التعليم العالى: إدراج 15 جامعة مصرية فى تصنيف QS العالمى لعام 2025    «أفضل أعمال العشر الأوائل من ذي الحجة» موضوع خطبة الجمعة اليوم    انخفاض كبير ب«حديد عز» الآن.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 7 يونيو 2024 بالأسواق    عيار 21 اليوم الجمعة 7 يونيو.. كم سجل سعر الذهب في مصر بعد الارتفاع الأخير؟    الحكومة تنفى تقليص مخصصات قطاع الصحة بالموازنة الجديدة 2024/2025    المشاط تبحث مع وزير التنمية الأذري ترتيبات انعقاد اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي في الربع الأخير من العام الجاري    بورصة الدواجن اليوم بعد الانخفاض.. أسعار الفراخ البيضاء والبيض الجمعة 7 يونيو 2024    العمل الدولية: معدل البطالة في قطاع غزة بلغ 80%    بحضور وزير الرياضة.. كواليس ما حدث داخل غرف ملابس منتخب مصر بعد الفوز على بوركينا فاسو    ضبط مخدرات قيمتها 2 مليون جنيه بالإسكندرية    تعليم بنى سويف: الانتهاء من جميع الاستعدادات لعقد امتحانات الثانوية العامة    عايدة فهمي ناعية المخرج محمد لبيب: رحل الخلوق المحترم    يا رايحين للنبي الغالي.. الأغنية المصرية على موعد دائم مع بهجة الحج    اليوم.. سلوى عثمان تكشف مواقف تعرضت لها مع عادل إمام في برنامج بالخط العريض    بعد رؤية هلال ذي الحجة.. موعد وقفة عرفات 2024 وأفضل الأعمال المستحبة    في ختام فعاليات المؤتمر الدولي الثالث والمعرض الطبي الإفريقي "صحة" إفريقيا" Africa Health ExCon 2024    صحة مطروح تدفع بقافلة طبية مجانية لخدمة أهالي قرية جلالة بالضبعة    صدمته سيارة مسرعة.. الاستعلام عن صحة شخص أصيب فى حادث مروري بالهرم    خلال ساعات.. تعرف على موعد نتيجة الشهادة الإعدادية فى محافظة قنا 2024    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى المنيب دون إصابات    استجابة لأهالي الحي السابع.. إزالة إشغالات مقهى بمدينة نصر    زيلينسكي: الحرب الروسية ضد أوكرانيا نقطة تحول في تاريخ أوروبا    الأيرلنديون والتشيكيون يتوجهون لمكاتب الاقتراع في ثاني أيام انتخابات البرلمان الأوروبي    يونس: أعضاء قيد "الصحفيين" لم تحدد موعدًا لاستكمال تحت التمرين والمشتغلين    محمد صابر عرب: أهم ما نملكه التراث وعملت 20 سنة في إدارة وتطوير مؤسسات ثقافية    وزيرة الثقافة وسفير اليونان يشهدان «الباليه الوطني» في الأوبرا    مسئولة فلسطينية: الموت جوعا أصبح حالة يومية فى قطاع غزة    ضياء السيد: حسام حسن غير طريقة لعب منتخب مصر لرغبته في إشراك كل النجوم    داعية إسلامي: أبواب الخير كثيرة في ذي الحجة ولا تقف عند الصيام فقط    تموين الإسكندرية تشكل غرفة عمليات لمتابعة توافر السلع استعدادا لعيد الأضحى    «الصناعات الهندسية» وجامعة بورسعيد يبحثان تأهيل الطلاب لسوق العمل    علي عوف: متوسط زيادة أسعار الأدوية 25% بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج    إصابة 7 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بالطريق الدائري بالقليوبية    تعرف على فضل صيام التسعة أيام الأوائل من ذي الحجة    المتحدة للخدمات الإعلامية تعلن تضامنها الكامل مع الإعلامية قصواء الخلالي    ذا جارديان: "حزب العمال البريطانى" قد يعلن قريبا الاعتراف بدولة فلسطينية    خلاف داخل الناتو بشأن تسمية مشروع دعم جديد لأوكرانيا    خبراء عسكريون: الجمهورية الجديدة حاربت الإرهاب فكريًا وعسكريًا ونجحت فى مشروعات التنمية الشاملة    صباحك أوروبي.. قانون جديد في بريميرليج.. تدعيمات برشلونة.. ورسالة الخليفي    الإسكان: تم وجارٍ تنفيذ 11 مشروعًا لمياه الشرب وصرف صحى الحضر لخدمة أهالى محافظة مطروح    مداهمات واقتحامات ليلية من الاحتلال الإسرائيلي لمختلف مناطق الضفة الغربية    «الدائرة الإفريقية».. شراكة من أجل المستقبل    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 7 يونيو 2024.. ترقيه جديدة ل«الحمل» و«السرطان»يستقبل مولودًا جديدًا    منتخب السودان يتصدر مجموعة تصفيات كأس العالم على حساب السنغال    الأخضر بكامِ ؟.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري في تعاملات اليوم الجمعة 7 يونيو 2024    تفشي سلالة من إنفلونزا الطيور في مزرعة دواجن خامسة بأستراليا    افتتاح المهرجان الختامي لفرق الأقاليم ال46 بمسرح السامر بالعجوزة غدًا    مفاجأة.. دولة عربية تعلن إجازة عيد الأضحى يومين فقط    الأوقاف تفتتح 25 مساجد.. اليوم الجمعة    رغم الفوز.. نبيل الحلفاوي ينتقد مبارة مصر وبوركينا فاسو .. ماذا قال؟    عيد الأضحى 2024| أحكام الأضحية في 17 سؤال    ساتر لجميع جسدها.. الإفتاء توضح الزي الشرعي للمرأة أثناء الحج    مجلس الزمالك يلبي طلب الطفل الفلسطيني خليل سامح    غانا تعاقب مالي في الوقت القاتل بتصفيات كأس العالم 2026    حظ عاثر للأهلي.. إصابة ثنائي دولي في ساعات    إبراهيم حسن: الحكم تحامل على المنتخب واطمئنان اللاعبين سبب تراجع المستوى    في عيد تأسيسها الأول.. الأنبا مرقس يكرس إيبارشية القوصية لقلب يسوع الأقدس    بمكون سحري وفي دقيقة واحدة .. طريقة تنظيف الممبار استعدادًا ل عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عودة اليسار في أمريكا اللاتينية نتيجة منطقية لتطرف الليبرالية
نشر في الأهرام المسائي يوم 20 - 07 - 2010

فيما يتعلق بالطرف الثاني من المعادلة‏,‏ أي بكراهية الأمريكيين للعرب‏,‏ هناك أسباب عديدة ومركبة‏.‏ أعتقد أن المشاعر الحقيقية السائدة في الولايات المتحدة والغرب عموما ليست مشاعر الكراهية
وإنما الازدراء والنظر باستخفاف لهذه المجموعة البشرية الكبيرة التي تظهر ضعفا استثنائيا في التقدم علي طريق التنمية الحضارية الطبيعية‏,‏ وتعج بالانقلابات والنزاعات والفوضي والفساد وغياب القانون وجمود القيم الاجتماعية والأخلاقية‏.‏ وقد ظهر ذلك جليا في مقالات وكتب وأفلام أمريكية وأوروبية عديدة تظهر غباء العربي وشرهه وانعدام أخلاقه‏,‏ أي تخلفه وضعف المدنية في مجتمعاته‏.‏ لكن الأمر تفاقم بعد ظهور الحركات الارهابية ونقل نشاطاتها إلي الساحة الدولية‏,‏ وتفاقم أكثر بعد أحداث أيلول‏2001‏ وتدمير برجي مركز التجارة العالمي من قبل مجموعات عربية‏,‏ حيث أضيفت إلي مشاعر الاستخفاف والازدراء‏,‏ والنظر إلي العرب كأنهم دون الجماعات البشرية المتمدنة‏,‏ مشاعر جديدة قائمة علي الخوف والكره وعدم الثقة‏,‏ بل والرغبة في الانتقام‏,‏ كما بينت ذلك في نظري حرب العراق‏,‏ وما تفرغ عنها من عمليات تنكيل ومعاملة قاسية ولا إنسانية للسجناء العراقيين وللسكان عموما‏.‏
‏**‏ ولكن هل يمثل فهم أمريكا رغم ذلك فقه الضرورة‏,‏ وهل أصبح الفهم فرض عين علي كل الفعاليات المجتمعية العربية في إطار ارتباط العولمة بالنموذج الأمريكي أم أنه فرض كفاية تقوم به النخب الثقافية؟
‏*‏ غليون‏:‏
بالتأكيد إن فهم أمريكا‏,‏ أو السياسات الأمريكية والمجتمع الأمريكي والثقافة الأمريكية أيضا‏,‏ ضرورة لنا‏,‏ وذلك بصرف النظر عما إذا كانت العلاقات التي تربطنا بهذا البلد علاقات صداقة أو عداء‏.‏ فهي أكبر موطن للصناعة والتقنية والعلم والانتاج الفني والفكري اليوم في العالم‏.‏ ومن لايعرف أمريكا ولا يفهم ما يجري فيها لايمكن أن يتواصل بايجابية مع عالم اليوم‏,‏ لا اقتصاديا ولا سياسيا ولا علميا ولا أدبيا أيضا‏.‏ ونحن عندما نفعل هذا‏,‏ أي نجتهد لنعرف أمريكا ونفهمها‏,‏ لا نفعله لصالح أمريكا‏,‏ ولكن بالعكس لصالحنا نحن‏.‏ فبقدر ما نفتقر إلي هذه المعرفة وذاك الفهم نعرض أنفسنا‏,‏ كما هو الحال اليوم‏,‏ لأن نكون ضحايا أمريكا‏,‏ أي القوة الأعظم العاملة علي الساحة الدولية والتي تنظر إلينا كخراف ضالة تقترح علي العالم أن ترعانا وتأخذ بيدنا‏.‏ نحن في الواقع ضحايا أمريكا اليوم بكل معاني الكلمة‏,‏ لأننا ضحايا جهلنا بأمريكا‏.‏ ولا أقصد من ذلك جهل حكوماتنا بما تريده أمريكا‏,‏ فهم لا يجهلونها‏,‏ وإنما جهل شعوبنا بما تمثله أمريكا‏,‏ كجزء كبير وفاعل من عالمنا الراهن‏,‏ من حضارة وتقدم في جميع ميادين النشاط والانتاج الانساني‏.‏ ما ينقصنا ليس فهم هدف السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط‏,‏ فهذا أمر سهل ويكاد أطفال المدارس الابتدائية يرددونه ويعرفونه عن حق اليوم‏,‏ لمجرد مشاهدة مناظر المذابح الدموية التي تقود إليها هذه السياسة هنا وهناك‏.‏ ما ينقصنا هو معرفة أمريكا العميقة‏,‏ أمريكا المجتمع والنظام والحضارة والانتاج والابداع‏.‏ وللأسف نحن اختزلنا أمريكا في سياستها الامبريالية‏,‏ ولم نسع إلي الذهاب في معرفتنا وتبحرنا أكثر من ذلك‏,‏ ولهذا لم نفهم أمريكا‏,‏ ولهذا أيضا بقيت أمريكا تحكمنا وتتحكم بنا من وراء جميع المظاهر الأخري الخادعة‏.‏
‏**‏ في التفرقة الدقيقة التي قدمتها في كتاباتك وحواراتك بين العصرية والحداثة والعلمانية كيف يمكن أن تعرف أمريكا‏,‏ هل هي دولة عصرية أم دولة علمانية وماهي ثوابت العقل الأمريكي ومتغيراته؟
‏*‏ غليون‏:‏
هي الاثنان‏,‏ إنها دولة عصرية وعلمانية معا‏.‏ لكن لاينبغي أن نفهم بالعصرية أن كل ما في أمريكا عصري‏.‏ كما لا ينبغي أن نفهم من العلمانية صيغة نموذجية ثابتة وواحدة‏,‏ وإنما تسوية خاصة بكل مجتمع تجمع بين الدين والسياسة‏,‏ وتميز حقليهما واحدهما عن الآخر‏,‏ في الوقت نفسه فالقانون ومنظومة الحقوق المطبقة في أمريكا لاتميز بين المواطنين بسبب دينهم أو مذهبهم‏,‏ وتتعامل معهم كمواطنين متساوين‏.‏ لكن تسمح في الوقت نفسه‏,‏ بعكس ما هو الحال في فرنسا مثلا‏,‏ بأن يستخدم مرشح الرئاسة أو النائب الخطاب الديني لتعزيز موقفه الانتخابي‏.‏ وبالمثل لا تمنع الدولة الموظفين المدنيين من ممارسة شعائرهم أو التقيد بها في المؤسسات العامة‏.‏ ولذلك تجد من الطبيعي أن ترتبط الجامعة بكنيسة لتقديم الخدمات الدينية للطلبة مثلا‏.‏ هذه صيغة خاصة نشأت من تطور تاريخي‏,‏ وهي ليست لا أفضل ولا أسوأ من غيرها‏.‏ المهم أن المساواة بين الأفراد مضمونة أمام القانون بصرف النظر عن الدين وأن الدين لايقدم لحامله حسب هذه المنظومة سواء أكان انتماء أم تدينا‏,‏ مزايا خاصة في المنافسة علي مناصب المسئولين‏,‏ علي مستوي الممارسة هناك بالتأكيد تساهل أكبر‏.‏
الدين والسياسة
‏**‏ لماذا عاد الدين إلي المسرح السياسي الأمريكي في العقود الأخيرة‏,‏ وخاصة في فترة رونالد ريجان‏,‏ وهل تري تلك العودة استعادة لمراحل التأسيس الأولي التي كان فيها الدين وخاصة في رؤاه التوراتية لاعبا أساسيا في تشكيل الوعي الأمريكي بالعالم ورسالة أمريكا في قيادة هذا العالم‏,‏ بمعني آخر هل تحولت أمريكا إلي أكبر دولة أصولية في العالم كما يذهب كثير من مفكري اليسار الغربي؟
‏*‏ غليون‏:‏
القول بأن أمريكا تحولت إلي أكبر دولة أصولية في العالم صحيح ربما من حيث عدد الأفراد المنتمين في بلد واحد إلي جماعات دينية أصولية‏,‏ لكن يبقي هذا في مستوي المجتمع‏.‏
أما الدولة الأمريكية فهي ليست دولة أصولية ولا تطبق قانونا مستمدا من ديانة سماوية أو أرضية‏.‏ لاتزال التقاليد الليبرالية التي تأسست عليها أمريكا قائمة فيها وحية ومتينة‏,‏ علي الرغم من التجاوزات العديدة التي ظهرت بعد سيطرة الليبراليين الجدد‏,‏ الذين حاولوا أن يعطوا الليبرالية مسحة دينية أصولية بالفعل‏,‏ أي أن يجعلوا منها عقيدة شاملة وينزعوا عنها سمة البراجماتيكية التي هي في جوهرها‏.‏ وهو ما قاد الحكومة الأمريكية إلي تجريد ما يشبه الحرب الصليبية علي العالم باسم الحرية وفرض القيم الديمقراطية‏.‏ وهذا ما يقصده المفكرون اليساريون عندما يتحدثون عن أصولية أمريكية‏.‏
لكن تجذر الليبرالية الأمريكية وفشل السياسات النيوليبرالية دفع القادة الأمريكيين أنفسهم إلي التراجع عن أوهامهم الشمولية والعودة إلي سياسات أكثر واقعية‏,‏ بل إلي السياسة التقليدية الأمريكية والشرق الأوسط خير دليل علي ذلك‏.‏
‏**‏ ما هي وشائج القربي بين اليمين المسيحي المتطرف وحركة المحافظين الجدد التي انطلقت من قبل الليبرالية في اربعينيات وخمسينيات القرن الماضي لتواجه الحركة الشيوعية؟؟ وكيف تقرأ صدور حركة المحافظين الجدد؟
‏*‏ غليون‏:‏
هناك علاقة وثيقة بالتأكيد فالنيوليبرالية هي ثمرة الدمج بين المسيحية المتصهينة والليبرالية التقليدية والراسخة الجذور في العقلية والفلسفة الأمريكية‏.‏
وهذه العلاقة الخاصة هي التي تفسر ظهورها وولادتها كحركة فكرية‏,‏ لكن انتصارها السياسي‏,‏ أي تحولها من تيار فكري إلي عقيدة نظام سياسي‏,‏ ونجاح زعمائها في بلورة سياسة رسمية أمريكية تنبع من منطلقاتهم الفكرية‏,‏ كل ذلك مرتبط في نظري بانهيار الشيوعية وما أحدثه من فراغ فكري وسياسي معا‏,‏ أي ايديولوجي‏,‏ وبروز الولايات المتحدة‏,‏ في الواقع وليس في الوهم‏,‏ كقوة عظمي وحيدة وواحدة‏,‏ وهي التي تملك وحدها امكانية بلورة أجندة سياسة عالمية وتبلور استراتيجية كونية‏,‏ وفي الرد علي هذه الحاجات‏:‏ أعني وجود أجندة سياسة عالمية واستراتيجية كوكبية برزت النيوليبرالية‏,‏ وتقدمت لتحتل واجهة الايديولوجية السياسية‏,‏ أما النجاح في تحقيق هذه الاجندة‏,‏ وتطبيق استراتيجية كوكبية فهذا موضوع آخر‏,‏ إنه موضوع فشل النيوليبرالية في تحليلاتها أو تحديدها للمشكلات وللمهام المطلوب تنفيذها لضمان تقدم العالم واستقراره‏,‏ وفي تصوراتها للحلول معا‏.‏
‏**‏ يتحدث صامويل هنتنجتون عن أزمتين في أمريكا‏,‏ الأولي صدام حضارات مضطرة إلي خوضه علي أساس ديني ضد الأعداء الجدد الإسلام والصين‏,‏ والثانية أزمة هوية داخلية مهددة من قبل مجموعات عرقية داخلية مثل الهسبانك كيف تقرأ مشروع هنتنجتون‏,‏ وهل يعد خطابه تعبيرا عن أزمة المنتصر؟
‏*‏ غليون‏:‏
هو تعبير عن نشوة الانتصار لا أزمته فقد اعتقد هنتنجتون بالفعل أن مشروع الغرب الاطلسي الليبرالي قد انتصر‏,‏ وأن الحفاظ علي هذا الانتصار يحتاج إلي توحيد الجهود في مواجهة مصادر الخطر الرئيسية لهذه الليبرالية‏,‏ في العالم الإسلامي والصين‏,‏ وجاء المحافظون الجدد ليستكملوا المشروع‏,‏ أو ليطبقوا ما قال به هينتنجتون بصورة ما‏,‏ وهو خوض المعركة الكوكبية ضد مصادر الخطر المحتملة التي ذكرها‏,‏ وبالتأكيد تشكل السيطرة علي الشرق الأوسط من منظور المحافظين الجدد لبنة أساسية من مشروع السيطرة علي العالم‏,‏ ومنع الصين من التحول إلي قوة عظمي أو تأجيل ذلك‏.‏
الديموقراطية
‏**‏ تفرق في كتاباتك بين الليبرالية والديمقراطية وتعيب علي المثقفين العرب الخلط بين المفهومين‏,‏ هل يمكن أن تلقي الضوء علي المفهومين في النموذج الأمريكي؟ أم دولة ضد الديمقراطية كما يقول تشومسكي؟ كيف تقرأ النموذج الأمريكي للديمقراطية؟
‏*‏ غليون‏:‏
الديمقراطية الأمريكية تستند منذ نشوئها علي الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية التي لا تزال فلسفة حية في الفكر الأمريكي‏,‏ ومحور هذه الفلسفة هو الفرد‏,‏ فلا شرعية للدولة ولا للاجتماع السياسي نفسه‏,‏ وبالتالي للسياسة‏,‏ إلا بقدر ما تتيح حريات أكثر لهذا الفرد‏,‏ أي تجعل منه سيدا في كل شيء‏,‏ وصاحب الاختيار الأول‏,‏ يمكن تلخيص ذلك بجملة‏:‏ الدولة في خدمة الحرية الفردية‏,‏ سواء أكانت حرية السوق والتجارة‏,‏ وهي الأساس‏,‏ أو حرية التفكير والتعبير والتجمع والتنظيم‏,‏ المجتمع أساسه الفرد‏,‏ وإذا انتفت حرية الفرد أو قيدت ضعف المجتمع وذهبت حيويته وديناميكيته والمجتمع بالتالي تعاقد أفراد احرار‏,‏ ولا شيء يمكن فرضه عليه ولا ينص عليه في هذا التعاقد سواء أجاء من مصدر ديني أو عرفي‏.‏
هذه الفلسفة التي تعتمد علي الفرد‏,‏ وتراهن علي مبادرته ووعيه والتزامه مشاركته في الشأن العام‏,‏ لم تظهر وتتطور بصورة واضحة وقوية في كل المجتمعات‏,‏ وبالعكس هناك مجتمعات وتجمعات نشأت من حول فلسفات مختلفة‏,‏ نحن منها‏,‏ تركز علي قيم الهوية والتعلق بإرث الماضي‏,‏ وربما الارث الديني بشكل رئيسي‏,‏ وهي تعطي بالفعل للهوية بوصفها صورة للوحدة الجمعية‏,‏ وللتراث وللدين وللتضامن والتكافل الاجتماعي قيمة كبيرة‏,‏ هذا هو الواقع والتاريخ‏,‏ ولا نستطيع اختياره أو تقريره من عندنا‏,‏ نحن مجتمعات ودول لم تولد في حضن فلسفة الفردية‏,‏ ولم تتحول الحرية الفردية فيها إلي معيار رئيسي وحاكم‏,‏ أو متحكم بكل المعايير الأخري‏,‏ نحن مجتمعات يمكن أن يكون فيها لوصل الرحم قيمة أكبر من احترام حرية الفرد واستقلاله واختياراته الخاصة‏,‏ بل ربما كنا من أكثر المجتمعات ولا نزال افتقارا لاحترام حرية الاختيار الفردي والاستقلالية الذاتية‏,‏ فنحن نميل إلي أن نفرض علي أبنائنا التبعية‏,‏ وأحيانا التماهي مع الجمع وعدم التميز ومحو الفردية‏.‏
الديمقراطية بالمقابل ليست فلسفة للوجود الاجتماعي‏,‏ ولكنها تنظيم سياسي لشئون المجتمع والجماعة علي أساس قاعدة التمثيل وحكم الأكثرية‏,‏ وليست هناك حاجة مصيرية أو حتمية لنشر الثقافة والفلسفة الليبرالية‏,‏ كي نطبق قاعدة الديمقراطية في تنظيم الحكم والعلاقات بين القوي الاجتماعية والحاكم والمحكوم‏,‏ وليس من الضروري توقيت قيام الديمقراطية بتعميم فلسفة الليبرالية‏,‏ وهو غير ممكن أيضا وغير محتمل النجاح‏,‏ فالثقافات تنشأ عبر التاريخ وتتطور‏,‏ لكنها لا تفرض بقرارات إرادية‏,‏ ولا يمكن تبديل قيم الجماعات بدعوات ولا بنداءات لذلك قلت إن الديمقراطية مختلفة عن الفلسفة الليبرالية‏,‏ وليس تعميم هذه الفلسفة‏,‏ ولم يكن في أي منطقة من العالم‏,‏ بما في ذلك أوروبا الغربية‏,‏ شرط لنشوئها وبنائها‏,‏ إنما ولدت من التكييف بين متطلباتها السياسية والثقافات القائمة في المجتمعات ومن المؤكد أننا لو وضعنا تعميم الفلسفة الليبرالية شرطا لبناء الديمقراطية في المجتمعات العربية لأخفقنا‏,‏ ولما وصلنا إلي نتيجة نحن نريد من الديمقراطية أن تنظم شئوننا العامة وتساعدنا علي حل نزاعاتنا بوسائل سلمية‏,‏ سياسية وقانونية‏,‏ في مجتمعات تملك ثقافة حقيقية‏,‏ ولها عقلية وفلسفة في الحياة مختلفة عن الفلسفة الليبرالية‏,‏ وليس في مجتمعات فارغة من أي ثقافة‏.‏
ولذلك علينا أن نكيف هذه الديمقراطية مع ثقافتنا‏,‏ وهذا التكيف هو العملية الرئيسية المتعلقة بتطبيقها لانه لا يتعلق بتسوية فكرية‏,‏ ولكن بصراع حقيقي بين القوي الاجتماعية علي تحديد معني الديمقراطية بالضبط والقيم التي ستدافع عنها والأولويات التي ستهتم بها‏,‏ إذا قبلنا بذلك لا تبقي الديمقراطية فكرة نريد فرضها بالدعوة والتبشير علي الآخرين وإنما تفاوض بين أطراف وأعين وأصحاب مصالح وأفكار واعتقادات وقيم‏,‏ علي تطبيق مبادئ العدل والمساواة والحرية الفردية‏,‏ وفي هذه الحالة تصبح الديمقراطية هي الحامل لفردية عربية جديدة شرعية ومشروعة وليست مجرد تعبير عن تمرد عقيم لمثقفين لا يثمر ولا يوصل إلي أي نتيجة‏.‏
‏**‏ هل يمكن اعتبار الولايات المتحدة دولة ديمقراطية بالمعني الكلاسيكي للكلمة؟
‏*‏غليون‏:‏
بالتأكيد هي دولة ديمقراطية ولا يعني ذلك أنه لا يمكن أن تحصل في الدول الديمقراطية تجاوزات للقانون‏,‏ ولا أن الدولة الديمقراطية لا تعتدي علي الدول الاخري‏,‏ أو لا تنهج سياسة أمبريالية‏,‏ الديمقراطيات كلها حتي اليوم ديمقراطيات في الداخل‏,‏ وسياسات عدوانية أو غير ديمقراطية في الخارج‏,‏ والدول التي أنشأت ظاهرة الاستعمار‏,‏ بما فيه الاستيطاني منه‏,‏ وقضت علي شعوب كاملة‏,‏ كانت أيضا ديمقراطية لديمقراطية ليست حائلا دون الخطأ ولا دون السياسات الخارجية العدوانية‏.‏
‏**‏ النزوع الامبراطوري قديم في أمريكا منذ النشأة‏,‏ ولكن هل الأدبيات السياسية تؤكد أن الشعب الأمريكي يرفض هذا النزوع أو يتحفظ عليه هل تري ذلك صحيحا؟
‏*‏ غليون‏:‏
صحيح‏,‏ الامبريالية هي سياسة المركب الصناعي العسكري‏,‏ وليست تعبيرا عن مصالح عامة الشعب الأمريكي‏,‏ فهو يفضل بالتأكيد انشغال الحكومة بشكل أكبر بالمشكلات الداخلية‏,‏ وتخصيص إنفاق أكثر لتحسين شروط الحياة الاجتماعية وبناء أمريكا أكثر عدالة‏.‏
‏**‏ هل يمكن اعتبار الولايات المتحدة آخر نموذج للامبريالية أو الامبريالية الجديدة التي وصفها ديفيد هارفي في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه أم أنها مرحلة انتقالية قبل بدء مرحلة الامبراطورية الكبري‏,‏ أو العولمة‏,‏ كما يذهب انطونيو نيجري ومايكل هاروت في كتابهما الامبراطورية
‏*‏ غليون‏:‏
هي في نظري امبريالية جديدة أو تجديد للسياسات الامبريالية‏,‏ الامبرطورية لن تنجح فشل المشروع الامبرطوري الأمريكي لا يرجع لأسباب خارجية عالمية‏,‏ ولا بسبب الشعب الأمريكي‏,‏ ولكن بكل بساطة لأن الأحداث الأخيرة‏,‏ والحرب الأمريكية علي العراق بشكل خاص‏,‏ ومن قبل الحرب في أفغانستان أثبتت أنه ليس بإمكان أي دولة‏,‏ حتي لو كانت الأعظم في العالم‏,‏ أن تخضع عالم اليوم لأجندتها الخاصة وأن تسيطر عليه‏,‏ تعدد القوي الفاعلية وتشابك المصالح وتضارب الإرادات يجعل من المستحيل إدارة العالم من دون تفاهمات مسبقة بين الفاعلين‏,‏ والرئيسيين منهم بشكل خاص لذلك رغم المظاهر نحن نعيش في عالم متعدد الاقطاب لكن ينقص هذه التعددية الاعتراف والشرعية‏.‏
‏**‏ هل حسمت أمريكا خيارها الامبراطوري الذي طرحه بريجنسكي‏:‏ قيادة العالم أو السيطرة عليه؟ وما هي امكاناتها لحسم هذا الخيار في ظل فشل مشروعها في العراق؟
‏*‏ غليون‏:‏
ستحسمه كما ذكرت في اتجاه السياسة الامبريالية‏,‏ والفشل في العراق أظهر أن حدود فكرة بناء سياسة إمبريالية بمعني امبرطوري ضيقة جدا‏.‏
عولمة أم أمركة؟
‏**‏ تقول أنك من الذين يعتقدون بأن العولمة تحمل مخاطر هيمنة أقوي نفوذا من الاستعمار التقليدي لأنها لا تستخدم العنف‏,‏ وتعتمد علي قبول الناس بها وسعيهم إليها هل تعتقد أن ثمة عولمة فعلا أم أنها بأمركة للعالم وفق نموذج الرأسمالية المتوحشة الذي تتماهي فيه الحدود بين الشركة الدولة كيف تقرأ سيرة العولمة من الناس مع الأمركة وهل هما شيء واحد‏...‏ وما هو الرهان السياسي والثقافي لكل منهما؟
‏*‏ غليون‏:‏
يمكن القول إن الأمركة هي احدي النتائج الرئيسية للعولمة‏,‏ بمعني أن تقدم وسائل الاتصال والتفاعل والتبادل المكثف والسريع بين المجتمعات قد ساعد
الولايات المتحدة‏,‏ أكثر من غيرها‏,‏ علي نشر ثقافتها ونموذج حياتها‏,‏ والترويج لبضاعتها‏,‏ لكن حصل هذا لأن لديها بضاعة وثقافة ومنتجات‏,‏ بحجم السوق العالمية‏,‏ وعليها طلب حقيقي في العالم بعد سنوات قليلة يمكن أن تكون العولمة صينية وليست أمريكية والعولمة تساعد القوي والمنتج مهما كان‏.‏
والواضح أن أمريكا هي الأقوي اليوم لكن يمكن أن تتراجع أمريكا عن العولمة‏,‏ أو عن العولمة الليبرالية في الواقع‏,‏ عندما تشعر بمخاطرها‏,‏ وهي بدأت هذا التراجع‏,‏ والرهان هو السيطرة وتوسيع دائرة النفوذ‏.‏
‏**‏ تقول إن الرأسمالية تواجه حاليا للمرة الأولي أزمة بنيوية حادة حيث يدور الصراع داخلها‏,‏ هل تشير إلي صراع أمريكي أوروبي حول قيم الرأسمالية؟
‏*‏ غليون‏:‏
ليس هذا هو مضمون أزمة الرأسمالية‏,‏ ما ذكرته يتعلق بأزمة العلاقات الأوروبية الأمريكية‏,‏ وهي موجودة أزمة الرأسمالية كامنة في تراجع مردودية رأس المال والتناقض المتزايد بين الطابع العولمي المتزايد لها وتعدد القرارات القومية التي تدير شئونها اليوم وأحيانا تضاربها‏,‏ إنها فوضي العالم وتخبط سياساتها النقدية والمالية والاقتصادية‏.‏
‏**‏ هل تنجح الرأسمالية الأمريكية في تجديد نفسها وحسم معركتها مع أوروبا ومع مشكلاتها أم أنها وصلت إلي التمدد الامبراطوري المفرط الذي يهدد بانهيارها‏,‏ كما يذهب بول كيندي في كتابه المعروف صعود وانهيار القوي العظمي؟
‏*‏ غليون‏:‏
لا علاقة لهذا بذاك العلاقات مع أوروبا علاقات استراتيجية بالرغم من التنافس والنزاع في إطار التنافس‏,‏ أما التمدد الأمريكي‏,‏ فلا يعتمد علي موارد أمريكا لوحدها‏,‏ ولكن علي ردود فعل القوي الدولية العالمية الأخري‏,‏ خاصة نشوء كتلة دولية تعيد التوازن العالمي والانحسار لا يعني النهاية ولا الضعف بالضرورة‏,‏ لا فرنسا ولا بريطانيا ولا روسيا يشكلون اليوم امبراطورية كالسابق‏,‏ لكن لم تتحول هذه الدول إلي دول منسية عديمة الوزن في السياسة الدولية‏,‏ إنها استمرت لكنها قبلت بالمشاركة مع قوي منافسة كبري بالقرار‏,‏ وهو ما سيكون وضع الولايات المتحدة‏,‏ ولا معني لمراهنة العاجزين والضعفاء وقليلي الحيلة علي زوال الولايات المتحدة من الخريطة السياسية والاسترايتجية بسبب تراجع مواقعها‏,‏ ولن يقود هذا تلقائيا إلي بروز الكتلة العربية أو الإسلامية كقوة عالمية إذا لم تبذل هذه الكتلة الجهود الضرورية‏,‏ بصرف النظر عن وضع أمريكا‏,‏ للتحول إلي كتلة واحدة مصنعة ومتقدمة وديمقراطية‏.‏
سنوات التطرف
‏**‏ يلعب‏11‏ سبتمبر دورا بارزا في اعادة كتابة التاريخ هل هذه نهاية تاريخ مرحلة ما وبداية العصر الامبراطوري أم أنه مجرد مؤامرة كانت أمريكا في حاجة إليها لتدشين مشروعها للقرن ال‏21‏؟ ولماذا اعتبرت علامة فارقة في التاريخ؟
غليون‏:‏
كانت حدثا مسرعا لتحول تاريخي عميق في اتجاه صعود القوة الأمريكية وسياستها الامبراطورية لم تكن مؤامرة ولا حدثا تاريخيا مدشنا لشيء لقد اطلقت فقط ديناميكية الحرب الاسلامية الغربية‏,‏ وجرت المعسكر الغربي والعربي الاسلامي إلي دوامة العنف والنزاع الأعمي من دون أدني فائدة لأي طرف‏.‏
‏**‏ هل تعادي أمريكا الإسلام علي أساس صدام أصوليات أم صدام الحداثة ضد الأصولية؟ وهل تري أن‏11‏ سبتمبر طرح الإسلام من جديد بشكل مختلف أمام الوعي الأمريكي؟
‏*‏ غليون‏:‏
أمريكا لا تعادي الاسلام لا من حيث هي دولة ولا من حيث هي مجتمع‏.‏ إنها تدافع عن مصالح استراتيجية واقتصادية وسياسية‏,‏ وتتصدي لأي قوة تحول دون تحقيق هذه المصالح أو تقف أمام تحقيقها‏.‏ وأمريكا لم تعاد إسلام المجاهدين العرب في أفغانستان قبل انهيار الحكم الشيوعي أو الخاضع للنفوذ السوفيتي‏.‏ لا ينبغي الخلط بين العداء للدين والعداء لشعب والعداء للمواقف والسياسات‏.‏ نحن أيضا لا نعادي امريكا وأنما نقف ضد سياساتها العدوانية التي تؤثر سلبيا علي مصالحنا‏.‏ وعندما تتوقف عن تطبيق مثل هذه السياسات سوف نصبح من دون تردد أصدقاء لأمريكا وشعبها‏.‏
‏**‏ أسامة بن لادن وجورج بوش يتحدثان لغة واحدة تنطلق من احتكار اليقين والحديث باسم المقدس هل ثمة مشترك بينهما؟
‏*‏ غليون‏:‏
ها أنت أجبت لوحدك عن السؤال ولكن معك حق فأصولية بوش لا تقل دغمائية عن أصولية بعض التيارات الايديولوجية الاسلامية المتطرفة‏.‏
‏**‏ هل أعاد‏11‏ سبتمبر الاعتبار لفكرة الوطنية والدولة الوطنية أم أن العولمة كتبت نهاية هذه الدولة لمصلحة الشركة‏.‏ أو لمصلحة العولمة ذاتها؟
‏*‏ غليون‏:‏
نحن نعيش جميعا الآن‏,‏ باستثناء الولايات المتحدة وربما الصين‏,‏ حتي الوقت الراهن‏,‏ ولا ندري إلي أي مدي‏,‏ في إطار دول محدودة السيادة‏,‏ لكنها لا تزال دولة وطنية‏,‏ يشكل عملها شرطا لا غني عنه لاستمرار المجتمعات السياسية كمجتمعات منظمة‏.‏ في معظم بلداننا التي تعرضت فيها الدولة لانتزاع السيادة من قبل الخارج من جهة‏,‏ ولتعليق القانون ونزع سيادة الشعوب من قبل النخب الحاكمة من جهة أخري‏,‏ ولم تعد هناك دولة أصلا‏,‏ لكن واجهة شكلية فارعة تخفي تسلط عصابات منظمة‏,‏ تسيطر علي أجهزة زمنية وإدارية وعسكرية وتوظفها في سبيل تخليد سيطرتها وتعظيم منافعها المادية‏.‏
‏**‏ كيف تقرأ الحرب الأمريكية علي الإرهاب‏,‏ وما علاقتها بالحروب الأمريكية ضد الآخر منذ إبادة الهنود الحمر حتي غزو العراق مرورا بغزو المكسيك والفلبين وفيتنام؟ كيف تعاطت أمريكا مع الآخر تاريخيا؟
‏*‏ غليون‏:‏
ليس من الضروري والمطلوب لصق عيوب ماهوية ثابتة ودائمة بأي مجتمع أو شعب‏.‏ أمريكا ليست إدارة بوش ولا المحافظين الجدد‏.‏ ولا يقود العداء الأعمي والشامل لأمريكا إلا إلي إضعاف قدرة العرب أنفسهم علي فهم التميزات العميقة القائمة فيها والاستفادة منها لتقليل مخاطر السياسات العدوانية علينا‏.‏ نحن ندين الصورة النمطية التي يصنعها الغرب عن مجتمعاتنا‏,‏ ولا ينبغي أن نقع في الخطأ نفسه فنصوغ صورا مشوهة وسلبية عن أعدائنا‏,‏ فنؤبد العداوة ولا نعرف فيما بعد كيف نواجهها أو نتعامل معها‏.‏ وأخشي أن يتحول توجيه النقد والعداء اللفظي والشتيمة لأمريكا إلي سلوان وعزاء وحيد لشعوبنا يلهيها عن المآسي التي تتعرض لها نتيجة سيطرة الولايات المتحدة في واقع الامر علي مقدراتنا تماما‏,‏ في حين أن المطلوب هو النزع العملي لهذه السيطرة وإزالة عبئها الثقيل عن كاهل شعوبنا المسحوقة تماما تحته‏.‏
وليس من المؤكد أن تسويد صفحة الخصم هو الوسيلة الأنجع لتحقيق هذا الهدف‏.‏ بالعكس‏,‏ ربما كان علينا ان نرتفع إلي مستوي الخصم‏,‏ ولدينا جميع الوسائل التي تسمح لنا بمواجهته ككتلة منظمة قوية‏,‏ تدافع عن مصالح واضحة وشرعية‏,‏ ولا تضحي بالقيم الانسانية‏,‏ وهي مستعدة للتعامل مع غيرها بندية‏.‏ الحرب الأمريكية علي الارهاب هي جزء من سياسة أمريكية استعمارية يشارك فيها كل الدول العربية‏,‏ وكانت ترتبط‏,‏ قبل أحداث سبتمبر‏2001‏ بإقامة تحالف عربي إسرائيلي مع موافقة الحكومات العربية ورعايتها‏,‏ ضد الحركات الاسلامية أو مخاطر صعودها السياسية‏.‏ ليست لها علاقة بتصفية الهنود الحمر ولا بهوية أمريكية ثابتة تصفوية‏.‏
‏**‏ اعتبرت غزو العراق أم المعارك الأمريكية التي تستهدف النفط ومصلحة اسرائيل وحسم الصراع مع العالم الإسلامي‏,‏ حيث تقرأ من هذه المعركة الآن بعد الفشل الأمريكي العسكري في العراق‏.‏
‏*‏ غليون‏:‏
ظهرت الآن أخطاء الاستراتيجية الأمريكية التي دفعت إلي ارتكاب حماقة الحرب وجريمتها في العراق‏.‏ لكن لا تزل أمريكا‏,‏ تسيطر علي النفط وتدعم اسرائيل وتعزل العالم الاسلامي‏.‏ فلا ينبغي أن نقبل بإرضاء خيص للذات يحول بيننا وطلب الأماني الكبري التي يحق لنا تحقيقها‏,‏ فلن تزول السيطرة الأمريكية لمجرد هزيمة قواتها العسكرية في العراق‏.‏ فهي تملك في عموم المنطقة قواعد عسكرية وسياسية أهم بكثير من القواعد التي كانت تريد أن تتخذها في العراق‏,‏ من باب الطمع والشر والمبالغة في تقدير ضعف خصمها‏.‏ من المقبول أن نعبر عن شماتتنا بالخسارة الأمريكية وأن نطرب لها‏,‏ لكن علي ألا ينسينا إخفاق أمريكا في العراق‏,‏ أن الضحية الرئيسية تبقي مع ذلك واحد من اكبر وأهم البلاد العربية‏.‏ وأننا لا نزال نخضع في عموم العالم العربي لسيف التدخلات الأجنبية‏,‏ وتغطي القواعد العسكرية الأمريكية اليوم معظم أراضي بلداننا‏.‏ المهم أن نفكر كيف نربح الرهان‏,‏ لا أن نكتفي بلعبة تصفير‏.‏ وهو ما ينبغي أن يدعونا إلي أن نتساءل دائما عما فعلناه وعما سنفعله من أجل بناء أسس الاستقلال والسيادة والحرية والتنمية في البلاد العربية‏.‏
اسرائيل
‏**‏ما أن تذكر أمريكا حتي تذكر اسرائيل هل تري أن العلاقة بينهما بنيوية تقوم علي أسس دينية وتاريخية أكبر من مسألة المصالح‏,‏ وألي متي سيظل‏,‏ وإلي متي سيظل العرب والفلسطينيون ثمن هذه العلاقة؟
‏*‏ غيلون‏:‏
نعم هي علاقة أصبحت بنيوية تقوم علي أسس استراتيجية أولا‏,‏ ترفدها تفاهمات وتفاعلات دينية وايديولوجية ومصلحية‏.‏ وسنظل نحن العرب والفلسطينيين ندفع ثمن هذه العلاقة مارفضنا ان ندفع ثمن تحررنا كأفراد ومجتمعات أولا‏,‏ من نير النظم الطغيانة‏,‏ وكشعوب ثانيا من نير السيطرة الاجنبية وتلاعب القوي الخارجية‏.‏ أي طالما بقينا نعتمد في وجودنا‏,‏ بل في انتزاع حقوقنا من اسرائيل‏,‏ علي استجداء الإرادة الاجنبية‏.‏
‏**‏ كيف قرأت أزمة تبرؤ جامعة هارفارد من نشر دراسة حول اللوبي الإسرائيلي وما هو في تصورك حدود سيطرة اللوبي الاسرائيلي علي السياسة الخارجية الامريكية؟
‏*‏ غليون‏:‏
سعدت كثيرا بذلك‏,‏ لأن هذا التبرؤ كان الهدية الرئيسية لكاتبي المقالة وللعرب‏.‏ فقد أعطي دفعة قوية لها‏,‏ وفرض نشرها وتوزيعها علي أوسع نطاق‏,‏ بقدر ما أثار نقاشا حادا من حولها‏.‏ واللوبي الاسرائيلي هو الذي خسر في هذه المعركة‏.‏ وهناك أصوات كثيرة بدأت تتجرأ لاتخاذ مواقف مشابهة أو لإعلان مواقف انتقادية من السياسة الامريكية غير المشروطة تجاه اسرائيل‏.‏ رب ضارة نافعة‏.‏ وفي بلداننا يعتقل المثقفون ويهددون بتهم تصل الي العقوبة بالأحكام الشاقة مدي الحياة‏,‏ بذريعة توقيع بيان لا يدين السياسات الحكومية ولكنه يطالب فقط بإقامة علاقات متوازنة بين البلدان العربية خالية من التهديد والابتزاز والتدخل بالعنف‏,‏ ويدعو الي الاحترام المتبادل بين الشعوب‏,‏ هذا ما حصل ولا يزال يحصل في سوريا ومصر وتونس وغيرها من البلدان‏.‏
‏**‏ لفرنسا تاريخ طويل من الصراع مع الولايات المتحدة منذ الحروب الأولي في الأرض الجديدة حتي أزمة غزو العراق كيف تقرأ هذا الصراع وهل هو تعبير سياسي عن الصراع الثقافي بين الانجلوساسكون والفرانكفونية وكيف يمكن أن يؤثر هذا لاصراع في جوهر عملية العولمة؟
‏*‏ غليون‏:‏
فرنسا وامريكا في حلف واحد اسمه الحلف الأطلسي‏.‏ وقد انتقدت من زمن طويل مراهنة بعض المثقفين والمسئولين العرب علي الصراع بين فرنسا وامريكا‏.‏ ليس هناك صراع ولا حروب بينهما‏.‏ هناك تنافس علي المصالح المادية والاستراتيجية‏,‏ واختلاف بدأ يتقلص في وجهات النظر بخصوص بعض المسائل الدولية‏.‏ لكن هناك بالمقابل تعاونا وثيقا ومصالح مشتركة هائلة بين البلدين‏.‏ لا ينبغي تضخيم الأمور‏,‏ ولا تغذية الضمير العربي المكلوم من الهزائم‏,‏ بأوهام انتصار الفرنسيين علي الأمريكيين أو تقييد أيديهم‏.‏ الصراع القائم بين مكونات أي مجتمع من المجتمعات العربية‏,‏ ولا أتحدث هنا عن العراق‏,‏ يتجاوز بمئة مرة شدة الصراع القائم بين فرنسا وامريكا‏.‏ ويمكن قول ذلك بالمثل فيمايتعلق بالصراع والحرب المعلنة وغير المعلنة بين الدول والحكومات العربية‏,‏ ونحن نقول مع ذلك باننا أمة واحدة‏,‏ ويجتمع رؤساؤنا في مؤتمرات قمة دورية في إطار جامعة واحدة‏.‏
لا ينبغي أن نصور العلاقات بين الدول كعلاقات ماهوية ثابته‏.‏ قد تصطدم السياسة الخارجية الفرنسية اليوم بأمريكا ثم تتفق معها غدا‏,‏ وقد تختلف معها في نقطة وتتفق في نقطة أخري‏.‏ لكن ليس هناك سبب لعداء دائم وتاريخي‏.‏ وفي الوقت الراهن تجاوز البلدان خلافهما الذي ظهر بخصوص الحرب الامريكية العراقية الأخيرة‏.‏ وفرنسا اليوم أقرب إلي أمريكا من أي فترة سابقة‏.‏ وليس الصراع القائم اليوم في العالم صدام حضارات ولا صدام أصوليات‏.‏ هو صراع متعدد الأشكال والمضامين‏.‏ هو أولا صراع مصالح مستمر منذ بدء التاريخ السياسي للبشرية‏.‏ وهو أيضا صراع ثقافي وصراع اقتصادي وصراع اجتماعي داخل الدول وعلي الصعيد العالمي أيضا‏.‏ ليس هناك أي سبب كي تكون الامور إما هذا أو ذلك‏.‏ قد تكون هذا وذلك معا وقد تكون غير ذلك‏.‏ وقد تكون اليوم متركزة علي محتوي معين ثم يتغير محور الصراع فيما بعد‏.‏
‏**‏ حظيت أمريكا في‏11‏ سبتمبر بدعم إنساني هائل وتأييد شبه مطلق في معظم أرجاء العالم‏,‏ برأيك لماذا تآكل هذا التأييد الآن؟
‏*‏ غليون‏:‏
بسبب السياسة التسلطية الانفرادية التي اتبعتها الإدارة الأمريكية الجديدة‏,‏ والتي هدفت الي تحقيق السيطرة الأمريكية المنفردة علي مصادر الطاقة ومواقع استراتيجية كبري في العالم بذريعة الرد علي الارهاب والانتقام لنفسها‏.‏ لقد استخدمت قضية معالجة الارهاب التي تحظي بإجماع عالمي‏,‏ لتحسين مواقعها في المنافسة الدولية المفتوحة في ظل العولمة‏.‏ ولم ينطل هذا الأمر علي أحد‏,‏ لا علي الحكومات ولا علي الشعوب‏.‏ وتبين أن هدف السياسة الأمريكية العدوانية الجديدة ليس معالجة الارهاب وإنما التحكم بمواقع وموارد تضمن التفوق الأمريكي العالمي وتعززه‏.‏
‏**‏ كيف تقرأ عودة اليسار في أمريكا اللاتينية‏(‏ التي يراها الكثيرون الفناء الخلفي للامبراطورية الامريكية‏)‏ وكيف يمكن لليسار أن يعود لمواجهة النظرية الرأسمالية؟
‏*‏ غليون‏:‏
يعود اليسار إلي أمريكا اللاتينية بسبب الاختلال الكبير الذي حصل في توزيع الدخل‏,‏ في ظل السياسات الليبرالية المتطرفة التي اتبعتها حكومات امريكا اللاتينية في العقود الماضية‏,‏ والتي لم تف بالوعود التي أطلقتها بصددها‏.‏ لكنه لا يعود لمواجهة النظرية الرأسمالية وإنما لمواجهة السياسة الليبرالية التي ذكرت‏.‏ فليس هناك أي مسئول أمريكي لاتيني يتحدث عن التراجع عن اقتصاد السوق والاستثمار الرأسمالي أو بالمعني الرأسمالي‏,‏ وقاعدته المشاريع الصناعية والتجارية الخاصة‏,‏ إن ما ينادون به هو إخضاع الرأسمالية التي حررتها السياسات الليبرالية من أي قيود إلي معايير تمس العدالة الاجتماعية والتوازن في توزيع عوائد التنمية‏.‏ إن ما يميزها هو التركيز علي السياسات الاجتماعية ووضع قيود أكبر علي رأس المال لاحترام شروط توزيع أعدل‏.‏ وربما تضمن ذلك إعادة سيطرة الدولة علي بعض القطاعات الاستراتيجية‏.‏ لكن الأصل الاستمرار في المراهنة علي اقتصاد السوق وجذب الاستثمارات‏.‏ وليس في كل ذلك أي فكرة ثورية‏.‏ إن الأمر يتعلق بسياسات إصلاحية منفتحة ترفض أي دغمائية ايديولوجية‏,‏ بما في ذلك الدغمائية الليبرالية‏,‏ نطالب بها نحن في البلاد العربية‏,‏ أقصد القوي الديمقراطية‏,‏ منذ عقود‏.‏ لكننا لم نحصد حتي الآن سوي سياسات الاقتداء الأعمي بالنظم الليبرالية التقليدية‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.