د. سليمان عبدالمنعم أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية فى 5 فبراير الماضى قرارا بشمول اختصاص المحكمة للأراضى الفلسطينية التى احتلتها إسرائيل منذ يونيو 1967 فى غزة والضفة الغربيةوالقدسالشرقية. يطرح القرار الكثير من التساؤلات بقدر ما يربك إسرائيل، فهو على الأقل يذكّرها فى لحظات النشوة بالتطبيع أن الضفة الغربيةوغزةوالقدسالشرقية ما زالت توصف دولياً بالأراضى المحتلة. هنا قراءة فى مدلول القرار ومغزاه، والآثار القانونية المترتبة عليه. عن المدلول والمغزى فالقرار لا يعنى بذاته محاكمة المسئولين عن جرائم الحرب التى شنتها إسرائيل على غزة عام 2014، بل ولا يعنى حتى اللحظة توجيه اتهام لأحد بهذه الجرائم. القرار ذو طبيعة إجرائية محضة ينصب على مسألة أوليّة هى تحديد الاختصاص الإقليمى للمحكمة ولا يتطرق لجرائم أو متهمين. وابتداء ثمة إحاطة واجبة بما سبق هذا القرار فى العامين الأخيرين. كان المدعى العام للمحكمة فاتو بنسودا قد خلصت فى ديسمبر 2019 إلى توافر كل المعايير المنصوص عليها فى نظام روما الأساسى المنشئ للمحكمة والتى تجيز إجراء تحقيقات فى الجرائم المشمولة باختصاص المحكمة على الأراضى الفلسطينية. وفى 22 يناير 2020 طلبت المدعى العام من الدائرة التمهيدية وفقاً لنص المادة 19-3 من نظام المحكمة البت فقط فى مسألة مدى توافر الاختصاص الإقليمى للمحكمة فى حالة دولة فلسطين (هكذا ذُكرالمصطلح حرفياً). وفى 5 فبراير الماضى تضمن البيان الرسمى الصادر عن المحكمة أن الدائرة التمهيدية قامت بفحص طلب المدعى العام والملاحظات التى أبدتها بعض الدول (لم تحدّد أسماء هذه الدول) والمنظمات وبعض جماعات المجنى عليهم، وخلصت إلى أن الاختصاص الإقليمى للمحكمة يشمل الأراضى الفلسطينية التى احتلتها إسرائيل منذ عام 1967 وهى الضفة الغربيةوغزة بما فى ذلك القدسالشرقية. يتأسس قرار الدائرة التمهيدية للمحكمة على سندين، السند الأول مركّب من حجتين أولاهما انضمام فلسطين لنظام روما الأساسى المنشئ للمحكمة، وبالتالى يصبح لها الحق أن تُعامل كدولة طرف فيما يتعلق بتطبيق نظام المحكمة. والحجة الأخرى مستمدة من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67/19 والذى يؤكد (ضمن قرارات أخري) حق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره واستقلاله داخل دولة فلسطينية تقع على الأراضى الفلسطينيةالمحتلة منذ 1967. أما السند الثانى فقد أقامته المحكمة على رفضها للحجج المتعلقة باتفاقيات أوسلو وشروطها المقيّدة لنطاق اختصاص السلطة الفلسطينية، فقد اعتبرت المحكمة أن هذه الحجة ليست ذات صلة (non pertinent) بمسألة تحديد الاختصاص الإقليمى للمحكمة فى فلسطين لأن إثارتها تكون فقط فى الحالة التى يُقدّم فيها المدعى العام طلباً بإصدار مذكرة قبض أو أمر بالمثول أمام المحكمة. لكن الدائرة التمهيدية وقبل أن تخلص إلى شمول اختصاصها للأراضى الفلسطينيةالمحتلة منذ عام 1967 أوضحت أن قرارها لا يفصل فى نزاع حدودي، وليس حكماً مسبقاً على مسألة حدود مستقبلية. وبرغم ذلك فإن للقرار أهمية بالغة تتجلّى فى أنه يفتح الطريق لإجراء تحقيقات من قبل المدعى العام للمحكمة حول جرائم محتملة ارتكبت أثناء الحرب التى شنتها إسرائيل على غزة عام 2014، وأن هذه التحقيقات لا تمنع نظرياً من تصوّر أن تكون أساساً لقرار اتهام يصدر مستقبلاً بما يترتب على مثل هذا القرار من نتائج وآثار. ولعلّ هذا القرار لا يقتصر فقط على جرائم الحرب التى ارتكبتها إسرائيل، وهى بلا شك موثّقة بالأدلة من جانب الفلسطينيين بل يمكن أن يشمل أيضاً جرائم خطيرة أخرى مشمولة بولاية المحكمة وتتعلق بملفى الأسرى الفلسطينيين والاستيطان. والواقع أن هناك الكثير من جرائم الحرب المحتمل إثارتها ضد إسرائيل والتى قامت بتوثيقها المؤسسات الحقوقية الغربية نفسها، مثل ما تنص عليه المادة 8-2 فى النظام المنشئ للمحكمة من «تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة فى الأعمال الحربية، أو توجيه هجمات ضد مواقع مدنية لا تشكل أهدافاً عسكرية»، وغير ذلك كثير. وأيضاً ما تنص عليه المادة 8-2 (ب) 8 بشأن الاستيطان من قيام دولة الاحتلال على نحو مباشر أو غير مباشر بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التى تحتلها. وكذلك الممارسات المنهجية لسلطة الاحتلال الإسرائيلى لجريمة الفصل العنصرى المنصوص عليها فى المادة 7-1 (ي) من نظام المحكمة. إذا تأملنا ردود الفعل الدولية على قرار المحكمة الجنائية الدولية سنجدها موزّعة بين أربعة مواقف معلنة وموقف واحد غير معلن. هناك أولاً الموقف الإسرائيلى الرافض بل والمذعور من قرار المحكمة الدولية والذى اعتبره رئيس الوزراء الإسرائيلى نيتانياهو ينكر حق الدول الديمقراطية فى الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب، (الديمقراطية كالعادة هى ورقة التوت التى تُخفى بها إسرائيل عورتها الاستيطانية العنصرية)، ثم قوله إن قرار المحكمة يكشف عن معاداة للسامية (حجة إسرائيل كالعادة حين تفتقد الحجة). والغريب أن حالة الذعر الإسرائيلى فاتها أن قرار المحكمة يسرى نظرياً على الجرائم المحتملة من الإسرائيليين والفلسطينيين معاً، وبالتالى بدت المفارقة أن الفلسطينيين قد أيدوا القرار واحتفلوا به بينما أصاب الإسرائيليين الذعر، وليس لهذا من تفسير سوى أن سلطة الاحتلال الإسرائيلى تدرك تماماً حقيقة أفعالها والمأزق القانونى الذى وضعها فيه قرار المحكمة. فإسرائيل لا تنسى كيف كان بعض مسئوليها عقب الحرب على غزة يتجنبون السفر إلى دول أوروبية تأخذ قوانينها بمبدأ الاختصاص العالمى عن جرائم الحرب. هناك ثانياً الموقف الأمريكى الذى اعترض على قرار المحكمة بحجة أن إسرائيل ليست دولة طرفاً فى نظام المحكمة مع أن مجرد إلقاء نظرة على نص المادة 13 (ج) من نظام المحكمة كاف لمعرفة أن قرار المحكمة صحيح من الناحية القانونية بوصفه ممارسة لسلطة المدعى العام فى إجراء تحقيق. الموقف الثالث اللافت للنظر هو ترحيب المؤسسات الحقوقية الدولية ولجنة حقوق الإنسان فى البرلمان الأوروبى بقرار المحكمة، وكان ترحيب بعضها متوازناً مثل منظمة العفو الدولية التى اعتبرت أن القرار يتعلق بجرائم الحرب المحتملة، سواء من جانب الإسرائيليين أو الفلسطينيين، لكن حتى مثل هذه الموضوعية لم تعجب إسرائيل. الموقف الرابع اللافت المؤيد لقرار المحكمة كان لمؤسسة الأزهر الشريف. أما الموقف الخامس غير المعلن فهو موقف الكثير من الدول الأوروبية التى عزفت عن التعليق رسمياً على القرار حتى لحظة كتابة هذه السطور. ما زال القرار الإجرائى للمحكمة لم يكشف بعد عن كل تداعياته واحتمالاته لا سيّما وأن المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا التى تعمل على هذا الملف منذ سنوات ستنتهى ولايتها عما قريب بعد عدة أشهر. ربما سترحل المدعية العامة، وقد يجد فى الأمور جديد، وستمارس إسرائيل كالعادة سياسة الاستقواء والمروق وتشويه الحقائق لكن سيبقى سؤال العدالة الدولية بشأن ما يتعرض له الفلسطينيون يؤرق الضمير الإنساني، ويضع هيئات المساءلة الدولية موضع حساب عسير.