تبدأ الأحداث ونحن نرى رجلاً مكلوما يتأمل جثة شاب مليئة بآثار طلقات الرصاص. وسرعان ما نعرف أنها جثة نظيم ابن الرجل الذى يسمى مصطفى وينتمى لشعب اسمه تتار القرم، وتدور الأحداث فى مستشفى بمدينة اوكرانية. وتبدو علاقته متوترة بابنه الشاب عليم و يجبره بعنف على ان ينصاع لكلامه بحذافيره. تلك كانت بداية الفيلم الأوكرانى «ساحة المنزل»، اول اخراج لناريمان الييف الذى عرض بقسم نظرة ما، بمهرجان كان السينمائى الدولى نهاية الشهر الماضى. يتابع الفيلم رحلة الرجل مع ابنه الحى لدفن الابن المقتول فى فيلم محكم دراميا وبأداء تمثيلى يترجم الوجع والحسرة. يذهبان لمنزل الأخ المتوفى لأخذ اوراق خاصة به، فيلتقيان بخطيبته التى تريد مرافقتهما، لكن مصطفى يمنعها بالقوة من ذلك لأنها تثقل رحلتهما، بل يحبسها باحدى غرف المنزل ويرحل هو وابنه عليم. شيئا فشيئا يبدو الأب ماضيا بقوة فى المهمة الصعبة لدفن ابنه لأن عليه الذهاب به لموطنهم الاصلى بشبه جزيرة القرم. ولابد أن يدفن حسب طقوس شعبه وحسب الديانة الإسلامية. لكن الطريق صعب، ويظهر لنا المخرج معاناة مصطفى هو وابنه كدلالة قوية على معاناة شعب تتار القرم كله. وتتار القرم شعب عانى من تاريخ طويل مع روسيا، ومؤخرا دخلت روسيا المنطقة عسكريا وأجرت فيها استفتاء على الاستقلال عن أوكرانيا. وانتصر الاستفتاء لمصلحة الاستقلال فعلا لسبب رئيسى أن روسيا غيرت تركيبة السكان فى هذا المكان منذ زمن طويل وجعلت أغلبية السكان فيها هناك من اصول روسية. بينما طرد الرئيس الروسى ستالين مئات الآلاف من تتار القرم المسلمين عام 1944 واتهمهم بالتجسس لمصلحة القوات الألمانية. وتم تهجير 250 الفاً منهم قسريا الى سيبريا - أكبر غابة جليدية فى الأرض- فى قطارات تستخدم فى نقل الحيوانات، وقتل نصفهم على الأقل فى هذه الحوادث نتيجة المرض والجوع والمعاملة السيئة. ولم يستطيعوا الرجوع لموطنهم الأصلى إلا بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، لكن سرعان ما عاد بعدها التضييق الروسى الذى استهدف محاصرة توطينهم مجددا فى منطقة القرم. وللموضوع أسباب جيوسياسية أساسا، بسبب الموقع الجغرافى المميز لشبه جزيرة القرم المطل على البحر الأسود. وكذلك بسبب ما صنعه الرئيس الروسى السابق خروتشوف من ضم القرم لأوكرانيا التى كانت موطنه الأصلى. وتزامن عرض فيلم ساحة المنزل مع مرور 75 عاما على مأساة التهجير تلك، وصدرت صرخات ادانة دولية للحادثة. وأعلن رفعت جوباروف رئيس المجلس القومى لتتار القرم أن الويلات التى حدثت فى الماضى يمكن أن تقع اليوم مجددا، وبشكل اكثر وحشية. مشيرا الى التضييق الذى يحدث لهؤلاء التتار فى موطنهم الأصلى بالقرم. حيث يبلغ عددهم الآن 243 الف نسمة من إجمالى عدد السكان البالغ مليونى نسمة فى الاقليم. ويتبنى البرلمان الأوكرانى الجديد قراراً يعتبر تتار القرم هم السكان الاصليين للمنطقة، الا ان اوضاع هؤلاء بأوكرانيا ليست على ما يرام كذلك. وهو ما يظهر بقوة خلال فيلم ساحة المنزل، فسواء كانت دورية الطريق الأوكرانية، أو الميكانيكى بقرية يمرون عليهم وهم يحملون جثة الابن، الكل يعاملهم بقسوة وبشكوك كبيرة لأنهم تتار القرم. وهو ما يفسر نزعة العنف والحدة التى تبدو عليها شخصية الأب مصطفى، الذى يبدو أنه شارك فى حروب سابقة. وتبدو كذلك رغبته العارمة فى أن يعلم ابنه ضرورة اليقظة والدفاع عن النفس لأنهم أقلية غير مرغوب فيها. وعندما ينجذب الابن نحو فتاة اوكرانية شابة حفيدة الميكانيكى، يتم سرقة ملابسهما وأغراضهما من اصدقاء الفتاة من نفس القرية. يثور الأب على ابنه عليم الذى يستجيب أخيرا لتعليمه فنون القتال حتى يستردا المسروقات ومن ضمنها الأوراق الرسمية لجثة الأخ والتى تمكنهما من عبور الحدود نحو شبه جزيرة القرم. لكن فى النقطة الحدودية، تتشدد السلطات الروسية فى مرورهما ويعتقلون الاب، فيضرم ابنه النار فى المكان ليهرب مع والده فى اتجاه اوكرانيا مجددا. لكن الأب لا يتنازل عن تقاليده ووعده، يذهب لأحد اقاربه المقيم على البحيرة الحدودية الفاصلة بين المكانين لأداء مهمته. يحذره قريبه من ان عبور البحيرة خطر وانه قد يقتل، لكن الاب يغسل جثة ابنه دينيا ويقرر العبور بمركب ضعيف ليلا. فدفن ابنه فى موطنه الاصلى أهم من حياته. يرفض الاب ان يعبر معه ابنه عليم لخوفه عليه، لكن الأخير يصر ويرمى نفسه فى الماء لمرافقة والده وجثة اخيه. ورغم أنهما يصلان بسلام بعيدا عن رصاص حرس الحدود، لكن صحة الأب لا تحتمل ويسلم الروح بتأدية مهمته بالعودة لبلاده. ويحاول الابن عبثا وإيقاظ والده الميت وهو يجر جثته فى رمال الشاطئ الغائرة، ويطلب منه ترديد الشهادتين وراءه اكثر من مرة وهو يبكى.. لمزيد من مقالات د. أحمد عاطف دره