د. سليمان عبدالمنعم لست أشك لحظةً واحدة أن لدينا وفرة من الدراسات والرؤى والمشروعات لتطوير منظومة العدالة فى مصر. وقد جاءت ظروف وباء كورونا لتؤكد كم كنا بحاجة إلى منظومة حديثة للعدالة تعتمد على بنية رقمية جاهزة، وتتيح إجراءات التقاضى الإلكترونى عن بعد. وبهذا كان يمكننا تقليص الآثار السلبية لمقتضيات التباعد الاجتماعى على العملية القضائية اليومية بدلاً من تعليق العمل فى المحاكم حرصاً على سلامة المتقاضين والقضاة والعاملين فى مرفق العدالة. ولا يعنى هذا أننا نحتاج إلى التقاضى الإلكترونى و ميكنة العدالة فى زمن الوباء الفيروسى فقط بل الحقيقة أننا بحاجة لهذا التطوير فى كل الأزمنة وفى جميع الظروف. وفى هذا السياق بدا لافتاً الاجتماع الذى عقده السيد رئيس الجمهورية الأسبوع الماضى لمناقشة تطوير منظومة العدالة . ولعلّ الكلمة الأهم والأبرز فى البيان الصادر عقب هذا الاجتماع هى التوجيه الرئاسى (بالإسراع) فى التحوّل الرقمى و تحديث البنية التشريعية . أهمية كلمة الإسراع تنبع من حقيقة أن وزارة العدل قد شرعت بالفعل منذ شهور فى الاهتمام بملف ميكنة العدالة وأطلقت بعض المبادرات الإيجابية. هذه بداية جيدة لكنها تحتاج لمثابرة وقوة دفع إضافية. فالملاحظ فى بلادنا، لسبب غير مفهوم،أن المسافة الزمنية بين الفكرة والفعل تبدو طويلة وبطيئة وثقيلة، وقد ينتهى الأمر بتنفيذ الفكرة لكن بعد طول سنوات وأحياناً عقود. لا أريد أن أعدّد أمثلة، فما أقصد قوله هو أن البطء يكاد يكون سمة نفسية وثقافية فى مجتمعنا الذى لا تنقصه الكفاءات بقدر ما تنقصه الهمّم. لا تنقصه المواهب لكن تنقصه معارك النفس الطويل. ولهذا فإنه ما لم يوضع جدول زمنى لتنفيذ عملية ميكنة العدالة والتقاضى الإلكترونى شهراً بشهر، وأسبوعاً بأسبوع، وربما يوماً بيوم فقد ينقضى وقت طويل جداً قبل أن يصبح هذا التطوير المأمول واقعاً حياً وممارسةً يومية اعتيادية فى منظومة العدالة فى مصر. أقول هذا متفائلاً بوجود وزير للعدل مثل المستشار عمر مروان الذى يشهد الكثيرون بمناقبه المهنية والشخصية الحميدة. والواقع أن ميكنة العدالة وتعميم نظم التقاضى الإلكترونى تبدو بحساب الكلفة المادية أقل من نفقات تشييد مبنى أومشروع متوسط لتطوير البنية الأساسية لإحدى المحاكم. الأمر لا يتطلب أكثر من أجهزة كومبيوتر ولوجستيات يُفترض أنها متوافرة، وتطبيقات إلكترونية زهيدة الثمن، ومجموعة خوادم (سيرفيرز) بإمكانات عالية فى التخزين والسرعة ومتطلبات الأمان والحماية، ومتخصصين ومبرمجين مصريين يمكن الاعتماد عليهم، وهى بالإجمال تجربة لن نخترعهااختراعاً لأن غيرنا قطع فيها أشواطاً طويلة.والتطوير المنشود يحتاج بالأساس إلى جهاز إدارى معاون قادر على ترجمته إلى واقع. فلن نستطيع مثلاً إتاحة أوراق ومستندات الدعاوى، ومحاضر التحقيق والجلسات إلكترونياً ما لم يوجد ابتداء موظفون إداريون قادرون على الكتابة بواسطة أجهزة الكومبيوتر بسرعة وسلاسة وبشكل فورى يسجلون به ما تسمعه آذانهم فى نفس اللحظة وذلك بديلاً عن الكتابة بخط اليد. فالحاصل عملاً أن معظم الأوراق والمحاضر ما زالت تُكتب بخط اليد وبشكل رديء لا يكاد يُقرأ، وتلك ممارسات اندثرت ولم تعد موجودة حتى فى دول عربية شقيقة. والواقع أن ميكنة العدالة ليست مسألة رفاهية، لكنها تعنى الانتقال إلى عصر الفهرسة الإلكترونية التى تتيح البحث عن أوراق أى قضية بيسر وسرعة ودقة فى لحظات لا أكثر، وذلك بديلاً عن الأرشفة الورقية بما تنطوى عليه من بطء ومخاطر الحريق أو التلف أو الضياع أو التبديد.لا يحتاج تأهيل الجهاز الإدارى المعاون للقيام بمهمة ميكنة العدالة سوى التدريب الفورى من خلال دورات لبناء القدرات يمكن أن تؤتى ثمارها فى أسابيع قليلة لو تمت على النحو المطلوب بعيداً عن لعبة التوقيع بالحضور والانصراف التى تتقنها العقلية البيروقراطية المصرية! ولو أن وزارة العدل اشترطت فيمن يتقدم لشغل الوظائف الإدارية إجادة هذه القدرات والمهارات لتحقّق ذلك فى وقت قصير. لا تخلو عملية ميكنة العدالة وإجراءات التقاضى الالكترونى من دقة وحساسية لأنهاقد تصطدم بفتور ومناوئة الجهاز الإدارى المعاون لأسباب لا تخفى، وبالتالى فالانتباه واجب لاحتمالات عرقلة أو إرباك هذا التطوير المنشود، وهو الأمر الذى نلمسه فى أى تطوير مماثل يحل فيه الالكترونى محل البشرى حيث يهدد الأول مصالح الثانى. هذا واقع مثيرللأسف والأسى يجب تفاديه ويحد من نجاح عملية التحوّل الرقمى فى العديد من المؤسسات ومواقع العمل فى مصر. والواقع أن هناك جهتين يتوقف عليهما تطوير منظومة العدالة . الأولى إدارة متخصصة تتفرّغ تماماً وتحديداً لهذه المهمة، ففى وزارة العدل إدارة للدعم الفنى يمكن تدعيمها بعدد كاف من المتخصصين والتقنيين جنباً إلى جنب مع رجال القضاء الذين هم أقوى وأثمن عنصر فى المنظومة كلها. ولدينا فى مصر جيل من شباب القضاء القادر على أن يعطى لهذه المهمة دفعة قوية. الجهة الثانية التى لا أبالغ فى وصفها بالمنجم المخبوء فى وزارة العدل هى مركز الدراسات القضائية وهو بظنى الجهاز العصبى لمرفق القضاء كله. بإمكان المركز أن يسهم بدور هائل فى عملية التطوير المنشود ليس فقط من خلال برامجه التقليدية ولكن أيضاً فى بناء قدرات الأجهزة الإدارية والفنية المعاونة وإعدادها للتعامل مع متطلبات ميكنة العدالة والتقاضى الالكترونى، بل إن المركز يمكن أن يكون حاضنة لوحدة بحثية متفرغة رفيعة المستوى لتقدم رؤيتها فى مشروع التحوّل الرقمى وغيره من المشروعات. ملاحظة أخيرة تتعلق ب تحديث البنية التشريعية التى تبقى برغم أية ملاحظات الأعرق فى منطقتها. ما تعانيه منظومة التشريعات يتلخص فى أمرين أولهما أنها أصبحت تتسم بقدر من الجمود ليس فقط على صعيد المضامين والنصوص ولكن أيضاً على صعيد المنهج وأصول الفن القانونى والصياغة التشريعية. فهل يُعقل أن يكون لدينا قانون للإجراءات الجنائية يتضمن فصلين مستقلين تتكرّر أحكامهما بالصياغة نفسها بنسبة لا تقل عن 80% بينما نعلّم طلابنا أن المشرّع منزه عن التكرار؟ الأمر الثانى يتجلّى فى عدم مواكبة بعض تشريعاتنا لمستجدات العصرالذى تسبقنا فيه دول عربية شقيقة أسهم المصريون أنفسهم فى تحديث قوانينها. تشريعنا الجنائى مثلاً ما زالت حركة تطوره تمضى بطيئة وئيدة ولا تعكس تطور الفكر العقابى الحديث لا سيّما على صعيد بدائل الدعوى الجنائية، والإجراءات القضائية أو شبه القضائية السريعة والموجزة، والتدابير البديلة عن العقوبات التقليدية السالبة للحرية. هذه، وغيرها، جوانب لتطوير بنيتنا التشريعية تحتاج إلى نقاش مطوّل ومعمّق قد تكون له مناسبة أخرى. نقلا عن صحيفة الأهرام