على مدى تاريخه السياسى لم ينجح أحد فى تحدى وكسر إرادة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان مثلما فعل أكرم إمام أوغلو بعد أن فاز فى جولة الإعادة لانتخابات بلدية اسطنبول، وربما أكثر ما يثير حنق اردوغان هو أن أوغلو كان شبه مجهول على الساحة السياسية قبل أشهر قليلة، ولم يكن يسمع به سوى سكان حى «بيليك دوزو» الذى انتخب رئيسا له عام 2014. ومع ذلك أصر أوغلو على تحدى أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم بكل ما يملكانه من سلطات لانهائية، ليفوز للمرة الثانية فى أقل من أربعة أشهر برئاسة بلدية إسطنبول التى سبق وسلبت منه بتبريرات واهية لم يقتنع بها السواد الأعظم من المواطنين ليس فى المدينة الأهم والأكبر فحسب بل فى عموم تركيا كلها. للوهلة الأولى لا يبدو أوغلو وكأنه ذلك المرشح الذى يمكن أن يخيف المنافسين، لكن فوزه فى الانتخابات المحلية التى جرت فى الحادى والثلاثين من مارس، أنهى أسطورة حزب العدالة والتنمية الذى لا يقهر فى أى استحقاق، هكذا ذهبت أصوات إعلامية فى تحليلها للزلزال السياسى الذى أنهى سلطة أردوغان على إسطنبول. فى البداية توقع كثير من المحللين لإمام أوغلو الفشل الأكيد ، ورغم ذلك كان يبدى طمأنينة كبيرة، ويؤكد أن ترشحه من خارج الطبقة السياسية التقليدية لا بد أن يكون لصالحه ، وقد كان له ما أراد ، وهكذا فوجيء المتابعون سواء فى الداخل أو الخارج خلال الجولة الأولى بتقدمه على منافسه بن على يلدريم رغم أن الظروف التى رافقت الحملة الانتخابية لم تكن أبدا مواتية له حيث تم تسخير جميع إمكانيات مؤسسات الدولة للترويج ليلدريم، ولكن إمام أوغلو راهن على وسائل التواصل الاجتماعى لخطب ود سكان إسطنبول ونجح فى ذلك. وفى المرة الثانية لم يكن لدى غالبية المراقبين محليين وأجانب أدنى شك فى أنه سيفوز، واكتسح بالفعل مما دفع المحللين لوصفه ب «النجم الصاعد على المسرح السياسى التركي» والقادر على منافسة أردوغان فى الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2023. ومع الفوز برئاسة بلدية العاصمة الاقتصادية للأناضول ككل ، والتى يعيش فيها نحو 16 مليون نسمة، يفرض إمام أوغلو نفسه بالفعل على الساحة السياسية، متعهدا بالقضاء على أخطبوط الفساد الذى يخنق البلاد منذ سنوات طويلة. ولن يكون هذا هو التحدى الوحيد فهناك البطالة وبالتالى عليه أن يوفر فرص العمل لأبناء آلاف الأسر التى عانت ولازالت شظف العيش. وفى بلد اعتاد على الاستقطاب الشديد والهجمات المتبادلة بين السياسيين، يفاجأ إمام أوغلو الجميع بخطاب جامع وهادئ بعيدا عن الشعارات والتجريح . ويوضح «بيرق إسين» الأستاذ المساعد بجامعة بيلكنت فى أنقرة قوله «إن إمام أوغلو لم يستخدم الخطابات الإيديولوجية المعتادة لإيصال صوته للناخبين، وآثر تجنب إشاعة أجواء الانقسامات والتناحر». وحتى لا يزايد عليه أحد من متأسلمى الحزب الحاكم، ظهر الرجل وهو يوازن بين ممارسته لواجباته الدينية، وعضويته فى الوقت نفسه بحزب الشعب الجمهورى العلماني، وهو ما ساهم فى اتساع قاعدة شعبيته، بل استطاع الحصول على دعم حزب الخير القومى الليبرالى والأهم هو نيله تأييد حزب الشعوب الديمقراطية الموالى للأكراد رغم التباين فى الرؤى والمنطلقات لكنهما اتفقا على انتزاع إسطنبول من « العدالة الفاشي». صحيح أن «سكان إسطنبول اتخذوا قرارهم النهائى» على حد تعبير الدبلوماسى الشهير ورئيس الحكومة الأسبق أحمد داود أوغلو صاحب صفر مشكلات، لكن هذا لا يعنى أن أردوغان سوف يستسلم ويرفع الراية البيضاء، فهو لن يهدأ له بال, ووفقا لتسريبات يعكف حاليا على مخطط يستعيد من خلاله المدن الكبرى التى فقدها. ولكن فى نفس الوقت لم يقف رؤساء البلديات المستهدفون، وعلى رأسهم إمام أوغلو مكتوفى الأيدى حيث يرى البعض أنهم سيبحثون فى سجلات أرشيف البلديات عما يمكن استخدامه ضد أردوغان من صفقات مشبوهة ومناقصات بالأمر المباشر خارج القانون. ولهذا توقع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، أن يصدر أردوغان قرارا رئاسيا يحد من صلاحياتهم جميعا أما عمدة إسطنبول الجديد فسوف يلاحقه بتهم لن يعدم وسيلة فى تلفيقها.