فى دورته الرابعة والتى أقيمت فى محافظة أسيوط قبل أيام استضاف مهرجان مسرح الجنوب برئاسة هيثم الهوارى عروضا فنية من جنوب السودان وجنوب المغرب بالإضافة لمحافظات الجنوب المصرية.. ليحمل الصفة الإفريقية الدولية ويؤكد ضرورة إلقاء الضوء على إبداعات شباب الجنوب المحرومين نسبيا من التواصل مع وسائل الإعلام.. وكانت الظاهرة الملفتة أن جميع العروض بلا استثناء استقت أفكارها وموضوعاتها من التراث الشعبى العربى لتؤكد مدى عمق ذلك التراث وما يحمله من قيم وعادات وتقاليد وفنون شفاهية ستظل باقية فى الذاكرة وينقلها جيل لجيل برغم كل مستحدثات العصر من وسائل تواصل تحمل ثقافات الدنيا بأسرها وأفكار من هنا وهناك لكنها لم تقدر أن تمحو أثر الفن الشعبى من وجدان أهل الجنوب ورغم جودة بعض العروض المصرية واحتوائها على عناصر مبدعة عديدة لكن التميز جاء من جانب الضيوف فى المغرب وجنوب السودان حيث قدمت فرقة شباب المغرب عرض «بمهاود» والذى يروى قصة رجل عطار كان يسير مصطحبا حماره ثم فوجىء بالحمار يتحدث إليه ومن خلال تلك المفارقة التى تنتمى إلى عالم الحكايات الشعبية وخاصة حكايات جحا يستعرض المخرج عبد الله الهيوب كل ما فى الواقع العربى من مفارقات عجيبة فينتقل من جشع التجار إلى جشع ملائكة الرحمة واتجارهم بآلام الناس وفى لوحات متعاقبة شديدة التكثيف والجاذبية يقدم لنا الهيوب رؤية مسرحية جديدة وناضجة مستعينا بمجموعة من الشباب الموهوبين الهواة هم محمد سالم أحميد ونور الدين فويتنى وإدريس العلاوى وماجدولين باجى التى لم تبلغ السادسة عشرة من عمرها وقدمت عدة أدوار نسائية داخل نفس العرض بحضور طاغ وخفة ظل تجاوب معها جمهور قصر ثقافة أسيوط رغم صعوبة اللهجة بعض الشىء .. والشىء العجيب أن أحد أبطال الفرقة وهو كمال نرجس قد أصيب بأزمة صحية فى أسيوط واضطر لإجراء جراحة الزائدة الدودية قبل العرض بيومين أو ثلاثة مما أعاقه عن الظهور وظهر بدلا منه أحد التقنيين لتجسيد دوره ولكن التقنى الذى يحفظ النص والحركة قام بأداء شديد البراعة وضاعف من تصفيق الجمهور له عندما علموا بأنه ليس ممثلا وأنه قدم ذلك الأداء المدهش من باب إنقاذ الموقف!! كما ظهر كمال نرجس فى التحية ونال رغم غيابه قسطا كبيرا من تحية الجماهير وسط دموع الزملاء من فرحة شفائه.. ولعله ليس غريبا أن يقدم المسرح المغربى تجربة بهذا النضج والترابط الفنى فهناك أجيال شابة مبدعة تواصل تجربة الرواد وعلى رأسهم الكاتب المغربى الكبير عبد الكريم برشيد لكن العجيب حقا هو تألق مسرح جنوب السودان من خلال عرض «قربان النهر» لفرقة الجذور.. والفرقة كما يدل العنوان حريصة على الهوية الثقافية الإفريقية.. أما عرض قربان النهر فهو أول تجربة فنية لبطليه جورج جوزيف وبيرونيكا جون فانشول اللذين أبهرا الجمهور برشاقتهما وجمعهما بين التمثيل والرقص والغناء بنفس المهارة والتميز.. وعندما سألتهما عقب العرض فوجئت أنهما لم يتلقيا أى تدريب على المستوى الاحترافى ولم يشاركا فى ورش فنية خارج جنوب السودان.. وقربان النهر كفكرة يؤكد الرابط الثقافى والحضارى بين مصر والسودان حيث كان الفراعنة يقدمون تلك القرابين للنهر فى الماضي.. وفى المسرحية ترى الفتاة فى نومها النهر ينقسم إلى نصفين وتخرج التماسيح والوحوش المفترسة لتقضى على الحياة وفرحة المحبين.. وبالطبع الإشارة واضحة لما جرى فى السودان الشقيق أثناء حكم الجماعة الإرهابية من انقسام أدى لحروب وفتن ودمار لكن وجدان الفنان السودانى سواء كان فى الشمال أو الجنوب وسواء كان مسلما أو مسيحيا يؤكد قوة الروابط الإنسانية والرغبة فى لم الشمل وضم أبناء وادى النيل الذين يجمعهم شريان واحد وثقافة واحدة وفنون قادرة على اجتياز الخلافات العابرة ومد جسور المحبة بين الجميع.