عجيب أمر بيرم التونسى، الذى مازال يشع بالحضور ويعبر عن أدق تفاصيل واقعنا العربى المعاصر، رغم أننا قبل أيام قد شهدنا مرور 60 عاما على رحيله !! ولكن كلماته وأعماله الفنية المبدعة مازالت تأبى الرحيل مع جسده. كان بيرم ( 23 مارس 1893- 5 يناير 1961)، أشد الساخرين مرارة ، وأبدع من كتب الأوبريت الغنائى مثل «شهرزاد»، التى لحنها خالد الذكر سيد درويش، ومنها كان أغنية «أحسن جيوش فى الأمم جيوشنا»، ومثل «عزيزة ويونس»، التى لحنها الموسيقار زكريا أحمد، ومنها أغنية «يا صلاة الزين على عزيزة»، وكذلك أوبريت «ليلة من ألف ليلة» للموسيقار أحمد صدقى، والذى أعاد تقديمها المخرج الراحل محسن حلمى، من بطولة النجم يحيى الفخرانى، فحققت أعلى إيرادات فى تاريخ مسرح الدولة وإلى الآن. ويضاف إلى ذلك مئات الأغانى والاسكتشات فى الإذاعة والسينما، وكتابة الحوار السينمائى لبعض الأفلام. وبالطبع كل هذه الأعمال كانت يدا بيد مع أزجاله الاجتماعية والسياسية، التى جمعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب فى 12 جزءا، ولكنها مع ذلك لم تضم كل الأعمال، ويسعى الباحث الدكتور نبيل بهجت، لتعويض هذا النقص، بإعادة إصدار أعمال بيرم الكاملة. ولكن المدهش والمثير حقا، هى حياة بيرم نفسها.. فقد ولد فى الاسكندرية، من جذور تونسية، وتعلم فى الكتاتيب القديمة وثقف نفسه بنفسه. فحفظ «ألفية ابن مالك»، ومئات من قصائد الشعر العربى القديم، ورغم ذلك الإعداد التقليدى، فإنه قرر نهاية الأمر أن يكتب باللهجة التى يفهمها رجل الشارع، واتجه للصحافة الساخرة. ولكنه لم يجد إصدارا يتحمل عواقب نقده اللاذع، فأصدر صحيفة «المسلة»، وكان يملأ صفحاتها المتنوعة وحده. وعندما حاولت الجهات الرقابية، فى ظل الاستعمار الإنجليزى، آنذاك أن توقف مشروعه الصحفى، تحايل عليهم فكتب على رأس الصفحة الأولى «المسلة .. لاصحيفة ولا مجلة»، وكان يطبعها على نفقته ويوزعها بنفسه، وتعاملت معه الرقابة، باعتباره يوزع منشورات سرية ضد النظام، فأراد إبراز تمرده، فطلب من الحكمدار إذنا بالاتجار فى الحشيش، قائلا فى سخرية:»ماهو ما يمشيش معاكم غير تجار الحشيش». وكان يعتقد أنه فى أمان بحكم أنه تونسى الأصل، وتونس وقتها تحت الحماية الفرنسية. وبالتالى يحتاج القبض عليه إلى إبلاغ السفارة الفرنسية، وطالما أن فرنساوانجلترا على خلاف دائم فهو فى أمان مؤقت. ولكن العجيب هو اتفاق انجلتراوفرنسا معا لأول مرة فى التاريخ ، فضلا عن إصدار الملك فؤاد الأول، فرمانا شفهيا بنفيه خارج البلاد، نتيجة زجل ساخر بعنوان «مرمر زمانى يا زمانى مرمر»، يقول فيه علنا ماكان يتهامس به البعض حول علاقات الملك فؤاد، وكانت النتيجة أن قضى التونسى الثائر الجريء 20 عاما منفيا بين تونسوفرنسا وعبر عن ذلك فى قصيدته الشهيرة: الأولة مصر قالوا تونسى ونفوني والتانية تونس وفيها الأهل جحدوني والتالتة باريس وفى باريس جهلوني واضطر بيرم، وقتها للعمل فى منجم فحم، وأصيب بمرض فى الرئة ظل يعانى منه حتى وفاته، وعمل شيالا فى مكتبة فرنسية شهيرة، فكان يسهر فيها كل ليلة يقرأ عيون الأدب الفرنسى، ثم يذهب إلى غرفته الفقيرة، فلا يجد ما يأكله.. ولما زاد حنينه إلى الوطن قرر الهروب والعودة إلى مصر، أيا كانت النتائج. ويصف فى إحدى قصائده قصة هروبه قائلا: وفى بورسعيد السفينة رسيت تفرغ وتملا والبياعين حوطونا بكارت بوستال وعملة لكن بوليس المدينة ماتفوتش من جنبه نملة يا بورسعيد والله حسرة ولسه يا اسكندرية هتف بى هاتف وقال لى انزل ومن غير عزومة انزل دى ساعة تجلى فيها الشياطين فى نومة انزل ده ربك تملى فوقك وفوق الحكومة نطيت فى ستر المهيمن للبر يا حكمدارية واقول لكم ع الصراحة اللى ف بلادنا قليلة عشرين سنة فى السياحة اشوف مناظر جميلة ماشفت يا قلبى راحة فى دى السنين الطويلة إلا اما شفت البراقع واللبدة والجلابية وظل بيرم، مختبئا فى مصر، يخشى الإبلاغ عنه، حتى توسط له الفنان الجميل سليمان بك نجيب، الذى كان وقتها مديرا لدار الأوبرا الملكية، مخاطبا الملك فاروق، طالبا العفو للتونسى، فوافق الملك، شريطة أن يكتب بيرم قصيدة أو زجلا فى مدحه، وبالفعل كتب بيرم أربعة أسطر وهو يقطر ألما، وبعد قيام ثورة 23 يوليو، لم يذكر هذه الأبيات فى أية مناسبة. وبعد العفو، توافد إليه المطربون سعيا وراء أزجاله المبدعة، وعلى رأسهم السيدة أم كلثوم، التى غنت له عشرات الأعمال من أهمها «شمس الأصيل»، و«الورد جميل»، و«أنا فى انتظارك»، و«أهل الهوى يا ليل»، و«القلب يعشق كل جميل»، التى يصف فيها رحلة الحج المباركة بأرق العبارات، فيقول: دعانى لبيته لحد باب بيته واما تجلى لى بالدمع ناجيته كنت ابتعد عنه وكان يناديني ويقول مسيرك يوم تخضع لى وتجيني طاوعنى يا عبدى طاوعنى انا وحدي انا اللى أعطيتك من غيرماتتكلم وانا اللى علمتك من غير تتعلم وإبداعاته تضم أيضا، «أحبابنا ياعين»، و«بساط الريح»، لفريد الأطرش، «شوف أنا فين وأنت فين»، و«المسحراتي» لمحمد فوزى، و«دور يا موتور» لليلى مراد، و«محلاها عيشة الفلاح» لمحمد عبدالوهاب، وعدد رهيب من الأغانى المتنوعة التى تدل على حجم عبقرية «شاعر الشعب» الكبير الباقى فى وجدان كل مصرى وعربى. بيرم التونسى