لم يكن السودان الشقيق وشعبه الطيب في حاجة إلى مآس جديدة فهو لم يخرج سالمًا من ثلاثين عامًا من الاستبداد في عهد رئيسه المخلوع عمر البشير ، كان الرجل قد وصل بشعبه إلى أعلى درجات الفقر والحرمان والتخلف، وأخذ آخر ما بقى في خزينة الدولة، وخرج السودانيون يحاكمون رئيسهم المخلوع، ويطالبون باسترداد أموالهم وعودة حريتهم وكرامتهم بعد سنوات من النهب والحرب والتخلف.. لم يترك البشير للسودان مواكب الفقر فقط كان قد فتح كل الأبواب أمام حروب أهلية دمرت كل شيء في جنوب السودان، لا أحد يعلم عدد الضحايا في عشرين عامًا، ولا أحد يعلم كم من الأموال خسر السودانيون في هذه الحرب التي انتهت بانفصال الجنوب في دولة مستقلة، رغم أن قوة السودان الحقيقية كانت في وحدة شعبه وأرضه وقدراته.. لم يكن البشير حريصًا على وحدة السودان، ولهذا سرعان ما أنهى كل شيء وارتكب أكبر خطيئة في حق الشعب السوداني حين مزق نسيجه الاجتماعي والإنساني، وفتح الحروب أمام أبناء الشعب الواحد.. لم يكتف البشير بانفصال الجنوب وإعلان دولته المستقلة، واقتطاع جزء عزيز من الأرض والشعب والمستقبل، ولكنه سرعان ما دخل في مغامرات أخرى في دارفور وكردفان، وبدأ مسلسلات من الحروب الأهلية التي أشعلت الفتن بين القبائل، ويبدو أن البشير وجد في الحروب الأهلية فرصة من أجل بقائه في الحكم، ولهذا حاول أن يمد عمر هذه المعارك ولا يسعى للوصول إلى حلول فيها.. كان من الصعب أن يتحمل الاقتصاد السوداني أعباء هذه الحروب وكان الأصعب أن تجتمع الحرب مع أساليب النهب التي قام بها البشير مع العصابة الحاكمة، وهناك أرقام تسربت في محاكمة البشير تؤكد أن لديه 30 مليار دولار في حساباته الخاصة، وأنه ضيع على الشعب السوداني 750 مليار دولار في سنوات حكمه، وأن مشروعات الخصخصة التي باعها بلغت مئات الملايين من الدولارات، وأن الاقتصاد السوداني قد انهار تمامًا حتى آخر أيام حكم البشير فلم يكتف بتكاليف الحرب أو النهب أو البيع والخصخصة، ولكنه استباح وأسرته وإخوته أموال الشعب السوداني دون حساب أو رقيب أو ضمير.. وحين خرج البشير من السلطة كان السودان مديونًا لدول كثيرة تجاوزت أرقامها 60 مليار دولار، وكانت الحرب مشتعلة وكانت تجارة العملة هي النشاط الاقتصادي الوحيد، وكانت الخدمات والمرافق قد وصلت إلى أسوأ حالاتها أمام إهمال دام ثلاثين عامًا ما بين المدن الرئيسية والقرى البعيدة والجزر في قلب النيل.. كانت السدود التي تتناثر على شطآن النيل قد وصلت إلى أسوأ حالاتها من الانهيارات.. خرج الشعب السوداني في ثورة سلمية واستطاع في شهور قليلة أن يسترد شيئًا من حريته، وأن تلتقي قوى الشعب والجيش في منظومة جديدة تقوم على سلامة الوطن، واحترام الشعب، ومواجهة التحديات، وحاول طرفا السلطة عبدالفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك أن يواجها ما خلفته السنوات العجاف، فكان الحوار مع أمريكا والدعم من الاتحاد الأوروبي، و الخروج من منظومة الإرهاب ، وقبل ذلك كله اتفاقية وقف الحروب الأهلية بين القوى الوطنية المتصارعة.. كان السودان يخوض معركة حياة مع مصر في سد النهضة بإثيوبيا وكانت المعركة قاسية، وكانت سببا في تقارب مصرى سودانى افتقدته العلاقات بين البلدين سنوات طويلة أمام حساسيات سياسية في عهود سبقت.. كان سد النهضة من أهم الأوراق التى التقت فيها العلاقات بين مصر والسودان.. حتى أسابيع قليلة كانت هناك بشائر كثيرة تؤكد أن السودان يمضى ويتجاوز كل التحديات ابتداء بالعلاقات مع الغرب أمريكا والاتحاد الأوروبي، مرورا على روسيا والصين، وأن صيغة الحكم التى وضعها السودانيون بقدر كبير من الوعى والحكمة بين الجيش والقوى المدنية توشك أن تكون نموذجًا ناجحًا.. وسط كل هذه الرؤى المتفائلة على المستوى السياسى والاقتصادى والأمنى جاءت الكارثة وهبطت السيول والأمطار والفيضانات على المدن الآمنة والشعب المسالم، وكانت المفاجأة أكبر من قدرات مؤسسات الدولة وخدماتها على التحمل، وكان من الصعب أن تحاسب نظامًا وليدًا وحكومة عمرها بضعة أشهر على أخطاء ثلاثين عاما من الخراب لم تصلح سدا ولم تمنع فيضانا، ولم تواجه مثل هذه الآثار المدمرة التى أغرقت المدن بالكامل حتى وصلت إلى القصر الرئاسى.. كانت الحكومة الجديدة بجيشها وشعبها لا تملك أموالاً أمام خزائن منهوبة وعصابات سرقت وطنًا.. كان غياب الحكومة شيئًا عاديًا أمام محنة ضخمة واحتياجات مستحيلة.. لا شك أن صور الدمار والموت التى اقتحمت المدن وأغرقت القرى وسقط فيها عشرات القتلى وآلاف البيوت، كانت أكبر من كل قدرات الشعب السوداني الذي أنهكته الحروب ودمرته الفيضانات والسيول، ولا يمكن أن تحاسب حكومة عمرها شهور على كوارث عمرها سنوات.. إذا كان ولابد من الحساب فإن الخطوة الأولى أن يسترد الشعب السودانى أمواله من البشير وعصابته، وإذا كان هناك من يؤكد أن أمواله بلغت 30 مليار دولار فهذا المبلغ وحده يكفى لإنقاذ المدن من الغرق.. إن السودان يعيش الآن محنة قاسية، وكل شبر من أرض السودان فيه خيرات كثيرة، والمهم الآن أن تعود للشعب خيراته.. إن دور الحكومة الجديدة وهى تواجه قدرها أن تعيد للشعب ثرواته، إن القضية الآن لم تعد صراعًا بين الأحزاب أو حروبًا بين القبائل، ولكننا أمام شعب يموت غرقًا والمطلوب إنقاذه.. إن صور السدود التى انهارت والمدن التي غرقت والقرى التي دمرت والبشر الذين ماتوا كل هذه الأشياء تحتاج من ينقذها.. كانت صورة الحيوانات النافقة وهي تندفع من أمام السيول صورة مؤلمة، وكان الأطفال يصارعون الموت غرقًا، بينما التماسيح تنقض على الأحياء منهم.. إن قضية السودان الأولى الآن أن يحمى شعبه ويواجه هذه الكوارث ويعيد للناس الأمن والحياة.. لقد أرسلت مصر كل ألوان الدعم للسودان، واندفعت أسراب من الطائرات تحمل الغذاء والدواء والخيام، وإذا كان هذا جهد الحكومة وقواتنا المسلحة، فأنا أتصور فتح صندوق لجمع التبرعات من المواطنين لمصلحة الشعب السوداني ، وأنا على يقين أن فقراء مصر قبل أغنيائها سوف يساهمون في هذا الصندوق، سواء كانت التبرعات والدعم ماليًا أو عينيًا.. عندى إحساس بالتقصير تجاه كارثة السودان ، أشعر أن العالم لم يتفاعل مع هذه المحنة كما ينبغي لا الغرب ولا الشرق ولا أمريكا ولا الاتحاد الأوروبي، لا أحد وقف مع السودان في محنته، وحتى الدول العربية كل مشغول في أحواله وقضاياه وصفقاته.. وإن كان السودان يدفع ثمن رفضه التطبيع مع إسرائيل تنفيذًا لمطالب أمريكا.. كنت أتصور أن تصل إلى مطار الخرطوم مئات الطائرات تحمل المعونات ابتداء بالخيام لإنقاذ الغارقين في السيول، وانتهاء بالطعام ومياه الشرب والأدوية، خاصة أن العالم يعاني كارثة كورونا وهي لم تترك بلدًا حتى الآن.. إن حكومة السودان الحالية برئاسة عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري وعبدالله حمدوك رئيس الوزراء، وهذا الفريق من المسئولين وسط هذه الكارثة مطالب بالصمود أمام هذه السيول والفيضانات والأمطار، خاصة أن الأزمة تزداد تعقيدًا، وأن الخبراء يؤكدون أن مواسم الأمطار، لن تنتهي قريبًا.. إن السودان في حاجة إلى دعم دولي أوروبي عربي، لأن المحنة أكبر من قدرات أي دولة وحجم المأساة بما نراه تحول إلى كارثة إنسانية تتطلب وقفة من العالم، وليس من دولة واحدة.. السودان يحتاج إلى مؤتمر دولي لإنقاذ شعبه.. ويبقى الشعر مَاذا تَبَقّى مِنْ بلاد الأنْبَياءْ.. لا شَىْءَ غَيْرَ النَّجمَةِ السَّودَاءِ.. تَرْتَعُ فِى السَّمَاءْ.. لا شَىْءَ غيْرَ مَواكِبِ القَتْلَى.. وَأنَّاتِ النِّسَاءْ لا شَىْءَ غَيْرَ سُيُوفِ دَاحِس الَّتِى غَرَسَتْ سِهَامَ الموْتِ فِى الغَبْرَاءْ لا شَىْءَ غَيْرَ دِمَاءِ آلِ البَيْتِ.. مَازالتْ تُحاصِرُ كرْبَلاءْ فالكَوْن تابُوتٌ.. وَعَيْنُ الشَّمْس مِشْنَقَة ٌ وَتاريخُ العُرُوبَةِ.. سَيْفُ بَطش أوْ دِمَاءْ
مَاذا تَبَقَّى مِنْ بِلادِ الأنْبيَاءْ خَمْسُون عَامًا وَالحَنَاجرُ تمْلأ الدُّنيا ضَجيجًا.. ثُمَّ نبتلعُ الهَوَاءْ خَمْسُونَ عَامًا.. وَالفوارسُ تحْت أقدَام الخُيُولِ تئنُّ في كمدٍ.. وتصْرُخُ في اسْتياءْ خمْسُونَ عامًا في المزادِ وكلُّ جلادٍ يُحَدِّقُ في الغنِيمةِ.. ثمَّ ينهبُ مَا يشاءْ خَمْسُون عَامًا والزَّمانُ يدُورُ في سَأم ٍبنَا فإذا تعثَّرت الخُطى عُدْنا نُهَرْولُ كالقطيع.. إلى الوراء خمْسُون عامًا نشربُ الأنخَابَ منْ زمَن الهَزَائِم نُغْرقُ الدُّنيا دُمُوعًا بالتَّعَازى.. وَالرثَاءْ حَتَّى السَّماءُ الآن تُغْلقُ بَابَهَا سَئمَتْ دعَاءَ العَاجزينَ.. وَهَل تُرَى يُجْدى مَعَ السَّفه الدُّعاءْ؟
مَاذا تَبقَّى منْ بلادِ الأنبَياءْ؟ أتُرى رأيتمْ كيْف بدّلت الخُيُولُ صَهيلهَا فى مهْرجَان العَجْز.. وَاختنقتْ بنَوباتِ البُكاءْ.. أترَى رأيتُمْ كيْف تحْترفُ الشُّعُوبُ الموْتَ كيفَ تذوبُ عشقَا في الفنَاءْ؟ أطفالُنا في كلِّ صُبْح ٍ يَرْسُمُونَ على جدار العُمْر خيلا لا تجِىءُ.. وَطيف قنديل ٍتناثر في الفضَاءْ.. والنَّجمة ُالسَّوْداءُ ترتعُ فوْقَ أشْلاء الصَّليبِ تغوصُ في دَم المآذِن ِ تسْرقُ الضَّحكاتِ منْ عين الصِّغَار الأبريَاءْ