د. سليمان عبدالمنعم فى لحظات إراقة دماء البعض وتحقير معتقدات البعض الآخر تبرز أسئلة كبرى تحتاج إلى شجاعة أكبر لطرحها، ودرجة أكبر وأكبر من الإنصاف لمواجهتها. وما حدث فى فرنسا منذ نشر الرسوم الكاريكاتورية عن النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) وإعادة نشرها، ثم عرضها فى فصل دراسى لتلاميذ مدرسة من جانب معلم هو صمويل باتى والذى سرعان ما قتله أحد المتطرفين بطريقة وحشية ومروّعة، وما تضمنه خطاب الرئيس الفرنسى ماكرون فى 2 سبتمبر الماضى من عبارة أن الإسلام فى أزمة بالرغم من تشخيصه الموضوعى لأزمة اندماج المسلمين فى فرنسا كدولة علمانية بنص دستورها.. كل هذه المعطيات والوقائع، القديمة والحديثة، جعلت كل طرف (المسلمون وفرنسا) لا يرى إلا خطأ الآخر بقدر ما يعتقد فى نفسه أنه الضحية. هكذا تبدو مقولة الإسلام فى أزمة وقد أنتجت بذاتها أزمة أخرى أشد وأعمق، ففرنسا دولةٌ علمانية تأسست على قيم الجمهورية والمواطنة وحريات الرأى والتعبير، وسبق أن عانت كثيراً من ويلات التفجيرات والحوادث الإرهابية على أراضيها، وهى الدولة الملاذ لستة ملايين مسلم يقيمون فيها ويعملون ويعيشون ويتعلمون ويأمنون. والمسلمون أسرى تاريخهم وصراعاتهم وتخلفهم الذى جعل بعضهم يواجه حماقة رسم كاريكاتورى ساخر بحماقة أنكى وأفظع وهى القتل. ولهذا لا بد من محاولة فهم الأزمة من منظور سياسى قبل البحث عن كيفية مواجهتها من منظور قانونى باعتباره مرجعية لحسم جزء كبير من اللغط والجدل الدائر حولها. فيما يتعلق بالفهم السياسى، فالأزمة تكمن فى نزعة التعميم الشديد فى مقاربة الرئيس الفرنسى للإسلام، وهو تعميم غير واقعى وغير علمى وغير تاريخى يصعب تفسيره بغير الحسابات السياسية للرئيس ماكرون نفسه وهو مقبل على انتخابات جديدة يسعى فيها لاستقطاب الناخبين اليمينيين. يقول ماكرون إن هناك أزمة، وبالفعل ثمة أزمة بل أزمات فى معظم المجتمعات الإسلامية. أزمة تنظيمات إرهابية اشتبكت معها فرنسا تارةً كدولة ضمن التحالف الغربى فى بعض حروب المنطقة وتارةً أخرى بتوظيفها السياسى والاستخباراتي. أزمات جهل وأمية وفقر وتخلف. أزمات اجتهادات متطرفة أساءت إلى الشرع الحنيف ومقاصد الإسلام بقدر ما أساءت إلى الآخرين. وليس من الشجاعة أن ننكر ذلك أو نتجاهله. لكن كم عدد الإرهابيين والمتطرفين على امتداد عالم إسلامى يضم نحو المليار ونصف المليار مسلم؟ وهل يقبل الرئيس الفرنسى أن توصف فرنسا كلها بأنها دولة متطرفة وعنصرية لمجرد أن فيها حزباً متطرفاً عنصرياً تمثل كراهية الغير جزءاً من أيديولوجيته هو حزب التجمع الوطنى (الجبهة الوطنية سابقاً)؟ ولو أن ماكرون وهو مفوّه لبق الحديث استخدم التعبير الأكثر دقةً علمية وملاءمة سياسية فى الحديث عن الإسلام لما حدث كل ما حدث. وسط هذا المناخ يتعين الاحتكام للعدالة كمرجعية ومخرج وحل. والعدالة بالمفهوم الاصطلاحى تشمل القوانين السائدة ووسائل الانتصاف القضائى باللجوء إلى المحاكم الفرنسية نفسها والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. انطلاقاً من هذه المرجعية فالسؤال ببساطة هو ما إذا كانت حرية التعبير مطلقة من أى قيد أم أن ممارستها الصحيحة مشروطة باحترام حقوق وقيم أخرى هى نفسها محمية قانوناً؟ سؤال ثان هو هل يضمن القانون الفرنسى الذى يُجرّم التحقير العنصرى والتحريض على الكراهية لسبب يتعلق بالدين حماية متساوية لكل أصحاب المعتقدات الدينية، أم أنه يمارس التفرقة وينطوى على الازدواجية بما يجعله أى القانون الفرنسى نفسه قانوناً تمييزياً، وتلك مفارقة كبرى! عن السؤال الأول فالثابت قانوناً والمكرّس قضاءً أن حرية التعبير مقيّدة بعدم انتهاك حقوق أخرى يضفى عليها القانون حمايته أيضاً إذ لا يُعقل أن تتضارب الحقوق داخل نظام قانونى واحد. ولهذا فإن العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية ينص فى مادته 19 على أن ممارسة حرية التعبير تستتبع واجبات ومسئوليات خاصة، وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود الضرورية لاحترام حقوق الآخرين، ثم تضيف المادة 20 حظر أى دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضاً على التمييز. والتشريع الفرنسى نفسه يُجرم التحريض على الكراهية أو التمييز العنصرى بسبب متعلق بديانة شخص أو مجموعة أشخاص، وهذه جريمة يعاقب عليها منذ صدور القانون الشهير بشأن حرية الصحافة فى يوليو 1881 والمعدّل بتشريعات لاحقة شتى. هكذا أصبح من المسلمات القانونية أن التحريض على الكراهية أو التمييز العنصرى لسبب يتعلق بالانتماء الدينى يمثل فعلاً محظوراً يجعل من ممارسة حرية التعبير بكتابة أو قول أو رسم أو أى وسيلة للتعبير الفنى جريمة فى حد ذاتها. صحيحٌ أن القانون الفرنسى يكفل حرية الاعتقاد الدينى إلى درجة إباحة حرية الكفر والزندقة leblasphème ، لكن حرية الاعتقاد الدينى شيء والتحريض على كراهية ذوى انتماء دينى معين شيء آخر. فرنسا تعتمد فى هذا على تقاليد وأعراف سياسية وثقافية تتسامح فى التجاوز بشأن ممارسة حرية التعبير حتى فيما يتعلق برموز الديانة المسيحية أحياناً، وللقضاء الفرنسى تطبيقات عديدة يقر فيها بهذا التسامح، لكنه لم يتردد فى أحيان أخرى فى إصدار أحكام بالإدانة عن التجاوز فى هذه الممارسات بما يمثل جريمة تحريض على الكراهية. جزء من المشكلة أن لدى المسلمين حساسية شديدة تصل لحد الإشكالية فيما يتعلق بالسخرية من رموزهم الدينية الذين ماكانوا ليتسامحوا مع هذه السخرية لو كانوا يعيشون بيننا اليوم، بل ولدى المسلمين أحاديث ومأثورات تنهى عن الانشغال بمثل هذه الإساءات أو ترديدها وتداولها. والأغرب أن سلوك الكثيرين منهم فى الدفاع بالعنف بل والتضحية بالنفس أحياناً دفاعاً عن رموز دينية هم أنفسهم أبعد ما يكونون عن الالتزام بأخلاقها ومبادئها. أما السؤال الثانى الأكثر دقة فهو ما إذا كان التشريع الفرنسى يتبنى حريات التعبير ويطلقها بهذا الشكل فى مواجهة كل المعتقدات الدينية وذوى الانتماء القومى أو العرقي، أم أنه يمارس الازدواجية القانونية؟ الواقع القانونى الفرنسى كاشف وصارخ فى هذه المسألة حينما يُجرّم معاداة السامية التى تعتبر أن تحقير اليهود بسبب انتمائهم الدينى جريمة لا يمكن التساهل بشأنها. هنا نقطة الضعف الأبرز ومظهر التناقض الشديد والمحيّر فى المعالجة التشريعية فى دولة مثل فرنسا أكبر مظاهر قوتها الناعمة ومكانتها القانونية أنها تُجسد قيم حقوق الإنسان ومبادئ الحرية والمساواة والإخاء بما لا يتسق أو يستقيم مع تكريس ازدواجية تشريعية نربأ ب القانون الفرنسى أن يظل موصوماً بها. لكن هل يسود التفاهم والسلام والاحترام المتبادل بفرض معالجة هذه الازدواجية القانونية فى فرنسا بل وبفرض صدور حكم قضائى بإدانة تجاوزات حرية التعبير بحق المسلمين؟ هذا واجب الآخرين، أما نحن فنحتاج فى الواقع لأن نصلح أنفسنا، وطرائق تفكيرنا، وردود أفعالنا حتى اندحار آخر جماعة متطرفة إرهابية فى ديارنا. لن يتوقف الإرهاب تماماً لأننا أحياناً لا نعرف من يستخدمه ولمصلحة من ينحر الإرهابيون الأبرياء. لكن آن لكل هذا أن يتوقف. * نقلًا عن صحيفة الأهرام