العلاقات الانسانية من المسلم به أنها معقدة, ليس من السهل أن تستخلص حكما مؤكدا أو ثابتا علي أي ظاهرة اجتماعية.. ولكن يبدو لي بعد مرور عدة أيام من شهر رمضان الكريم أن هناك فتورا لدي المشاهدين في متابعة وليمة البرامج والمسلسلات التي تعد سنويا لاحتلال عقل وفكر الناس. فقد كان من السهل أن نلمس اهتماما شعبيا في النسق الاجتماعي الكبير الذي يتابع وسائل الاعلام الجماهيرية, فينحاز الناس لبعض الأعمال الفنية دون الآخر مثل( الفوازير) في مرحلة الراحل( فهمي عبدالحميد), أو يثير مسلسل ما جدلا اجتماعيا, وأحيانا تخلو الشوارع من المارة والمركبات وقت إذاعة برنامج ساخن أو مسلسل متقن, أما اللقاءات الرمضانية للعائلات فكانت تنصب علي مناقشة المواضيع أو المستوي الفني لذلك العمل أو ذاك! كانت هناك حفاوة اجتماعية بما قدم حتي ولو كان نقد معارض.. اختفت تلك الحفاوة.. أو الحماسة.. أو الاهتمام, رغم أن هناك عددا من الأعمال الجيدة التي تستحق المشاهدة لمن يهتم أو يجد لديه فراغا زمنيا وعقليا يريد ملأه! إلا أن علامات الفتور ألمسها بوضوح في المحيط الاجتماعي بي وأيضا في بعض البرامج الاستقصائية التي شاهدتها, وفيها عبر معظم الضيوف من العينة العشوائية التي أجرتها تلك البرامج أن ليس لديهم الوقت في رمضان الكريم لمتابعة( التليفزيون) وما فيه, وأن معظم فراغهم يتجه نحو العبادة والصلاة في الجوامع أو قراءة القرآن, ودون الوقوع في وهم الأمنيات الشخصية بأن ينصرف الناس عن تلقي ثقافتهم من البرامج والمسلسلات الشفوية, ويعودون بقوة للكتاب والقراءة في الأساس حتي إن شاهدوا أحد هذه الأعمال شاهدوها وهم يملكون عقولهم وأسلحتهم النقدية المنيعة ضد الانحياز لقضية أو طرف علي نحو متعجل وسهل, ولايبنون مواقفهم علي الظن وبعضه كما نعلم إثم وأحيانا إثم عظيم! بعد تعدد الجهات التي تهدف إلي السيطرة علي العقل العربي في الداخل والخارج ولكل مصالحها التي لاتتقاطع مع مصالح الشعب في أغلب الأحوال! وأيضا دون الوقوع في فخ الأحكام المطلقة والأكيدة, إلا أنني أستطيع أن أجزم أن هناك زهقا عاما من الكثافة الاعلامية, والمستوي المهني والأخلاقي المتدهور باستمرار, أدت إلي الفتور في المتابعة, وعدم أخذها مأخذ الجد في أحسن الأحوال, وأعتقد أن الخسارة الحقيقية في عدم الاستفادة من اللقاءات التي تتوه في هذا الزحام, وأيضا الفائدة الضائعة لهذه الوسائل الجماهرية نفسها, والتي نستطيع أن نلمسها بوضوح بعد متابعة( التليفزيون العربي), الذي يعرض نماذج من برامج ومسلسلات درامية قديمة في بداية البث المرئي في( التليفزيون العربي), فكانت هذه الأعمال علي بساطتها الاخراجية, إلا أن المستوي المعرفي للمادة المعروضة والقائمين علي تقديمها يشي بوضوح أن هناك عقلا كبيرا يهتم بالاختيار والتدقيق في مستوي العمل في كل كبيرة وصغيرة, تدفع نحو هدف محترم, وهو الارتقاء بالمستوي العام, واحترام المشاهدين, والحرص علي الحياء والآداب والذوق السليم, بينما هذا العقل مفقود الآن, فتدنت مستويات الاختيار في المذيعين والموضوعات, في الشكل والمضمون وأصبح الاختيار تجاه شيء واحد فقط لاغير وهو الاثارة السياسية والاجتماعية علي ما تخلقه من بلبلة وتشويش وشكوك, هناك من يقصدها, وهناك من لا يقدر عواقبها, مثله مثل مرزوق.. يحب العلو ولو علي خازوق! أحاول التفاؤل باستمرار بأن مثل هذه المواد الاعلامية تلغي بعضها بعضها, فلم يعد هناك نجم حقيقي, أو شخصية تدعي قدرتها علي التأثير, فالجمهور أصبح مشتتا بين هذه الأعمال السطحية, التي لاتتطلب إلا شخصيات فجة قادرة علي التمثيل المغفل, لجذب الانتباه بخرق قواعد الذوق شكلا وموضوعا, فمثل هذه البضاعة أصبحت متوافرة, حتي إن الأجور المبالغ فيها أخذت في الهبوط, بينما وعي الجمهور يأخذ في الصعود, فمن يريد الاستفادة بالفعل بدأ يذهب إلي قنوات عربية أخري تهتم بالتأثير الدائم والفعال, لكن مثل هذا التفاؤل لا أطمئن إليه, فيجب عدم الاعتماد علي وعي الجمهور فقط وسقوط الأعمال والشخصيات الضارة تلقائيا, فمجتمعاتنا العربية يعاني أغلبها الفقر, وغياب المؤسسات التربوية القوية, وضمور في النخب العضوية لأسباب شتي, مما يسبب القلق الشديد علي السلم الأهلي مما تسببه المواد الاعلامية الاخبارية والحوارية والفنية والكروية.. التي تزدحم بها الفضائيات عشوائيا حسب رغبة أو سذاجة القائمين عليها ومتخمة بعنف فكري يؤدي بالفعل إلي عنف مادي, أصبح سمة شبه عامة, فالضغوط اليومية والاجتماعية ازدادت, وأصبح الفرد يحتاج إلي قوة نفسية وفكرية مضاعفة حتي لا يقع تحت طائلة إحباطاتها العنيفة, فيذهب ضحية الانفصال العقلي المؤقت أو الدائم عن الواقع, فيتخذ من الأفعال أعنفها, ومن الأقوال أبذأها, ومن العواطف أحطها, فالاعتماد علي المقولة العلمية بأن( البقاء للأصلح) التي لاشك في جديتها, إلا أنها بالنسبة لمجتمعاتنا الفقيرة أشبه بالاعتماد علي وجود الترياق فنتناول السموم بلا قيود! المجتمعات المتقدمة لم تتقدم بالاعلام برغم أهميته الكبيرة ولكن بالمؤسسات العلمية والتربوية والقانونية وبالطبع الاقتصادية والسياسية, أي ببناء المجتمع بعد بناء الفرد, الذي يعلم دوره وحقوقه في منظومة متكاملة تحافظ علي الجميع, وأي انتهاك لأي مؤسسة يهدد كل فرد في المجتمع, فتجد الجميع يدافعون عن استقلالية وجدية هذه المؤسسات, التي ينهار المجتمع بانهيارها, لذلك فالفرد لاتمثل له المؤسسة الاعلامية إلا جزءا من مؤسسات التشكيل وبناء الأفكار, فلديه المناعة النفسية والعقلية والاجتماعية التي تحميه من انحرافها, بالاضافة إلي أن هناك قواعد ومعايير لحماية المهنة تضطلع بها مؤسسات أهلية وحكومية لوأد الانحرافات المهنية التي ولابد أن توجد في أي مجتمع بشري! بشكل عام بالنسبة لمصر والعالم العربي كانت السطوة الاعلامية تظهر في شهر رمضان في كثافة العرض, للاستحواذ علي اهتمام المشاهدين, ولكنها مع انتشار الفضائيات أصبحت تشمل العام كله لكن بأيامه ولياليه! وأصبح القضاء الاعلامي ساحة لممارسة مختلف أشكال الحياة, من بيع وشراء, وعرض للمشاكل العامة والخاصة, وإصدار الأحكام في كل القضايا السياسية والاقتصادية والجنائية, وأيضا تبادل التهاني والنكات والسلامات مع الأهل والأصدقاء.. عالم افتراضي يلقي بظلاله علي الواقع الفعلي, للإيهام بأهمية زائفة لموضوعات أو إخفاء والتعمية عن أخري كأننا في غرفة المرايا بالملاهي! لذا عندما ألمس بوادر لوعي جديد يتشكل أخذ في الابتعاد عن كل هذا الزيف وأبطاله التافهين, في اتجاه البحث عن الحقيقة, والبحث عن الدور الجاد في الحياة, أحس بالأمل والفرح لأن هناك تيارا حقيقيا من الناس الطيبين يدركون قول شاعر عربي عظيم وحتي وإن لم يسمعوه من قبل يقول: الدهر أدبني, والصبر رباني والقوت أقنعني واليأس أغناني, وحنكتي من الأيام تجربة.. حتي نهيت من كان ينهاني! هذا التيار من العقلاء الذين يوجهون اهتماماتهم إلي مصادر المعرفة المحايدة والجادة ويخضعون ما يسمعون ويشاهدون إلي معمل العقل واختباراته, ولا يلقون بالا لأفاعي الفضائيات بأصواتهم المبحوحة أو زعيقهم الساخر يردون إلي حلوقهم السموم التي يفرزونها لصالح هذا أو ذاك, فيسقطون الواحد تلو الآخر, فهذا التيار يفرزه النخب العضوية العاقلة التي تدله علي الطريق الصحيح, وكيفية تجنب العثرات, وهو نفسه سيعزز هذه النخب بألا تيأس من الاصلاح, وجدوي بذل الجهد للتقويم, وأن للبذور التي تزرعها ثمار بدأت في الظهور. تلك الفرقة الناجية من التلوث الاعلامي تجدد الأمل عندي في بناء مجتمع جديد, وتخاريف الصيام في رمضان تقرنه عندي بأمل الكاتب اليوناني الشهير( ارستوفانيس) عندما كتب مسرحيته الخالدة( الطيور) بالتخلص من فساد الحياة في المجتمع الاثيني ببناء مجتمع جديد من الطيور, يشكلونه وفق نظم جديدة في مدينة حديثة يبنونها في الفضاء فوق السحاب, والطريف أن الطيور في المسرحية التي عرضت قبل الميلاد ب414 سنة, قرروا أن يبني أسوار هذه المدينة العظيمة المصريون الذين نجحوا في بناء الأهرامات عندما كان يحكمهم في ذلك الوقت الطيور المصرية! ولمعرفة ملامح وقواعد مدينة الطيور الجديدة فوق الفضائيات الحالية نحتاج إلي أيام أخري من الصيام في الشهر الكريم للتفكير في آمال جديدة أو حتي تخاريف مبتكرة للطيور, فللحديث بقية. المزيد من مقالات وفاء محمود