تندلع الحروب التقليدية بين الدول من حين وآخر، وقد تعودنا على هذه الحروب وإن كنا لا نتفهم لم تحدث وما مغزاها، ولكن بعض الحروب القادمة قد تكون ذات أشكال مختلفة تماما عن ذى قبل، وقد يستبدل فيها السلاح والقنابل بالرسوم والتعاريف الجمركية. إنها الحروب التجارية، ومرة أخرى تدفع الولاياتالمتحدة إلى هذه الحروب كما كانت الحال فى الحروب التقليدية. ركّز الرئيس ترامب فى حملته للرئاسة الأمريكية على مقولة «المنتج الامريكى أولا»، وركّز أيضا على وعود دعم التجارة الأمريكية وجعلها منصفة أو عادلة لبلاده حتى ولو كان ذلك يهدد العرف الدبلوماسى بين الدول، وحتى ولو كان تنفيذ هذه الوعود يجر الولاياتالمتحدة إلى حروب تجارية قد تكون آثارها بعيدة المدى وذات تأثير عميق مثلها مثل الحروب التقليدية. كانت الولاياتالمتحدة تتبع نظام التجارة الحرة التى تدفع إلى انخفاض الأسعار وتعزِّز اقتصاد الدول المصدرة وتعطيها فرصة للتعامل بحرية مع بعضها البعض، ولكن فى يومنا هذا أصبحت التجارة الحرة أسلوبا عتيقا لا يناسب سياسة الحماية التجارية التى تنتهجها الولاياتالمتحدة مع المنتج المستورد. فى الأشهر القليلة الماضية فرض الرئيس الأمريكى رسوما جمركية على الواردات من كنداوالمكسيك والاتحاد الأوروبى والصين أملا فى أن يتحول المستهلك الأمريكى إلى شراء البضائع المحلية. ولكن قوبلت هذه المبادرة بمثيلتها من الشركاء التجاريين الذين دافعوا عن منتجاتهم بنفس الأسلوب ورفعوا الرسوم الجمركية على الواردات الأمريكية. هنا اشتعلت الحرب التجارية ودخلت طى التنفيذ. أول المشاكسات التجارية ظهرت عندما قررت الولاياتالمتحدةالأمريكية الانسحاب من اتفاقية شراكة المحيط الهادى التى هدفت إلى تعميق المعاملات التجارية وتشجيع البلاد على طول المحيط الهادى للشراء من بعضها البعض مع خفض الرسوم الجمركية.. اليوم الأمل فى استمرارية هذه الاتفاقية معدوم. كذلك هدّد الرئيس ترامب بالانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) التى كانت قد أزالت الرسوم والحواجز الضريبية بين الولاياتالمتحدةوالمكسيكوكندا لمدة 25 سنة. بعد مساومات ومناقشات استمرت لعديد من الأشهر وقّع الشركاء على اتفاقية جديدة، نافتا 2، وقد احتوت هذه الاتفاقية بنودا ونقاطا تحمِّل المكسيكوكندا أعباء أكبر من ذى قبل. والعلاقه التجارية بين كنداوالولاياتالمتحدة بحكم الحدود المشتركة والقرب الجغرافى والتشابه التاريخى وطيدة للغاية وبمعدل متقارب من الصادرات والواردات بين البلدين، ولكن بدأت الحرب التجارية بينهما عندما فرضت الولاياتالمتحدة 25 فى المائة رسوما جمركية على الصلب و10 فى المائة على الألومنيوم المستورد من كندا مما أدى إلى تحطيم المناخ التعاونى القائم بين البلدين. وفورا ردت كندا بوضع رسوم جمركية على منتجات أمريكية عديدة. المفترض أن فرض الضرائب على المنتجات الكندية من الصلب والألومنيوم قد يجعل الشركات الأمريكية تفضل شراء الصلب والألومنيوم المحلى، ولكن الأسعار لابد أن ترتفع لعدم وجود منتج كافٍ من الصلب والحديد فى الأسواق.. حيث إن ثلث الصلب المستغل فى الصناعات الأمريكية مستورد كما أن 90 فى المائة من الألومنيوم مستورد أيضا.. صحيح هذه الرسوم سوف تكافئ شركات الصلب والألومنيوم الأمريكية، ولكنها سوف ترفع أسعار المنتجات، حيث إن الشركات المصنعة للسيارات والطائرات وعبوات المأكولات والمشروبات وخلافه ستستمر فى استيراد الصلب والألومنيوم مما سيؤثر على القوة الشرائية لدى المستهلك أينما كان.. دعنا أيضا نتكلم عن الحرب التجارية الشرسة التى تقوم الآن بين الصينوالولاياتالمتحدة التى تصاعدت إلى مستوى خطير فى الآونة الأخيرة، وقد اتهمت الصينالولاياتالمتحدة ببدء أكبر حرب تجارية فى التاريخ. بدأت هذه الحرب بعدة جولات من الرسوم الجمركية فرضتها الولاياتالمتحدة على المنتجات الصينية الواردة، وردت الصين هى الأخرى برسوم انتقامية على الواردات الأمريكية. فى جولة واحدة فرضت الولاياتالمتحدة رسوما على 5000 منتج صينى بقيمة 250 بليون دولار، وهى تمثل نصف المنتجات الواردة من الصين. وردّت الصين بالمثل وفرضت رسوما على 5000 منتج أمريكى هى الأخرى. ويأمل الرئيس ترامب فى أن فرض هذه الرسوم سوف يقلِّل العجز التجارى الأمريكى مع الصين الذى يوازى حوالى 375 بليون دولار ولكن استمرار هذه الحرب وتعالى الرسوم بين البلدين سوف يسبب بلبلة فى العالم أجمع رافعا أسعار المنتجات على الجميع. تنفس العالم الصعداء عندما بدأت فى الآونة الأخيرة علامات هدنة بين العملاقين التجاريين، وقد تقابل رئيسا الدولتين على هامش مؤتمر العشرين فى بوينس إيرس ليخرج الرئيس ترامب من الاجتماع متفائلا. واتفق الطرفان آنذاك على هدنة لمدة 90 يوما يقدمان فيها على حل النزاع بينهما. وأقدما على إيقاف بعض من الرسوم الجمركية وتنازلا عن بعض ما قد يثير غضب الطرف الآخر. وقد وعدت الصين بشراء منتجات أمريكية أكثر حتى تعادل العجز التجارى القائم. هل هذه هى نهاية الحروب التجارية؟ بالطبع لا. صحيح أنه من المحتمل أن يؤجَّل الاشتباك بين الصينوالولاياتالمتحدة ويهدأ العالم بعض الشيء، ولكن الهدنة لن تستمر كثيرا طالما سياسة الحماية التجارية التى ينتهجها الرئيس الأمريكى مستمرة. العالم يعلم أن الحروب التجارية بين القوى العظمى لها تأثير سلبى على القوة الشرائية لدى العالم أجمع، فالمنتج النهائى من كلا البلدين بعد إضافة الرسوم الجمركية سوف يرفع الأسعار لدى المستهلك حول العالم ويوثر على النمو ليس فقط فى الولاياتالمتحدةوالصين بل وعلى الصعيد التجارى العالمى أيضا. ولكن كما هى الحال مع الحروب التقليدية يقف العالم مشاهدا ليس باستطاعته غير أن يأمل فى الخير ويتمنى السلام. -------------------------------------- أستاذ الإعلام بجامعة هانوفر كندا لمزيد من مقالات د.عزة رضوان صدقى