كل عام ونحن نحتفل بعيد الميلاد المجيد تعم الفرحة العالم كله وتتردد أنشودة الميلاد المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة. وهذا لأن السيد المسيح قد جاء ليعلم العالم كيف يكون الحب والفداء فى عالم كان ولا يزال غارقاً فى الذاتية والوحشية، ولكنه كان نوراً يشرق فى ظلمة عالمنا لكى يهتدى بنوره من يريد أن يخرج من الظلام ويحب الآخر. وذات يوم جاء للسيد المسيح من يسأله عن الوصية العظمى فى الناموس، فقال له: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك وقبل أن ينصرف هذا الناموسى قال له السيد المسيح: والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك (مت 22: 34). أى أن محبة الله لابد أن تكون معها أيضاً محبة الآخر فلا يمكن لأحد أن يحب الله ويكره الآخر، بل أكمل السيد المسيح وقال له: بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء. وفى تعاليمه أيضاً قال: سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعينيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم (مت 5: 38). وهناك من يرى تلك التعاليم صعبة أو مستحيلة، ولكن الحقيقة أنها صعبة ومستحيلة لمن لا يحملون الخير والنور بداخلهم. فالكراهية والشر هو مرض الإنسان وإذا كنا أصحاء من مرض الكراهية فلابد ألا نبادل أحداً بنفس المرض. فإذا تعاملنا بالشر مع الأشرار نكون نحن أيضاً مثلهم أشرارا، وإذا لم نستطع أن نسامح ونغفر بل ونحب فكيف إذن يسود العالم السلام والحب. يقول أفلاطون الفيلسوف الشهير: أعطونى جيشاً من المحبين وأنا أغزو العالم كله وانتصر ويقصد هنا بانتصار الحب وليس القهر والاحتلال. ويقول أنطون تشيكوف الكاتب الروسى العظيم: إذا كان فى وسعك أن تحب ففى وسعك أن تفعل أى شيء. فالحب هو قوة غير محدودة تستطيع أن تغير العالم الذى بداخلك حتى وإن كان من حولك أشراراً. ويقول العالم النفسى والاجتماعى كارل روجرز:القدرة على تحقيق الذات ليس فى انحصارها بل فى امتدادها للآخرين أى لا يمكن لأحد أن يحقق ذاته فى ذاته بل تحقيق الذات لابد أن يكون من خلال آخرين وبالآخرين. ويقول القديس يعقوب السروجي: إن كانت بداية المحبة هى محبة الذات فكمال المحبة هى بذل الذات. وقد يظن أحد أن هذا كله مجرد كلمات تفتقر إلى الحياة العملية. أسوق إليك عزيزى قصة من ملايين قصص المحبة الإنسانية التى متى تملكت من القلب استطاع الإنسان أن يحب بلا حدود. أثناء الثورة الفرنسية اعتقل كثيرون من النبلاء وكان من بينهم الكونتيسة لابيانى وقد تم احتجازها هى وخادمتها فى بدروم القصر حتى يتم فيها حكم الإعدام. وكانت الكونتيسة فى حالة انهيار تبكى بهستيرية وهى ترى أن ما تبقى لها من الحياة مجرد ساعات وبعدها ستعدم. وكانت تجلس بجانبها خادمتها وهى صامتة تحاول أن تهدئ منها بلا جدوى، وقد احتضنت الخادمة الكونتيسة، ومن كثرة البكاء والتعب نامت الكونتيسة على كتف الخادمة وراحت فى سبات عميق. ثم استيقظت منزعجة وأخذت تصرخ إذ وجدت نفسها ترتدى ملابس الخادمة ولم تجد ملابسها، وأخذت تصرخ تطلب خادمتها ولم تجدها، ومع كثرة الصراخ دخل عليها ضابط فأخذت تصرخ أكثر وتشبثت بحديد الشرفة تحاول أن تمنعهم من أن يأخذوها إلى الإعدام، ولكن الضابط أمسك بيديها وقال لها: أيتها الخادمة لم يصدر ضدك حكم الإعدام ولكن سيدتك هى من أعدمت منذ ساعات. وسقطت الكونتيسة من الذهول على الأرض وهى تنظر إلى ملابسها التى ترتديها وأدركت ما حدث فلقد انتهزت الخادمة نوم الكونتيسة وأبدلت ملابسها وحين جاء وقت الإعدام خرجت هى لتعدم بدلاً منها، لتقدم لها حياتها بدلاً منها. عزيزى القارئ إن الإنسانية تحمل قصصاً كثيرة للحب لأن الله خلقنا نحب، خلقنا فى بعض ولبعض، لم نخلق أفراداً بل خلق الإنسانية عائلة هى آدم وحواء ومنها جاءت البشرية. فالانحراف والمرض الإنسانى يظهر حين يغلق الشخص ذاته وكيانه وتكون كل حياته لأجل نفسه. فالنضج الحقيقى فى محبة الآخر والتكامل معه. فالأنانية وعدم الحب وعدم قبول الآخر والإدانة كل هذه أمراض إنسانية تخرج من كيانات مشوهة وغير ناضجة. لذلك القديسون الذين اختبروا الحياة مع الله خرجوا إلى العالم ليخبروهم بأن الله والآخر هو موضوع الحب. يقول القديس باخوميوس: إن صرت طاهراً فى كل شيء ولكن بينك وبين أخيك عداوة فأنت غريب عن الله. ويقول القديس يوحنا ذهبى الفم: إن أردت ألا يصيبك حزن فلا تحزن إنساناً. ويعلمنا السيد المسيح أن كل فقير وكل محتاج وكل مريض وكل من هو فى ضيقة نعامله كأنه هو السيد المسيح نفسه فيقول: كل ما فعلتم بأحد هؤلاء... بى قد فعلتم. ويقول المتصوف العظيم ابن الرومى فى عشق الإله: أيها البشر الأتقياء التائهون فى هذا العالم، التيه من أجل معشوق واحد ما تبحثون عنه فى هذا العالم، ابحثوا فى داخلكم فما أنتم سوى ذلك المعشوق. أى أن الله يحبك فابحث عن الله الذى يحبك فى داخلك. ويقول أيضاً: كنت اسمع اسمى ولا أرى نفسى، كنت منشغلاً بنفسى ولكنى أبداً لم أكن مستحقاً لها، وحين كان وخرجت من نفسى وجدت نفسى. يا سيدى لا تسلمنى إلى نفسى، لا تتركنى مع أى سواك، لخوفى منى أسرع إليك أنا لك فأعدنى إليك. ويقول أيضاً: قد تجد الحب فى كل الأديان لكن الحب نفسه لا دين له. لمزيد من مقالات القمص. أنجيلوس جرجس