مرت علينا فى هدوء الذكرى 46 لرحيل كوكب الشرق أم كلثوم حيث رحلت فى 3 فبراير عام 1975.. ولم تحظ ذكراها بأى اهتمام وهى التى ملأت حياتنا جمالاً وجلالاً ومتعة.. كان من حظى أن أقترب كثيرا من اثنين من عباقرة الفن فى مصر فى عصره الذهبى, رياض السنباطى ومحمد عبد الوهاب, وكلاهما كان راهباً فى محراب سيدة الغناء العربي.. كان الصديق الراحل كمال الملاخ هو الذى قدمنى لهما وكنت عاشقاً لصوت عبد الوهاب وأنا أسمع والدى رحمة الله عليه وهو يدندن يا وابور قلى رايح على فين.. كان أزهريا يحفظ القرآن الكريم متفتحاً يطرب مع عبد الوهاب ويعشق سيدة الغناء كوكب الشرق أم كلثوم ورفيق مشوارها رياض السنباطي.. كنت أزور عبد الوهاب كل أسبوع وتوطدت علاقتنا فى سنواته الأخيرة وكنا نتحدث كل ليلة فى شئون كثيرة ولم يكن يحب الحديث فى السياسة وكان يكرهها.. كانت المسافة بين عبد الوهاب والسنباطى من الزمالك إلى مصر الجديدة وفى أحيان كثيرة تصورت أن هناك حساسية خاصة فى العلاقة بين عبد الوهاب والسنباطي.. بسبب المنافسة الفنية خاصة علاقة كل منهما بأم كلثوم.. فقد اخذ السنباطى نصف عمرها واخذ عبد الوهاب النصف الثاني.. قلت أحيانا تصورت أن العلاقة بين السنباطى وعبد الوهاب علاقة شائكة.. حتى فوجئت وأنا أعيش مع أوراق عبد الوهاب الخاصة التى أوصى أرملته الراحلة السيدة نهله القدسى أن تسلمها لى بعد رحيله وأصدرتها فى كتاب يحمل عنوان «عبد الوهاب وأوراقه الخاصة» حين جاء الحديث عن السنباطى كتب عبد الوهاب بخط يده أن السنباطى أعظم عازف للعود فى تاريخ الموسيقى العربية.. وهو أعظم من لحن القصيدة، والأطلال هى درة القصائد التى شدت بها أم كلثوم.. وقال عبد الوهاب إن أم كلثوم أجمل فاترينة فى الفن العربى ونحن جميعا نتسابق لعرض إبداعنا فيها وهى شرف لكل من يحصل على هذه الفرصة قلت كنت أتردد فى الحديث عن رياض السنباطى أمام عبد الوهاب أمام اعتقاد خاطئ بأن بينهما شيئا ما.. ولكن بعد رحيل عبد الوهاب اكتشفت فى أوراقه مدى تقديره لعبقرية السنباطي.. حكى لى السنباطى عن أول لقاء له مع عبد الوهاب وكان فى صحبة أمير الشعراء احمد شوقى فى معهد الموسيقى وكانت المرة الأولى التى أشاهد فيها شوقي.. وبعد ذلك لحنت لام كلثوم أجمل قصائد شوقى فى مدح الرسول عليه الصلاة والسلام «ولد الهدي» و«نهج البردة» و«إلى عرفات الله» و«سلو قلبي» وكان مشوارى معها فى كلمات أحمد رامى أجمل ما قدمت.. قال السنباطى كانت لنا قصة فى تلحين الأطلال كنت اعرف أن إبراهيم ناجى شاعر الأطلال كلما زار أم كلثوم قرأ عليها قصيدة جديدة فتطلب منه أن يقرأ لها الأطلال.. وللأسف الشديد رحل ناجى دون أن يسمع كلماته بصوت كوكب الشرق.. ورغم هذا اجتمع رامى وصالح جودت ود.احمد هيكل واخترنا بعض أبيات من قصائد أخرى من ديوان ناجى ولحنت الأطلال ولم يكن غريبا أن اجرى 24 بروفة على الأطلال.. وقال السنباطى بعد أن غنت آم كلثوم «إنت عمري» وسمعت هات عينيك تسرح فى دنيتهم عينيا قلت لنفسى كيف تغنى أم كلثوم يا حبيبى كل شيء بقضاء.. وذات يوم طلبتنى أم كلثوم وقالت رياض غدا نعمل بروفة الأطلال سوف أغنيها فى حفلة الخميس القادم.. وأجرينا البروفة وغنت أم كلثوم الأطلال وأنا اسمعها من الكواليس وعدت إلى بيتى لأجد صوت أم كلثوم على التليفون رياض مبروك اختارت منظمة اليونسكو الأطلال أغنية القرن على مستوى العالم.. لم يكن من السهل على عبد الوهاب أن يترك أم كلثوم للسنباطى وحده.. خاصة أن هناك فنانا شابا اسمه بليغ حمدى اقتحم الساحة واخذ مساحة كبيرة فى قلب وصوت كوكب الشرق.. ولكن عبد الوهاب كان حريصا على أن تكون أم كلثوم آخر إبداعاته ولهذا دخل مع السنباطى فى شراكة.. اقتسما فيها مشوار أم كلثوم بينما كان جيل من الشباب يأخذ حظه فى هذا السباق بليغ حمدى ومحمد الموجى وسيد مكاوي.. واستطاعت أم كلثوم أن تجمع كل هذه النخبة فى آخر أيامها لكى تقدم من خلالهم أروع وأجمل ما قدمت.. قلت فى البداية إننى كنت محظوظا وأنا أعانق سنوات شبابى الأولي.. أن يفتح الأهرام لى أبوابه وأن تجمعنى الظروف والأقدار مع اكبر عباقرة الموسيقى العربية محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي.. وكلاهما قدم للفن المصرى أروع صفحاته وإن تخلى الحظ عنى فلم أر أم كلثوم.. لم تكن صدفة أن تجتمع كل هذه القمم فى وقت واحد ولكن كما قال عبد الوهاب إن من حق الزمان أن يستريح وأن المواهب الكبرى لا تجيء فى كل وقت.. وأن من حق الأوطان أن تستريح قليلا.. كان زمن المواهب الكبرى التى أضاءت سماء مصر حدثا فريدا أن تشهد ارض مصر كل هذه الأشجار الشامخة لتصنع زمنا جميلا من الفن والإبداع.. كان الاختلاف بين السنباطى وعبد الوهاب اختلافا فى نوع الموهبة.. كلاهما كان عبقريا على طريقته كان عبد الوهاب يحب تلوين الأشياء وكان السنباطى يجيد صياغة لون واحد بتعدد درجاته.. وكان عبد الوهاب يجمع عبقرية الصوت والنغم وكان السنباطى أعظم من لحن القصيدة.. سمعته يوما يقول هل تعلم أننى بدأت مطربا واعتزلت الغناء حبا فى صوت عبد الوهاب؟ إن عبد الوهاب أجمل صوت رجالى فى تاريخ الغناء العربى ولا يوجد عاقل يمكن أن يغنى فى زمن عبد الوهاب.. كان صوت السنباطى عميقا وحساسا ورقيقا وقد أحببنا صوته فى فجر وإله الكون أنا حيران وأشواق وكان رائعا وهو يغنى قصائد أم كلثوم بصوته رباعيات الخيام والأطلال وولد الهدى وسهران لا يستطيع احد أن يقارن بين مشوار عبد الوهاب والسنباطى لأن كليهما مختلف عن الآخر.. كان عبد الوهاب أجمل أصوات عصره مطربا وكان منافسا لأم كلثوم فى عز مجدها.. وكان مطرب الملوك والرؤساء فقد عاصر كل ملوك مصر ورؤسائها من الملك فؤاد وفاروق ومحمد نجيب وعبد الناصر والسادات ومبارك.. وبقى على القمة طوال حياته أما السنباطى فقد احتل أجمل وأعظم مدن الغناء فى تاريخ الغناء العربى وهى أم كلثوم التى وهبها سنوات عمره وإبداعه.. كان السنباطى موهبة فريدة تدخل فى مواكب الإبداع العبقرى فى تاريخ الموسيقى.. كان عبد الوهاب يحب الأضواء ويشغلها دائما بإبداعه وأخباره وحياته.. ولكن السنباطى كان يزهد فى الأضواء ولا يحب بريقها.. وبقيت علاقتى مع عبد الوهاب والسنباطى واحدة من أجمل سنوات العمر وأكثرها ثراء.. إن فى الحياة حظوظا كثيرة فيها المال والمناصب واغلى حظوظ الدنيا البشر.. وهل هناك حظ أجمل من أن تكون فى رحاب السنباطى وعبد الوهاب وأن تعيش عصرا من الفن الراقى والإبداع الجميل.. كانت المسافة بين عبد الوهاب والسنباطى كما قلت إن السنباطى كان يسكن أمام نادى الشمس فى مصر الجديدة وعبد الوهاب يسكن على نيل الزمالك.. وجمعت بينهما عبقرية الموهبة وزمن الريادة وعشق أم كلثوم.. واخذ كل منهما جزءا من عمرها وما بين أنت عمرى والأطلال سافرت بنا كوكب الشرق.. وهى تجمع من الزهور أجمل واحلى العطور فيها.. وكان قدرا جميلا من أقدار مصر أن تظهر كل هذه الكواكب لتضيء سماء مصر فى وقت واحد فى لحظة تاريخية نادرة أضاءت الكون كله.. أحيانا اسأل نفسى هل يمكن أن يعيد الزمان دورته وتطل أم كلثوم مرة أخرى وتلتقى ذات مساء مع رياض السنباطى مع والدها على محطة قطار المنصورة أو يجتمع عبد الوهاب وكوكب الشرق بقرار من الزعيم الراحل جمال عبد الناصرفى زمن واحد ويصنع الجميع أسطورة من الفن مازالت حتى الآن تسعد القلوب وتحيى المشاعر.. ويبقى الشعر الليلةَ َاِجلسُ يا قلبِى خلفَ الأبوابْ أتأمَّلُ وجهِى كالأغرابْ يتلوَّن وَجهى ِلا أدْري هلْ ألمحُ وجْهى أم هذَا.. وجهٌ كذابْ؟ مِدفأتِى تنكرُ ماضينَا والدفُّء سرابْ تيار النورِ يحاوِرُني يهرب منْ عينى أحيانًا ويعودُ يدَغدغُ أعصَابي والخوفُ عذابْ أشعُرُ ببرودةِ أيَّامي مِرآتِى تعكِس ألوانًا لونٌ يتَعثرُ فى ألوانْ والليلُ طويلٌ والأحزانْ وقفتْ تتثاءَبُ فِى مَللٍ وتدُورُ وتضْحكُ فِى وجْهِي وتُقهقهُ تعلُو ضحْكاتُها بينَ الجُدرانْ الصَّمتُ العَاصِفُ يحمِلُنى خلفَ الأبوابْ فأرَى الأيامَ بلا مَعنَى وأرَى الأشْياءَ.. بلاَ أسْبابْ خوفٌ وضياعٌ فِى الطُّرقاتْ مَا أسْوأَ أنْ تبقَى حيًا.. والأرضُ بقايا أمواتْ الليلُ يحاصِرُ أيامِي.. ويدُورُ.. ويعبثُ فِى الحُجُراتْ فالليلةَ ما زلتُ وحِيدًا أتَسكَّع فِى صَمتِى حينًا تَحملُنِى الذكرَى للنسيَانْ أنتَشِلُ الحَاضِرَ فِى مللٍ أتذكرُ وجْهَ الأرضِ.. ولونَ النَّاسِ همومَ الوحدةِ.. والسَّجَّانْ سأمُوتُ وحِيدًا قَالتْ عرَّافةُ قريتنَا: ستُموتُ وحِيدًا قد أُشعلُ يومًا مِدْفأتي فتثورُ النارُ.. وتحرِقنِي قد أفتحُ شبَّاكِى خوفًا فيجيءُ ظلامٌ يُغْرقنِي قد أفتحُ بَابِى مهمُومًا كيْ يدخل لصُّ يخنْقنِي أو يدْخل حارسُ قريتِنا يحمِلُ أحكَامًا وقضَايا يُخطئ فى فهم الأحكامْ يُطلِقُ فِى صَدْرِى النيرانْ ويعُودُ يلملمُ أشلاَئى, ويَظلُّ يَصيحُ على قبرِي: أخطَأتُ وربَّى فِى الُعنوانْ الليلةَ أجلسُ يا قلبْي.. والضَّوء شَحيحْ وسَتائُر بيتِى أوراقٌ مزَّقها الرَّيحْ الشاشةُ ضوءُ وظِلالٌ و الوجهُ قبيحْ الخوفُ يكبلُ أجْفانِى فيضيعُ النومْ والبردُ يزلزلُ أعماقِى مثلَ البُركانْ أفتحُ شُباكى فِى صمتٍ يتَسللُ خوْفِى يُغلِقُه فأرَى الأشباحَ بكلَّ مكَانْ أتناثرُ وَحْدِى فى الأركانْ الليلةَ عدْنَا أغرابًا والعُمْر شتاءْ فالشَّمسُ توارتْ فى سأمٍ ٍ والبدرُ يجيءُ بغيرِ ضِياءْ.. أعرفُ عينيك ِوإنْ صرْنا بعضَ الأشلاءْ طالتْ أيامِى أم قَصرتْ فالأمرُ سواءْ قدْ جئتُ وحيدًا للدُّنيا وسأرحَلُ مثلَ الغُرباءْ قدْ أخْطئُ فهمَ الأشْياءْ لكنى أعرفُ عينيكِ فى الحُزن سأعرفُ عينيكِ فى الخَوفِ سأعرفُ عينيكِ فى الموتِ سأعرفُ عينيكِ عيناكِ تدورُ فأرصدُها بينَ الأطيافْ أحملُ أيامَكِ فى صَدْرِي بين الأنقاضِ.. وحينَ أخافْ أنثرُها سطراً.. فسُطورًا أرسُمُها زمنًا.. أزمانًا قدْ يقسُو الموجُ فيُلقينِى فوقَ المجدَافْ قد يغدُو العُمرُ بلا ضوءٍ ويصيرُ البحرُ بلا أصدافْ لكنى أحملُ عينيكِ قالتْ عرافةُ قريتنَا أبحرْ ما شئتَ بعينَيها لَا تخشَ الموتْ تعويذة ُعمْرِى عَينَاكِ يتسللُ عطرُك خَلفَ البابْ أشعرُ بيديكِ على صدْري ألمحٌ عينيكِ على وجْهِي أنفاسُك تحضنُ أنفاسِى والليل ظلامْ الدفء يُحَاصِرُ مدفأتى وتدُورُ النارْ أغلِقُ شبَّاكى فى صمتٍ.. وأعود أنامْ "قصيدة من ليالى الغربة سنة 1986"