د. سليمان عبدالمنعم طبيعيٌ أن يوجد فى مصر وبلاد العرب رجال أعمال أذكياء ولامعون، لكل منهم ميزةٌ ما، وإلا لما أصبحوا ناجحين. لكن يبقى الشيخ صالح كامل رحمه الله (1941-2020) الذى انتقل إلى دار الحق بعد مسيرة طويلة من العمل والإنجاز حالةً خاصة لرجل أعمال ذى خصال إنسانية نبيلة وشخصية آسرة. لكن النجاح فى حالة الرجل الذى أحبه كل من عرفه ليس فقط لأنه أسّس المئات من الشركات والبنوك والمؤسسات فى أكثر من أربعين دولة فى العالم، ولكن أيضاً لأنه كان نموذجاً لرجل عصامى، بسيط، متواضع، مكافح، محب، متصالح مع نفسه. بدأ خطواته الأولى يجمع فى آن معاً بين الدراسة والعمل. كان يذهب إلى مدرسته وجامعته، فى يده كتابٌ وفى اليد الأخرى فكرةٌ صغيرة أو منتج بسيط يسوقه لزملائه، وفى العطلات الدراسية يواصل العمل والترحال. وكانت هذه الحكايات مبعث فخره لا يمل من روايتها ربما بأكثر من فخره بالصروح والمنشآت الاقتصادية والمالية التى شيّدها. لم تنسه نجاحاته وإنجازاته الكبيرة مشاق البدايات التى ربما يسعى آخرون إلى طمسها وحذفها من مسيرة حياتهم لأن حالة من السلام الداخلى والرضا والثقة بالذات ظلت تلازمه حتى الأيام الأخيرة من حياته الحافلة بالمثابرة والعطاء. لم تكن المسألة فى حياة صالح كامل هى أن يؤسس كل فترة شركة أو مصرفاً أو يطلق مشروعاً أو مبادرة بقدر ما كانت المسألة هى شغفه ب الأفكار الجديدة وارتياد الطرق غير المألوفة وحماسة البدء وكأنه شاب فى العشرين. قابلته مرات عدة فى العامين الأخيرين فى جلسات مطوّلة فبدا برغم إرهاقه البدنى صاحب ذهن بالغ اليقظة وروح متفائلة وتمكن من الحديث بلغة فصيحة بها طلاوة، ونبرة صوت رخيم لم تغيره السنون. كانت شخصيته تجمع بين رجل أعمال ناجح وصاحب رؤية يتفاعل مع كل فكرة جديدة مهما تبدو غير تقليدية. كان هذا الرجل الذى أمضى حياته منذ بواكير شبابه مؤمناً ب اقتصاد السوق وحرية التجارة ، وبالتالى يعتبر بالممارسة والنظرية رجلاً رأسمالياً، لكن المدهش والمثير للإعجاب أن صالح كامل الرأسمالى الشهير كان مقتنعاً أشد الاقتناع بفكرتين فيهما نفسُ إنسانى فوّاح من أفكار العدالة الاجتماعية والتكافل والملكية الجماعية. فقد كان الراحل الكبير مولعاً بفكرة الاقتصاد التشاركى كنموذج حداثى يقوم على ما يشبه اللاملكية، ومن المعروف أن بلداً مثل كوريا الجنوبية بدأت تُدخل نتائج الاقتصاد التشاركى ضمن الناتج المحلى الإجمالى. كان يتحدث عن هرم التقوى وعن صفة القوى الأمين كأنجع أسلوب إدارى لاختيار موظف أو مدير. وكانت له رؤية اقتصادية تكافلية تقوم على فكرة أن الله استخلف الانسان فى المال على الأرض، وأن هذا الاستخلاف ينظم علاقة الإنسان بالثروة ويهذب غريزة التملك ويجعل المال فى يد الإنسان وسيلة لقضاء المصالح وحاجات الناس وليس غاية فى حد ذاته. كان صالح كامل رحمه الله يؤمن بالمسئولية الاجتماعية لرأس المال بكل أبعادها الخيرية والتنموية والثقافية، وكانت أعماله ومبادراته الخيرية الموجهة إلى الفقراء وذوى الحاجة جزءاً لا يتجزأ من مشروعه الاقتصادى الكبير وقام بمأسسة هذه الأعمال الخيرية من خلال كيانات دائمة تقدم الدعم والمساعدة لأعداد غفيرة من البشر فى أكثر من بلد عربى، كما أنشأ وأسهم فى دعم الكثير من المؤسسات غير الربحية فى شتى المجالات التعليمية والثقافية. امتزجت قيمه الخيرية بسلوك يومى بالغ التواضع والبساطة والتآخى الإنسانى. حدث أن تناولت فى بيته الغذاء أكثر من مرة فى جدة والجيزة لألحظ أن المائدة الكبيرة التى نجلس حولها تجمع العاملين البسطاء فى منزله يناديهم ويتحدث معهم فى ألفة وبلا تحفظ كما لو كانوا أفراداً من أسرته. أما أبناؤه فأول ما يفعلونه حينما يدخلون عليه هو أن يلثموا يده أو رأسه لأدرك أن الرجل الصالح قد غرس فحصد فى بيته قيم وسلوكيات الاحترام الأسرى التى تبدو اليوم أحياناً كتقاليد وآداب تآكلت فى زمن الحداثة المزعومة. كان صالح كامل أحد الداعمين الكبار لفكرة المصارف الإسلامية وربما يعتبر أيضاً أحد روادها، وترأس المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية وغرفة التجارة الإسلامية. كان حماسه شديداً فى الفترة الأخيرة لفكرة اقتصاديات الثقافة والمعرفة مقتنعاً أن لدينا فى كل البلدان العربية تراثاً ثقافياً لم نستطع بعد تحويله إلى قطاع اقتصادى متكامل ومنتج لا يجب اختزاله فى القطاع السياحى فقط. كان يؤمن بقدرة الإنسان العربى على الإنجاز والابداع وأنه يتعين توظيف هذه القدرات فى سلع وخدمات إبداعية ذات مردود اقتصادى. كان للراحل الكبير فيما يتعلق بالعلاقة بين المسلمين والغرب رؤية تصالحية تتسم بقدر كبير من الإنصاف والشجاعة فى الاعتراف بفضل الغرب علينا جنباً إلى جنب مع إيمان واثق بالذات الإسلامية التى تعانى التفاوت بين السلوكيات والقيم. لا أنسى عبارته ذات مرة وهو يقول إن علينا أن نشكر الغرب وندين بالفضل لهؤلاء الذين لولا مخترعاتهم وصناعاتهم ومنتجاتهم وأدويتهم لكنا اليوم نعانى، لكنه كان يفرّق بين سياسات الغرب وبين منجزه الحضارى الإنسانى. وبقدر ما كان منصفاً وموضوعياً فى تقييمه للغرب كان يعتز بانتمائه الإسلامى شديد الاقتناع بأن الإسلام يقدم رؤية كاملة للتقدم الإنسانى فيما لو أحسنا التركيز على المقاصد الكلية للشريعة. وكان يؤمن بضرورة إعلاء هذه المقاصد الكلية بما فيها من مخزون تقدمى هائل يسمح بمواكبة العصر ومتغيرات المكان والزمان. كان من بين أحلامه التى عرضها عليّ مؤخراً أن يؤسس فى جامعتي-جامعة الإسكندرية- معهداً لفقه المقاصد الشرعية لكنه رحل يرحمه الله قبل أن يتحقق حلمه هذا وأحلام أخرى كثيرة. يحار المرء كيف كان لرجل وهن جسده وناهز الثمانين من العمر ألا يكف عن الحلم ليل نهار بينما يوجد آخرون جفّت أحلامهم وفترت همتهم فى ريعان الشباب. فى كل مرة كنت أراه يزداد اقتناعى بأن مسألة العلاقة بين العمر والحلم بحاجة لإعادة نظر. كان فى ارتباط الشيخ صالح كامل بمصر مايدعو إلى التأمل. فبرغم مما هو معروف أن الأشقاء العرب يحملون لمصر حباً خاصاً عابراً للأزمان والاختلافات فإن صالح كامل ظل يُكنّ لمصر حباً عميقاً يجهر به على الدوام. عبّر عن ذلك ذات مرة قائلاً بقدر كبير من البلاغة والشاعرية إن فينا عشقاً لمصر نسأل الله ألا نبرأ منه. وداعاً أيها المحب لمصر والخير والبشر. وداعاً أيها المتصالح المتسامح المتفانى. اللهم أسكنه فسيح جناتك. نقلا عن صحيفة الأهرام