قطع صغيرة ملونة ترص جنبا إلى جنب، لتغرس فى طبقة مرنة كالجص، فتنصهر الفوارق بينها وتتحول إلى كيان واحد متناغم رغم اختلاف عناصره. ويكون إبداعا جديدا من إبداعات «الفسيفساء»، وللفسيفساء تاريخ طويل وحضور مؤثر عبر الحقب المختلفة للتاريخ المصري، ورغم أنه فن لا يحظى بالاهتمام والتقدير الكافيين إلا أن هناك من يسعى بجد إلى تغيير هذه النظرة. الدكتورة إيمان محسن شهاوي، مديرة الشئون الأثرية بمركز الموزاييك التابع لوزارة السياحة والآثار، قالت إن منتهى آمالها هو: «أن تحتل مصر الصدارة التي تستحقها فى مجال فن الفسيفساء». مهمة ليست بالهينة، ولكن شهاوى عهدت دوما اختيار الطرق المختلفة وغير الممهدة. وهو ما يتأكد باختيارها التخصص فى مجال يندر عدد المتخصصين فيه محليا. تكشف شهاوى للأهرام عن تفرد مصر فى فنون الفسيفساء، مؤكدة أن أراضيها تضم بعضا من أفضل أعمال الفسيفساء دوليا. ورغم ذلك، فإن معظم هذه الأعمال غير موثق وفقا للقواعد اللازمة لصيانة الآثار، مما يزيد من صعوبة المحافظة على هذا «الكنز الفسيفسائي» مستقبلا. وتزداد حدة المشكلة، لمحدودية عدد المراجع المتوفرة والمتخصصة تحديدا فى فنون الفسيفساء المصرية. ويرجع ذلك فى جانب منه إلى عدم وجود «البذرة الأولي»، ويقصد بذلك ندرة الأبحاث والأوراق العلمية المنشورة بهذا الشأن. إن كانت هذه المشكلة، فكيف هو الحل؟ بدأت شهاوى فى إيجاد الحل بالفعل، وذلك بإعداد أرشيف علمى لفسيفساء مصر. ويقوم هذا المشروع على توثيق كل ما يخص هذا الفن من دراسات ومشاريع ترميم وآليات صيانة. ويضم هذا الأرشيف كل ما نشر وعرض من أبحاث بهذا الخصوص سواء داخل مصر أو فى المحافل العلمية الدولية. ووفقا للباحثة السكندرية، التى تشغل أيضا منصب «آثارى أول» بمنطقة آثار الإسكندرية، فان مشروع «الأرشيف» يعد مجرد خطوة فى سبيل الحفاظ على هذا الفن العريق، ووضع بيان بمدارسه المختلفة وحقبه المتوالية فى مصر. وحول أصول هذا الفن وأبرز الحضارات التى أثرت فيه، توضح شهاوى أن كلمة «فسيفساء» ، المعتمدة فى وصفه باللغة العربية، منحدرة أصلا من اللفظة اليونانية «فوسس»، ومعناها «الصغيرة جداً». أما غربا، فيطلق على ذلك الفن، لفظة «الموزاييك»، والتى انحدرت أيضا من اللفظة اليونانية «ميوسس» أى ربات الفنون التسع. وذلك نسبة إلى الزخارف اليونانية بالغة القدم التى كانت تشهد توظيفا فنيا رائعا للموزاييك أو الفسيسفاء. البداية الحقيقية لظهور فنون الفسيفساء كانت فى بلاد الرافدين، العراق، من 3000 عام قبل الميلاد، وتحديدا خلال ما يعرف بعصر الوركاء. ولذلك الفن الأنيق تجلى شهير على «بوابة عشتار» لمدينة بابل، والتى شيدها الملك نبوخذ نصر كهدية لقرينته. واتخذت شكل طوب خزفى يحمل تكوينات بديعة لحيوانات أسطورية وجنود. وقد تم تفكيك هذه البوابة ونقلها إلى ألمانيا، لتعرض حاليا فى متحف برلين. وتستكمل شهاوى استعراض تاريخ «الفسيفساء» بالتوقف عند المدرسة المصرية، والتى بدأت منذ عهد المصريين القدماء، ومن أبرز أمثلتها بلاطات «الفاينس» الأزرق على بعض جدران مصطبة هرم زوسر المدرج، وهى الأعمال المحفوظة حاليا فى متحف «أيمحتب» بسقارة. وكذلك ظهرت بشكل تطعيمات زخرفية، كما فى حالة الحروف الهيروغليفية التى تزين تابوت الكاهن بيتوزيرس فى تونة الجبل بمحافظة المنيا. وتتوقف شهاوى تحديدا أمام ما كان لمدينة الإسكندرية من دور محورى فى تطوير وإثراء هذا الفن. فتضرب الأمثال بأن الأرضية الشهيرة لفسيفساء الإسكندر الأكبر، والمحفوظة حاليا فى متحف نابولي، كان قد تم صنعها أساسا على أيدى فنانين مصريين من الإسكندرية. ومن أبدع أعمال الفسيفساء التى احتضنتهم أراضى الإسكندرية، كانت لوحتى «الكلب» و»المصارعين» واللتين ترجعان إلى العصر الهلنستي، وعثر عليهما أثناء عمليات الحفر لتشييد مكتبة الإسكندرية، ليعرضا حاليا فى متحف المكتبة. وكذلك لوحتا «النمر» و«الطيور» من العصر الروماني، وتعرضان حاليا فى فيلا الطيور بكوم الدكة بالإسكندرية. وكانت الإبداعات العراقية والمصرية مجرد تمهيد لما كان من ثورة فنون «الفسيفساء» فى الحضارة اليونانية. وبلغ فن «القطع المتراصة» قمة ازدهاره فى القرن ال15 قبل الميلاد بمدينة بيلا عاصمة مقدونيا. فهناك تم اكتشاف أرضية فسيفساء مبهرة تعود للقرن ال 8 قبل الميلاد، حيث تعتبر من أقدم الأرضيات، ومنفذ عليها زخارف هندسية مصنوعة من الحصي. وحول فنون الفسيفساء تحت مظلة الإمبراطورية الرومانية، تشير شهاوى الى مجموعة الأعمال التى تسمى «النيلوسينس» أو «المشاهد النيلية»، التى تصور عناصر الحياة المصرية وأبرزها نهر النيل. ومن أبرز أمثلة هذه المجموعة كانت لوحة «باليستيرينا» فى روما، والتى تجسد نهر النيل بمحيطه الطبيعي. وكذلك لوحات البردى وزهرة اللوتس. وتشير شهاوى إلى أن مكانة مصر وتأثير ثقافتها الواسع قديما وحاضرا، جعل الاستعانة بمفردات حضارتها أمرا متكررا فى أعمال الإبداع الفنى حول العالم. ويضاف إلى ذلك ما كان حينها من انتشار عبادة الإلهة إيزيس المصرية فى نطاق الإمبراطورية الرومانية. فكانت تلك الأعمال الفنية أداة للتقرب وتقديم فرائض الطاعة والمحبة إلى إيزيس. وانتشرت أعمال الفسيفساء المستوحاة من البيئة المصرية فى بقاع أخرى من العالم، كما فى شمال إفريقيا.