يقول سقراط كل الفضائل تتلخص فى التعامل بعدالة. ويظن البعض بأن العدل قوانين مجتمعية، ويظن آخرون أن العدل فى يد الحاكم والسلطة. ولكن الحقيقة أن العدل سلوك إنسانى فماذا يفيد أن نعيش فى مجتمع به قوانين عادلة ورؤساء عادلون ولكن المجتمع نفسه غير عادل، فسلوك الوالدين فى البيت والأسرة، وسلوك الجيران والتجار وأصحاب الأعمال إذ لم تكن عادلة سيغيب العدل أيضاً وستكون الحياة ظالمة. فالعدل سلوك بشرى يحتوى على الحق، فمن يتجاوز الحق على كل المستويات لا يمكن أن تكون الحياة عادلة. فى عام 1948م أعلنت الأممالمتحدة وثيقة حقوق الإنسان، وكانت الديباجة الأولى هى لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة فى جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام فى العالم، ولما كان تناسى حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنسانى، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر عالم يتمتع به الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع... فإن الجمعية العامة تنادى بهذا الإعلان. المادة الأولى: جميع الناس أحرار ومتساوون فى الكرامة والحقوق وهم قد وُهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء، وتوالت باقى البنود الثلاثين. ولكن فى الحقيقة هذه الوثيقة لا تحكم الدول وقوانينها فقط بل كان يجب أن يوقع عليها كل إنسان بإيمان كامل فى تعاملاته مع الآخرين. ففى أمريكا التى تحتضن الأممالمتحدة وتحاول أن تظهر للعالم أنها الضامن والضابط لحقوق الإنسان نرى فى حقيقتها كل تجاوز وجور على حقوق الإنسان. فالعدل والإخاء والمساواة هى حالة بشرية ينظر فيها الإنسان لأخيه بأنه لا يقل عنه فى شيء وله الحق فى الحياة الكريمة. فيوماً ما سأل أحد السيد المسيح أية وصية هى العظمى فى الناموس قال له تحب الرب إلهك من كل قلبك... ثم سأله وما هى الثانية فقال له: والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك (مت 22: 39), فالرب قد وضع محبة الناس فى مرتبة محبة الله لأن الذى يحب الله لا يمكن أن يكره أحداً، بل محبة الله تجعله يرى كل الناس محبوبين وقد يكون هذا صعباً على البعض ولكن إن لم تستطع أن تتعامل مع الآخر بالحب تعامل معه بالعدل والحق. ولكن هؤلاء الذين يكرهون الآخرين ويتعاملون مع البشر بمقاييس مريضة هم مرضى لذلك يقول الفيلسوف باسكال: العدالة دون قوة عاجزة، والقوة دون عدالة طاغية. وأنا أرى أن قوة العدالة فى الإنسان هى السواء النفسى فالذين يحتقرون الآخرين ويظلمون هم مرضى ومهزومون من الداخل من أنفسهم. فى عام 1955م فى أمريكا كان هناك فتى صغير لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره وكان أسود اللون وأبيض القلب اسمه إيمت بل وكان يعانى من مشاكل فى النطق وحين يخاف أو يرتبك لا يعرف أن ينطق، فعلمته أمه طريقة حتى يتجاوز تلك المواقف بأنه حين يرتبك يصدر أصوات صفير فى البداية حتى يهدأ ثم يتكلم. وذات يوم ذهب الفتى إلى محل بقالة فى الحى الذى يسكنه وكانت تقف فيه امرأة بيضاء تدعى كارولين وحين رأته سألته بعنف ماذا يريد؟ فتلعثم إيمت وحسب تعليم والدته أخذ يصفر حتى يهدأ. فهاجت كارولين لأنها ظنت أنه يعاكسها وأخذت تعنفه وطردته من المحل. وعادت كارولين تحكى لزوجها أن طفلاً أسود عاكسها فى المحل وتحرش بها. فقام الزوج ومعه اخوته وسألوا عن هذا الطفل إيمت أين يسكن وذهبوا إلى منزله وأخذوه بالقوة من أبيه الذى كان يحتضنه حتى لا يخاف، وساقوه بالضرب إلى حظيرة الحيوانات، ولم يشفقوا على الطفل الذى كان مرعوباً ويصرخ، ولا على دموع أبيه وأمه ومحاولاتهما لاستجداء عطفهم حتى ان الأب طلب أن يأخذوه هو ويتركوا ابنه. ولكنهم كانوا قساة القلب وحبسوا الطفل فى حظيرة الحيوانات، وفى تعذبيهم له قلعوا عينيه، وأطلقوا عليه النار، وربطوه بالأسلاك الشائكة ورموه فى النهر فى ولاية المسيسبى. وبعد أيام طفت جثة الطفل وكان عليها آثار التعذيب. وطار الخبر ووصل لوالديه اللذين كانا يبحثان عنه فى كل مكان وحين وجداه كان معهما رفقة من الأقارب، وبدأت المظاهرات والاحتجاجات داخل كل الولاية من المواطنين السود، وتحت الضغط قبضت الحكومة على القاتل وزوجته وكانا يظهران لامبالاة، وتمت تبرئتهما من الجريمة، وعادا لحياتهما بصورة طبيعية. وبعد أربعين عاما مات زوج كارولين واهتمت احدى قنوات التليفزيون بهذه القضية وذهبت إلى الزوجة التى قالت فى حديثها انها اختلقت قصة أنه تحرش بها وانها آسفة على ما حدث للطفل من تعذيب وقتل! انها قصة من آلاف القصص التى تحدث يومياً تشهد على شر البشر وتجاوزهم فى حق بعض. فالعدل إذن هو قانون فى ضمير البشر، فى إتمام وصايا الله لأنها حق، فى تحقيق إرادة الله لأنها خير، وليس خوفاً من عقابه وحسابه لنا، ولكن لأن هذا هو الحق والعدل الإلهى الذى أعلنه لنا فى وصاياه. فالتاجر الذى يغش ويستطيع ألا يراه أحد ويعرف حقيقة غشه قد سقط حق الرب من داخله أولاً واستطاع أن يقنع البشر بأنه يسير بالحق. والذى يتعامل مع أولاده وأهل بيته بالظلم والقهر قد سقط حق الرب أولاً فى داخله. وخلف الأبواب المغلقة فى البيوت يرى الله كثيرا من الألم والدموع والظلم والكراهية، فهل يوجد قانون عادل يحاسب عما يحدث داخل البيوت والأسرة؟ بالطبع لا، ولكن الرب سيحاسب يوماً لأنه يرى ويسمع أنين المظلومين والمتألمين والمتعبين. فمن يتجاوز عن محبته للآخر فقد تجاوز عن حق الله فى صنع عالم يسوده الخير فيقول جلال الدين الرومي: توضأ بالمحبة قبل الماء فإن الصلاة بقلب حاقد لا تجوز. لمزيد من مقالات القمص. أنجيلوس جرجس