كلما اقترب ميعاد سفرى من القاهرة لفانكوفر بكندا تداعبنى المشاعر نفسها التى تنتابنى كلما نويت السفر. رحلت عن القاهرة عن عمر يناهز العشرين ومكثت خارجها لعقود طوال أعود إليها بين حين وآخر, لكن على مر ال 25 عاما السابقة غيّرت من حياتى وجدولى وتدريسى الجامعى جملة وتفصيلا حتى أستطيع أن أقضى جزءا كبيرا من السنة، خاصة فى الشتاء، بالقاهرة. وهاأنذا على وشك السفر مرة أخرى، أتأمل شعورى تجاه ذهابى وإيابى من القاهرة وتعلقى بها وعواطفى تجاهها عامة. أما مدينة فانكوفر فى كندا فتربطنى بها صلة وثيقة، فقد أقمت بها إقامة دائمة لأكثر من ثلاثين عاما، وهى تعتبر من أجمل مدن العالم وذات طبيعة خلابة: الجبال المغطاة بالأشجار الخضراء طوال السنة التى تعلوها الثلوج فى شهور الشتاء، تحاط بمياه المحيط فى مشهد ربانى ساحر. أمطارها الغزيرة تجعلها خضراء نظيفة نقية الهواء، هذا وساكنو فانكوفر يهتمون بها ويقدرونها فيبقونها جميلة وفى رونقها الذى يجذب السائحين لها من جميع أنحاء العالم. ورغم ذلك أحمل حقائبى كل سنة وأقوم برحلة ال24 ساعة عابرة المحيطات والأراضى الشاسعة حتى أمضى شهور الشتاء أين؟ فى أم الدنيا. بغض النظر عما يوجد بالقاهرة من مشكلات ومعضلات، فالقاهرة لها سحر لا يضاهيه جمال أى مدينه أخرى. إنها المدينة التى لا تنام. البعض قد ينام مبكرا أو متأخرا والبعض الآخر قد يستيقظ مبكرا أو متأخرا، ولكن القاهرة فى حد ذاتها لا تنام. لا توجد مدينة أخرى فى العالم تكون فى ذروة نشاطها فى ال8 أو ال9 مساء مكتظه بالبشر يتجالسون ويتنزهون ويكملون ما لم يكملوه فى الصباح. كذلك فأسواقها وتاريخها وحضارتها وسكانها وصحوتها وحيويتها لا يضاهيها أى مكان آخر. أما الشمس المشرقة فهى موجودة دائما. وإن كنت أقدر تاريخنا العريق لكن لا يجذبنى للقاهرة الآثار أو الأسواق القديمة، وعادة لا أذهب إلى الأهرامات أو الخان إلا لوجود ضيف أجنبى يريد مشاهدة هذه الأماكن. أما الحياة الليلية والسهر فهى أيضا لا تجذبنى أبدا.. فلماذا هذا الارتباط العميق؟ أولا القاهرة بها حيوية وحياة لا توجدان فى أى مكان آخر. فى لمحة بسيطة دعنا نتجول فى أحد شوارع القاهرة التى قد تبدو للقاهريين عادية وغير ملفتة ولكنها فى حقيقة الأمر مليئة، بهذا الشيء الذى لا يتوافر فى أى مكان آخر فى العالم. شارع النزهة فى مصر الجديدة على مسافة بضع دقائق من منزلى ينبض بالحياة ويكتظ بالحركه طوال اليوم. قد تبدأ تجوالك عند محل الفول والفلافل: توقف لتشترى سندوتشات الفول والطعمية وأيضا ما طاب من الفلافل المقلية أو النيئة والفول المعبّأ أو المصفى أو المتبل. تحاور مع البائعين ستجدهم طيبين صابرين وذوى خفة دم لا توجد إلا فى القاهرة. أمر بالمطحنة لشراء البن المطحون فى لحظتها ثم أصنع مفتاحا إضافيا عند صانع المفاتيح وبالمرة صلّح ساعتك وأرفِ القميص الذى مزّقته أمس.. كل هذا فى متجر واحد تلو الآخر. تأمّل سمك اليوم المعروض عند السماك. اتصل فيما بعد ليصلك ما قد اخترته مطهوا ومجهزا. فى طريق عودتك اشترِ فطيرة محشوة بالسكر من الفطاطرى، فهى لابد أن تؤكل حارة. إنها نزهة قصيرة قد تبدو عادية إنما للبعض لا شيء يضاهيها. جميع هذه المشتريات قد تصل إلى منزلك إذا كنت شخصا لا تستمتع بالتجوال. أما عن التوصيل فحدِّث ولا حرج، فلا توجد مدينة أخرى بها هذا الكم من التوصيل للمنازل. يصل منزلك الخضار والبقالة واللحوم والتحاليل الطبية والدواء والأكلات الجاهزة والملابس المكواة وأى شيء آخر تتمناه. بالإضافة إلى كل هذا فإن القاهرة بها أشياء أخرى فريدة. فى فانكوفر أعيش حياة هادئة، حيث لا يدق باب منزلنا إلا نادرا ولا أرى الكثيرين وأتعامل مع القليلين، ولكنى أملأ حياتى بما أفضله وأميِّزه ولكنى أقضيه بمفردى. إذا كنت رياضية فأغمر حياتى بالرياضة الممتعة، إذا كنت كاتبة فأنغمس فى هذا المجال، وإذا كنت أحب زرع الورد والنباتات فأنا فى جنة الله على الأرض. أما فى القاهرة فأنا أبدا لا أكون وحيدة، فأنا محاطة بالأصدقاء والأقرباء وفريق من الداعمين والمساعدين يسعدون لسعادتى، ويقفون معى فى محنى، ويتجولون معى فى نزهاتى وفى زياراتى للطبيب وجولاتى للتسوق. لذلك فيجب عليّ أن أتناسى الأشياء التى قد أفعلها بمفردى، فأنا دائما وأبدا لست بمفردى. وبينما أنا مع هؤلاء أنا فى قمة السعاده أتكلم بعفوية مرتاحة البال غير مبالية بأى شيء. أعتقد أن كثيرا من أهل القاهرة سوف ينظرون إلى علاقتى بها على أنها شيء من الهلوسة.. ولكنى أوكد لهم أنه شعور نابع من الوجدان الداخلى. كايرو: سوف أشتاق إليك فحتى الشتاء المقبل. لمزيد من مقالات د. عزة رضوان صدقى