هذه أهم انتخابات أمريكية فى الذاكرة الحية. أين تذهب أمريكا بعدها؟ هو السؤال الذى يترقبه العالم، فالأرضية فى أمريكا ممهدة لمواجهة درامية على المستوى الشعبي، والسياسي، والدستوري. وتبدو البلاد فى حالة حرب مع نفسها، وسط مشاعرملتهبة وثقة تبدو معدومة بين مكونات الطيف السياسي. وهى الحالة التى يلخصها المؤرخ الأمريكى جوناثان زيمرمان ل «الأهرام» بقوله: «المسألة ليست أن هذا الطرف أو ذاك يختلف مع الطرف الآخر فى السياسات الضريبية أو الصحية، المسألة أن كل طرف يعتقد أن الآخر إذا فاز سيدمر أمريكا». على المستوى الشعبى هناك استقطاب وتأهب غير مسبوق. والسيناريو الذى يتخوف منه الجميع، هو اضطرابات عنيفة فى الشوارع الأمريكية رفضا للنتائج، ما يدخل أمريكا فى أزمة سياسية كبيرة. ووسط كل هذا تُظهر الانتخابات المدى الذى وصل إليه ضعف الثقة فى المؤسسات الأمريكية. فكثير من أنصار الديمقراطيين يحذرون من اللجوء للمحكمة الدستورية العليا (يتمتع فيها القضاة المحافظون بأغلبية 6 أصوات مقابل 3) فى حالة الاختصام مع الجمهوريين حول نتائج الانتخابات. ويريد كثير من الديمقراطيين أن يكون الكونجرس هو الفيصل فى أى خلافات، وهو خيار رفض آل جور اللجوء إليه فى انتخابات 2000 أمام جورج بوش الابن. لكن كثيرا من الديمقراطيين يقولون اليوم إنه فى حالة سيناريو مشابه، يجب هذه المرة اللجوء للكونجرس. وبموجب الدستور الأمريكي، فإن الكونجرس هو الجهة النهائية التى لها حق حسم المسائل المتعلقة بالتصويت وإحصائه. ويعتقد البعض أن المحكمة الدستورية العليا بعد أزمة 2000 ستقرر من تلقاء نفسها عدم التورط فى أى نزاع قانونى محتمل فى هذه الانتخابات، وستترك الحكم النهائى للكونجرس. لكن إذا قررت المحكمة الدستورية عدم إعفاء نفسها من الحكم فى أى اختصام محتمل، فإن الفرق القانونية للمعسكر الديمقراطى تهدد باللجوء للكونجرس، فى خطوة ستكون بمثابة رسالة حول عدم الثقة فى المؤسسة القضائية الأمريكية. الضعف المؤسسى لا يقتصر على دور المحكمة الدستورية، بل على قوة الحزبين الكبيرين خلال الأيام المقبلة. فالرئيس ترامب إذا سارت النتائج على عكس ما يريد، قد يشكك فيها ويحاول الطعن فى شرعيتها. تقليديا لا يستطيع أى مرشح بمفرده خلق أزمة حول شرعية النتائج دون دعم من مؤسسات الحزب والسلطات الفيدرالية. لكن ترامب ليس سياسيا عاديا، وهو أكبر من الحزب الجمهوري، وتغريداته قد تدفع مؤيديه للتحرك بمفردهم لتحدى النتائج. هذا السيناريو إذا حدث سيوضح مقدار الضعف الذى وصل إليه حزب إبرهام لينكولن. والأيام المقبلة تحتاج إلى حسن نية وتواصل بين الحزبين الكبيرين لحماية البلاد من سيناريو العنف، لكن حسن النية أصبح سلعة صعبة المنال فى أمريكا. انتخابات أمريكا مهمة، لكن مستقبل أمريكا لا يعتمد على النتائج وحدها. فهذه مجرد جزء من الصورة. فخلال السنوات القليلة الماضية، صدرت عشرات الكتب عن ترامب، تصف شخصيته المتقلبة وعدم إلمامه بالتفاصيل، ورفضه لسماع الآراء المخالفة، وعدم ثقته فى أحد، إلا فى الدائرة المقربة منه، خاصة أفراد عائلته. وفى هذه الكتب أيضا حكم نقدى لاذع لكل إدارته، والصراعات بين كبار المسئولين. حصيلة هذه الكتب تعطى انطباعات زائفة، بأنه فى حالة خروج ترامب من البيت الأبيض سيعود كل شيء على ما يرام. وهذا غير صحيح. فسواء بقى ترامب أو جاء بايدن، أمام أمريكا طريق طويل وصعب للتعافى من الاستقطاب العرقى الحاد، والآثار الصحية والاقتصادية لفيروس كورونا، واستعادة مكانتها على المسرح الدولي، ورأب الصدع بينها وبين حلفائها حول العالم. وهذه كلها مهام صعبة. ويقول جوناثان هوبكنز، أستاذ السياسات المقارنة فى «مدرسة لندن للعلوم الاقتصادية» ل«الأهرام»، إنه حتى إذا هُزم ترامب، فإن التيار الشعبوى الذى قاده لدخول البيت الأبيض لن يختفى أو يضعف، موضحا: جذور التيارات الشعبوية المعارضة للنخبة ما زالت متقدة، لأن ظروف نشأتها لم تتغير لا فى أمريكا ولا فى أوروبا. واختفاء شخص واحد لا يغير من هذه الحقيقة. ويحذر هوبكنز، من أن التيار الشعبوى وبسبب فيروس كورونا وآثاره الاقتصادية، سيتعزز أكثر لو لم تكن هناك إصلاحات جذرية. يوضح تصويت الأمريكيين لترامب فى 2016 فى الولايات التى تعد معاقل للحزب الديمقراطى أن غالبية الغاضبين فى أمريكا لم يجعلوا مسألة الانتماء الحزبى تقف عقبة أمام تصويتهم لترامب قبل أربع سنوات، عندما وعد بظروف اقتصادية أفضل. وفى استطلاعات الرأى الأخيرة، تتفق أغلبية كبيرة من الناخبين الديمقراطيين والجمهوريين، على حد سواء، على أن الإدارة الأمريكية الجديدة، سواء بزعامة ترامب أو بايدن، يجب أن تواصل الدفاع عن الطبقة العمالية والطبقة الوسطى الأمريكية أمام الصين، وأن تواصل حماية الصناعات الأمريكية، وتعزز مساعدات الدولة للمزارعين وأصحاب الأعمال. وهذا يشبه ما وعد به ترامب فى 2016 و2020. وسواء انتخب الرئيس الأمريكى أو جاء بايدن، فإن الناخب الأمريكى يتوقع رئيسا يستمع إلى مطالبه. ففى العصور الوسطى، عندما بدأت الامبراطوريات فى التراجع، تجلى ذلك فى هزائم عسكرية. أما اليوم، فتراجع القوى العظمى يبدأ من الداخل، وهذا هو المحك فى هذه الانتخابات، حيث تجد أمريكا نفسها فى مفترق طرق وأمام لحظة اختيار مصيرية. * نقلًا عن صحيفة الأهرام