والاختيار‏..‏من القضايا التي شغلت الكثير من فقهاء الإسلام علي مر العصور‏,‏ وانقسموا حولها الي فريقين‏:‏ فريق يقول إن الإنسان مجبر‏..‏أي مسير لاحيله له ولا إرادة ولا اختيار‏,‏ لأنه محكوم بما حددته له الإرادة الإلهية‏.‏ وفريق يقول إن الإسلام يعلي من قيمة العقل والتبصر‏,‏ والإنسان يجني ثمار أعماله واختياراته في الدنيا والآخرة‏.‏
يقول الشيخ محمد الغزالي‏:‏ لقد شاء الله لحكمة لانعلمها أن يخلقنا ويكلفنا‏,‏ وقال في وضوح‏:‏الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفورالملك‏:2‏ فجاء من يزعم أن الحياة رواية تمثيلية خادعة‏!‏ وأن التكليف أكذوبة‏!‏ وأن الناس مسوقون الي مصايرهم المعروفة أزلا طوعا أو كرها‏!‏ وأن المرسلين لم يبعثوا لقطع أعذار الجهل‏,‏ ومنع الاحتجاج المرفوض‏,‏ بل المرسلون خدعة تتم بها فصول الرواية أو فصول المأساة‏..!(‏ محمد الغزالي‏:‏ السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص‏172)‏
والواقع أن عقيدة الجبر تطويح بالوحي كله‏,‏ وتزييف للنشاط الإنساني من بدء الخلق الي قيام الساعة‏,‏ بل هي تكذيب لله والمرسلين قاطبة‏..‏ ويواصل الغزالي‏:‏ كل ميل بعقيدة القدر الي الجبر فهو تخريب متعمد لدين الله ودنيا الناس‏,‏ وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهونون من الإرادة البشرية‏,‏ ومن أثرها في حاضر المرء ومستقبله‏,‏ وكأنهم يقولون للناس‏:‏ أنتم محكومون بعلم سابق لافكاك منه‏,‏ ومسوقون الي مصير لادخل لكم فيه فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا عن الخط المرسوم لكم مهما بذلتم‏!‏
إن هذا الكلام الرديء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا‏,‏ ولا اقتداء دقيق بسنة نبينا‏,‏ إنه تخليط قد جنينا منه المر‏..!!‏ المرجع السابق ص‏176‏ إن القراءة الواعية للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة تقودنا الي مجموعة من المباديء العامة التي تحكم نظرة الإسلام الي حرية الرأي والتعبير‏,‏ وهي مباديء يمكن استنباطها من حقيقة أن الإنسان حر ذو إرادة‏,‏ وأنه ليس محكوما بالإجبار والجبر‏:‏
إن الإيمان والكفر قضية شخصية لاتهم إلا صاحبها‏,‏ بمعني أنها ليست من القضايا التي تندرج تحت سلطة النظام العام‏,‏ وبالتالي فلا تدخل ولا إكراه عليها من أي جهة
إن الرسل ليسوا إلامبشرين ومبلغين‏,‏ ليس لهم سلطة الإكراه علي أحد‏.‏
إن الهداية إنما هي من الله وطبقا لمشيئته‏,‏ والأنبياء أنفسهم لايمكلون وحدهم هداية الناس‏.‏
إن الاختلاف والتعدد بين البشر مما أراده الله‏,‏ ومما يفصل فيه يوم القيامة‏,‏ وأن الإسلام يؤمن بجميع الرسالات السابقة ويدعو الي احترام معتنقيها وعدم المساس بحريتهم سواء في الاعتقاد أو الدعوة إلي مباديء عقائدهم شرط ألا يفتنوا المسلمين عن طريق استخدام القوة للتحول عن دينهم الذي ارتضوا‏.‏
إنه لايوجد عقاب دنيوي علي ترك الإنسان‏(‏ أي إنسان‏)‏ لدينه والتحول الي دين آخر‏(‏ المزيد من التفاصيل في ثنايا الدراسة‏,‏راجع‏:‏ جمال البنا‏:‏ حرية الفكر والاعتقاد في الإسلام ص‏7)‏
لكن‏:‏ ما الذي أوصل المجتمع الإسلامي إلي ماوصل اليه من تعصب أعمي‏,‏ وتطرف مذموم أصاب الأمة الإسلامية بجمود فكري لا حدود له‏,‏ أصبح معه القبول بالاستبداد السياسي‏,‏ وتقديس الشخصيات التاريخية‏,‏ والأفكار التي تدعو إلي قهر الآخر وإجباره علي اعتناق فكر بعينه‏,‏ هي البضاعة السائدة في مجمل تراثنا الثقافي والفكر المعاصر؟ غلق باب الاجتهاد أمام العقل المسلم هو الذي أدي بنا إلي هذه الحالة المأسوية التي ندفع ومازال يدفع ثمنها الملايين من أبناء هذه الأمة المحبطة‏.‏
من هنا‏,‏ كان لابد لنا ونحن نمهد لهذا البحث‏,‏ عن حرية الرأي والتعبير في الإسلام‏,‏من توضيح لمعني وأهمية الاجتهاد من منظور إسلامي‏.‏
معني الاجتهاد وأهميته‏:‏
الاجتهاد‏,‏ الذي أمرت به نصوص عديدة من القرآن والسنة‏,‏ معناه بذل الجهد العقلي والفكري في التعرف علي الحكم الشرعي لما يعرض للفقيه أو المفتي أوالقاضي من مسائل‏.‏
وأصل الاجتهاد مقرر في الشريعة بفعل النبي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ نفيه‏,‏ وبأمره أصحابه بالاجتهاد في حضرته‏,‏ وبإقراره اجتهاد من اجتهد منهم في غيبته‏,‏ ووقائع ذلك مذكورة بالتفصيل في كتب أصول الفقه وفي كتب تاريخ التشريع وفي كتب عديدة خصصها مؤلفوها لموضوع الاجتهاد دون سواه‏.‏
وفي النصف الثاني من القرن الرابع الهجري‏,‏ نشأ القول بمنع الاجتهاد وعرفت المسألة باسم‏:‏ قفل باب الاجتهاد وقيل بعد ذلك بوجوب التقليد مطلقا دون تحديد من الذي يجب تقليده من العلماء‏...‏ثم تطور الأمر إلي القول بوجوب تقليد واحد من الأئمة الأربعة‏.‏ وعلي الرغم من أن مسألة القول بقفل باب الاجتهاد لم يرد فيها نص من الكتاب ولا السنة فقد لجأ إليها القائلون بها من العلماء لأسباب من أهمها‏:‏
تدوين المذاهب وتكامل نصوص مؤسسيها وأتباعهم‏.‏
الضعف السياسي الذي أصاب هيكل الدولة الإسلامية فتفتت الي دويلات متنافسة
تولية القضاء لأتباع المذاهب فشاع تقليدها طعما في الولايات الدنيوية‏.‏
أهم من ذلك كله أن العلماء وجدوا من لم يتأهلوا للاجتهاد يدعون أنهم مجتهدون ويفتون الناس بآرائهم‏,‏ فأرادوا سد الطريق أمام هؤلاء المدعين فقالوا بقفل باب الاجتهاد‏,‏ بل قالوا بأن هذا محل إجماع فلم يكن الذين قالوا بمنع الاجتهاد من أعداء الأمة أو أعداء الدين كما قد يفهم البعض ولكنهم كانوا فقهاء أرادوا تحقيق هدف نبيل لكنهم أخطأوا الطريق إليه‏.‏
أرادوا منه أولئك المدعين من إضلال العباد باجتهادهم المزعوم‏,‏ وأخطأوا بادعاء ماليس لهم أن يدعوه‏(‏ د‏.‏ محمد سليم العوا‏:‏ الفقه الإسلامي في طريق التجديد‏,‏ص‏25‏
ولذلك‏,‏ فإن الصحيح الذي يذهب اليه الفقه العصري‏,‏ بلسان أعلامه وأقلامهم‏,‏أن الاجتهاد باق مابقي الإسلام نفسه لايملك أحد منع من استكمل التأهل له من ممارسته‏.‏
ومن أعجب الآفات التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية اليوم آفة طلب كل ذي رأي أن يكون له الحق والحرية في إبداء رأيه وإعلانه والدعوة إليه‏,‏ ثم حجره هو نفسه علي الآخرين أن يتمتعوا بمثل هذا الحق وأن يمارسوا مثل تلك الحرية‏.‏
والإيمان بالحق في الاجتهاد يقضي علي هذه الآفة ويحاصرها ويمنع انتشارها ويئد مضارها الكثيرة‏,‏ وأخطرها نشوء أجيال من المتعصبين الذين لايرون إلا رأيهم ولايسلمون إلا بحقوق أنفسهم‏,‏ وهؤلاء هم وقود الغلو‏(‏ الذي يسميه الناس تطرفا‏)‏ الذي يقضي في نهاية مطافه علي الأخضر واليابس من حياتنا الفكرية والثقافية‏(‏ المرجع السابق‏,‏ ص‏29)‏ هل يعقل أن يظل المسلمون أسري ما قاله علماء أجلاء في القرون السابقة في وصف نظم الحكم التي كانت سائدة لديهم وهي كلها نظم فردية محورها هو الحاكم الذي تدين له بالطاعة‏,‏ وتستمد منه القدوة‏,‏ سائر السلطات والهيئات والأفراد؟
وهل يعقل أن يظل المسلمون يحتكمون ويرجعون في علاقاتهم بغير المسلمين من مواطنيهم الي أفكار وآراء صيغت لتناسب حال الحرب التي كانت سائدة في وقت ما‏,‏بعد أن مضت علي الحياة المتآخية بين الفريقين قرون؟
إن النصوص الصريحة واجبة الإتباع‏.‏
وإن هدف الاجتهاد هو تطبيق هذه النصوص في الزمن الذي يقع الاجتهاد فيه‏(‏ نفسه‏,‏ ص‏142)‏ إن في الإسلام سماحة ويسرا‏,‏ تنطق بهما آيات الكتاب الكريم‏,‏ وتجسدهما سيرة النبي العظيم وتقوم عليهما شرائعه وشعائره وآدابه‏..‏إن الإيمان لايلغي دور العقل‏..‏وشمول الإسلام لا يعني أن النصوص تعالج كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة‏,‏ فذلك فضلا عن استحالته غير مقبول في ظل ماتركه الإسلام للعقل من حرية الحركة وواجب الاجتهاد‏..‏وخلود الإسلام لايعني جمود شريعته وإنما يعني قدرتها علي التجدد والإبداع لملاقاة حركة الحياة وتغير أشكالها وأصالة المسلمين لاتعني عزلتهم عن الناس وانغلاقهم علي أنفسهم‏,‏ وإنما تعني الاتصال بالناس والعيش معهم‏.‏
إن الشريعة غير الفقه‏,‏ كما أن الدين غير التدين‏..‏فالشريعة هي مجموعة أحكام الله تعالي الثابتة عنه وعن نبيه‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ والتي تنظم أفعال الناس‏..‏ومصدرها كتاب الله وسنة نبيه‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أما الفقه فهو عمل الرجال في الشريعة‏,‏ استخلاصا لأحكامها وتفسيرا لنصوصها وقياسا علي تلك النصوص فيما لم يرد فيه نص‏,‏ وطلبا للمصلحة فيما يعرض من أمور السياسة‏,‏ وإذا كانت الشريعة حاكمة كما يقال‏..‏فإن الفقه محكوم بكل مايحكم عمل الرجال وسلوكهم في الجماعة‏.‏
والطاعة الواجبة علي المسلم إنما هي طاعة الشريعة‏..‏وليست طاعة الفقه ورجاله‏..(‏د‏.‏ أحمد كمال أبو المجد‏:‏ حوار لامواجهة ص‏89)‏
إن مجال الاجتهاد في التشريع مجال واسع وكبير‏,‏ لأن مالم تتناوله النصوص كثير بالقياس إلي ماتناولته‏.‏
وليس ذلك كما يتوهم البعض قدحا في الشريعة ولا هو نيل من قول الله تعالي‏(‏ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ‏)‏ بل هو آية الحكمة ودليل الكمال في شرع الذي خلق الإنسان ويعلم ماتوسوس به نفسه والذي يعلم وله المثل الأعلي أن العالم يتطور‏,‏ وأن أشكال الحياة تتغير‏,‏ وأن مشاكل الناس تتبدي في قوالب جديدة‏..‏لأنه سبحانه كما أودع ناموس الحركة في الكون والمجتمع‏,‏ أودع نعمة العقل في الرؤوس ليلاقي شرعة الحركة بمثلها وليستجيب للتطور في الحياة بتطويرفي الأحكام‏,‏ وهو وحده الكفيل بحماية الشريعة وتحقيق مقاصدها الدينية‏.‏
الواقعة الاجتماعية هي السند المادي لكل نشاط تشريعي فقهي‏..‏ومعني هذا أن جزءا كبيرا من الاجتهاد يجب أن يتجه الي رصد الظواهر الاجتماعية وفهمها وتحليلها وتصور الحلول التشريعية المختلفة التي تتعامل معها‏,‏ وتحليل النتائج العملية التي تترتب علي كل اختيار فقهي مطروح‏..‏ذلك أن التشريع ليس نظرا فلسفيا ولا رياضة عقلية‏,‏ وإنما هو رعاية لمصالح الناس بسلطان الحكم‏,‏ ولذلك قال الإمام الشاطبي بحق إن التكاليف الشرعية ترجع كلها إلي تحقيق مقاصدها في الخلق‏.‏
وحين يمارس الاجتهاد‏,‏وتعرض علي المشرع والفقيه ورجل السياسة حلول متعددة تقبلها الشريعة الإسلامية وتتسع لها‏,‏ فإن الاختيار حينئذ لابد أن يحكمه فهم الواقع الاجتماعي وتحليل حركته‏,‏ لذلك وجب أن يستقر في ذهن دعاة الإسلام والمنادين بتطبيق الشريعة أن الجهد الفقهي الخالص لابد أن يتممه عمل اجتماعي واسع‏,‏ حتي تأتي ثمرته رحمة حقيقية للناس‏,‏ ومخرجا لهم من الضيق‏,‏ ورفعا للحرج‏(‏ المرجع نفسه‏,‏ ص‏91)‏
ولكن لماذا يحجم علماء الإسلام عن الاجتهاد في العصر الحديث؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.