مما لاشك فيه أن القرآن الكريم والحديث الشريف هما حجر الزاوية في فهم الإسلام بصورة صحيحة و واستيعاب تشريعاته و أحكامه وقوانينه. . و إزالة أي تأويل خاطئ أو فهم مغلوط قد لحق بالإسلام أو اختلط بمنهجه. في رمضان العام الماضي أمضت دنيا الثقافة الشهر الفضيل, في رحاب المصحف الشريف مستطلعة الجوانب والقضايا التي ارتبطت بواحد من أهم الكتب التي عرفتها البشرية من حيث التأثير الوجداني والفكري, إذ امتد ليمس حياة ومصير ملايين البشر أيا كانت ملتهم, من خلال الحضارة التي نشأت بفضله ومن حوله وتجسدت في فنون وعلوم ومذاهب فكرية. فعشنا علي مدي ايام رمضان المباركة مع صفحات النور المسطور منذ تاريخ تدوين الوحي وجمع المصحف الإمام والدورالذي لعبته مصر بلد الأزهر, في تطوير طباعة وشكل المصحف. كما رصدنا المراحل التي يمر بها المصحف قبل طباعته وتوزيعه, والفنون التي ظهرت في رحابه مثل الخط العربي وجماليات الحروف وتحول الحروف من مجرد وسيلة للتدوين إلي حالة وجدانية وفن أصيل والجدل حول ورود كلمات أعجمية بالقرآن الكريم من منظور العلماء والأئمة والمناهج التي تطرحها بعض نظريات النقد اللغوي, و قضية ترجمة الآيات البينات للغات الأجنبية. و في عامنا هذا اختار فريق العمل بصفحة دنيا الثقافة أن نواصل رحلتنا خلال الشهر الكريم مع جوامع الكلم, مع المذكرة التفسيرية للقرآن الكريم, مع الأحاديث النبوية الشريفة, ليس بحثا عن تفسير للقرآن الكريم أو اقتحام آفاق لها أصحابها الأكثر دراية و علما منا, ولكن في محاولة لاستكشاف الرؤي و الأبعاد الثقافية والعلوم التي تبلورت حول الأحاديث النبوية واستجلاء ملامح أدبيات الأحاديث من حيث اللغة والأسلوب والبيان والبناء القصصي الواضح في عدد لا يستهان به من الأحاديث و من ثم جهود بعض علماء الأدب والبلاغة في العصور البعيدة, مثل الجاحظ, والشريف الرضي, وابن رشيق القيرواني, وعبد القاهر, وضياء الدين ابن الأثير, والعلوي, وجهود الباحثين المعاصرين لاستنباط منهج يتخذ علوم البلاغة العربية حجة في فهم الحديث و الكشف عن جوانب مهمة من البلاغة النبوية, واستنباط علوم ودلالات جديدة. ومن المعروف أن العديد من العلوم قد نشأت في رحاب الحديث مثل علم أصول الحديث وعلم مصطلح الحديث, بل ان بعض الباحثين أرجعوا ظهور علوم ومناهج بحثية بعينها, مثل الفنون البيانية ودلالات السياق والتصوير الفني في الحديث النبوي, بل أيضا والمنهج الخلدوني في دراسة التاريخ, إلي عملية جمع و تدوين الحديث والإسناد و البحث عن صحيحه وحسنه وضعيفه و تقسيم الأحاديث وتصنيفها وترتيبها.من منطلق اهتمام علماء الحديث بمعرفة رواة الحديث وضبط أسمائهم والحكم عليهم والحاجة إلي السند المتصل, الأمر الذي جعلهم يتجاوزون البحث في حياة الرواة إلي عمل تاريخ كامل لهم, وهكذا وجدت تواريخ القرن الثالث الهجري مثل تاريخ البخاري وطبقات ابن سعد, مما كان له أثر علي الفكر العربي وعلوم اللغة والأدب والتاريخ وعلم الاجتماع. و لكن و قبل أن نبدأ رحلتنا مع الحديث الشريف الذي يأتي في المرتبة التالية بعد القرآن الكريم, وأن نحاول أن نتوقف أمام وسائل ترابط النص وجماليات الأسلوب, لابد أن نتوقف أمام عدد من التعريفات المهمة وأن نقفز للوراء لنتعرف علي رحلة نص الحديث النبوي إلي يومنا هذا. الحديث في معاجم اللغة: هو الجديد, والمراد بالحديث في عرف الشرع ما أضيف إلي رسول الله, صلي الله عليه وسلم, ومتن الحديث هو نفس قوله اوتقريره, وألفاظه التي تتقوم بها المعاني.أما السند فهو تعبيريطلق علي سلسلة الأشخاص الذين وصل الحديث عبرهم. ويعرف علماء اللغة النص بأنه الصيغة المنطوقة أو المكتوبة التي صدرت عن المتكلم أو المؤلف في موقف ما, قاصدا دلالة ما, وهذه الصيغة قد تكون لفظ أو إشارة أو جملة أو متتاليات من الجمل المترابطة. يتبع بعضها بعضا وفقا لنظام بعينه, بحيث تسهم كل جملة في فهم الجملة التي تليها فهما معقولا. و بالطبع فإننا عندما نطرح هذه التعريفات إنمانحاول أن نتناول الحديث الشريف من منظور بلاغي( بوصفه الصيغة المنطوقة أو المكتوبة التي صدرت عن ذات رسول الله-صلي الله عليه و سلم- قاصدا بها دلالة ما, في موقف ما) حفظت للنص الحديثي تماسكه وبناءه المحكم, وأبقت أثره علي مر الأزمان. والثابت أن العلماء والمحققين يختلفون اختلافا كبيرا حول تاريخ تدوين الحديث وأسباب المنع أو الإجازة في القرن الهجري الأول, وهو الأمر الذي سنحاول أن نتعرف علي حقيقته عبر الرصد التاريخي هذا الاسبوع-. وفي القرن الثاني نشطت حركة تدوين الحديث و تبويبه و ترتيبه بأمر عمر بن عبد العزيز(99 103 ه) وإن اختلفت الروايات في تحديد ما إذا كان أول من قام بالتدوين أبو بكر بن حزم أم مالك بن أنس أم عبد الملك بن جريج. روي البخاري, أنعمبر بن عبد العزيز أرسل إلي أبي بكر بن حزم عامله في المدينة, والقاضي بها فيما كتب إليه:( انظر ما كان من سنة وحديث فاكتبه فإني خفت دروس العمل وذهاب العلماء) وقد شهدت الفترة بين(150 250) ظهور عدد من كتب الحديث تحمل اسم الصحاح, والمسانيد, والمستخرجات, كان الهدف منها جمع الحديث بمختلف أصنافه, وأقسامه, والعمل علي تدوينه,, دونما تقسيمه, إلي الصحيح, والحسن, والضعيف, حتي جاء عصر البخاري وغير ه من أرباب الصحاح. ليشهد القرن الثالث نشاطا في حركة جمع الحديث, وتأليفه وتبويبه وتخليصه من الزيف والعلة, فألف البخاري جامعه الذي هو أول كتاب ألف في الصحيح, وكذا مسلم صاحب ثاني الصحيحين. فإذا انتقلنا إلي بر النيل وبلد الأزهر الشريف التي سكنها أبو ذر الغفاري سبع سنوات سنجد أن علوم الحديث قد حظيت بمكانة كبيرة في المجتمع المصري وان مصر قد لعبت دورا مهما في علوم الحديث إذ اهتم المصريون برواية الحديث وصار منهم عدد كبير من المحدثين الثقة و حل بينهم البخاري ومسلم والنسائي و الدار قطني. وفي هذا الصدد يشير د. بهاء حسب الله, الأستاذ بكلية الأداب بجامعة حلوان إلي اهتمام مصر بعلم الحديث و روايته منذ وطأها حفاظ الحديث النبوي الشريف ورواته في القرن الأول الهجري مثل أبو ذر الغفاري وعقبة بن نافع الجهيني, وعبد الله بن عمرو بن العاص, ونافع مولي عبد الله بن عمر بن الخطاب والأعرج عبد الرحمن بن هرمز صاحب أبي هريرة و يزيد بن حبيب, و أن القرن الثاني الهجري قد شهد تزايدا في حفاظ الحديث ورواته في مصر و كان من أهمهم عبد الرحمن بن القاسم تلميذ الإمام مالك والإمام الشافعي, والليث بن سعد الفقيه المشهور, وأبو زرعة, وعبد الله بن وهب وابن لهيعة وغيرهم. كما يشير د. حسب الله ألي استمرار احتفاء المصريين بعلوم الحديث في العصور التالية لتطالعنا أخبار مجالس املاء الحديث وتفسيره و شروحه في قصر حنزابة وزير كافور الإخشيدي وتلاميذه وظهور مدينة الاسكندرية في القرن الخامس والسادس الهجري كمكان يستقطب حركة علم الحديث ليظهر فيها الإمام الحافظ السلفي وترفة بنت أحمد ابراهيم الرازي وأبو الحسن بن المفضل المالكي وأبو عبد الله الرازي وابن أبي إلياس وأبو أحمد بن حديد ومنصور بن سندي الباغ الاسكندراني وأبو القاسم الشاطبي والشاعر المصري ابن سناء الملك كاتب صلاح الدين الأيوبي وابن رواحة الأنصاري وغيرهم. وتشير المراجع التاريخية إلي استمرار الاهتمام بعلوم الحديث في مصر, علي مدي تاريخها ودراسة كل العلوم المتصلة به من أنساب ولغة وفقه وتأليف وتصحيح أمهات الكتب والنظر في أسانيد مؤلفيها وضبط الروايات, وكان من أشهر من اطلعوا بهذه المسئولية الشيخ محمد مرتضي الزبيدي والشيخ محمد الزرقاني والشيخ أحمد السحيمي والشيخ خليل الخضري والشيخ أحمد الدمنهوري. كذلك فقد عني بعض الدارسين بدراسة الحديث من منظور البلاغة والنحو وكان من بينهم الشيخ محمد الصبان. وتستمر رحلتنا مع جوامع الكلم, الجامعة لفنون البلاغة والبيان والوحي الذي تنزل علي قلب رسول الله صلي الله عليه وسلم, فأنعم بها من رحلة, ومرحبا بك عزيزي القارئ رفيقا علي مدي أسابيع شهر فضيل تنزلت فيه كل الكتب السماوية وعمرت أيامه ولياليه بنور آيات الذكر الحكيم وبهدي أحاديث وسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم..