طرح المجلس القومى للمرأة، ضمن أنشطته المتعددة والمتميزة، حملة أطلق عليها التاء المربوطة، وقصد من ذلك أن يبث دلالة ذات مغزى مفادها أن المرأة (التى تأتى التاء المربوطة فى آخر حروفها والتى تشير إلى خصوصية أنوثتها عندما تفتح فتسمى تاء التأنيث) لا يجب أن تجعل هذه التاء قيداً عليها، وعلى حركتها، وعلى نوعية مشاركتها فى الحياة. وليست التاء فى حد ذاتها هى المقصودة وإنما ما يقف وراءها من ثقافة جامدة تميز بين الذكور والإناث، وتمنع عن الإناث كثيرا من الفرص التى يمكن أن يشاركن بها مع الرجال. وكأن لسان هذه الحملة يقول على المرأة ألا تسمح لهذا القيد الثقافى أن يعوق حركتها، لا بل إن عليها أن تحطم كل الأغلال والقيود الثقافية. وهنا لا تتحول التاء المربوطة إلى رمز يقيد بل تتحول إلى رمز للقوة؛ ومن ثم فقد جاء شعار هذه الحملة: التاء المربوطة سر قوتك. ومنذ أن منحتنى الدكتورة مايا مرسى حرف التاء المربوطة، لم أضعه فى المكان الذى خصص له على ملابسى، وإنما وضعته فى عقلى، أحاول أن استجليه، وأن أتأمل عدداً من المعانى المرتبطة بحرف التاء فى حالتى ربطها وفتحها، وأن اعتبر تأملى هذا هدية للمجلس القومى للمرأة، وتحية للمرأة المصرية التى نفخر جميعاً بأننا أبناؤها. من أولى هذه الدلالات تلك العلاقة القوية بين حرف التاء وحرف الهاء، فهذه التاء فى آخر كلمة المرأة هى هاء، وهى لا تنطق تاء إلا فى حالة الوصل فى الكلام أو الكتابة. ولا يتعلق الأمر بكلمة المرأة فقط، وإنما بكل أسماء المؤنث، والصفات التى تلحق به كأن نقول امرأة جميلة، عاملة، ...إلخ. وهذه العلاقة بين الحرفين لا توجد فقط فى هذه الحالة التى يحضر فيها المؤنث فقط، وإنما توجد على سبيل المثال فى كل صيغ جمع التكسير التى لا تنتهى بحرف التاء كجمع قاضى على قضاة، وأخ على أخوة، وغطاء على أغطية؛ كما توجد فى صيغ المبالغة كأن نقول رجل علامة، أو فهامة، أو رحالة. وتبدو العلاقة بين التاء والهاء فى هذه الحالات على أنها علاقة زواج يقوم كل حرف فيها بتقوية الحرف الآخر ومنحه قدرة على أن يتحرك عبر الكلام والنصوص، فيحل كل واحد محل الآخر إذا تطلبت قواعد اللغة ذلك. وإذا قلنا إن هذا الالتحام بين التاء والهاء لا يوجد بين حروف أخرى من حروف الأبجدية، فإننا نخلص إلى أن الحالات التى يتزاوج فيها الحرفان هى حالات تميز فى البناء اللغوى، أو هى حالات تقدم فيها اللغة هبة للمرأة لا تمنحها إلا فى حالات خاصة جداً. وثمة دلالة قوية على فكرة الهبة اللغوية هذه نكتشفها عندما نجد أن بعض أسماء الأعلام العربية تنتهى بتاء مربوطة، وتنطبق عليها نفس حالة التزاوج بين التاء والهاء مثل حمزة، ومعاوية، وعنترة. والغريب فى الأمر أن هذا التزاوج بين الهاء والتاء لا يخص إلا أسماء الأعلام العربية فقط، ففى الأسماء الأعجمية تفتح التاء فيقال بونابرت، ومدحت، ورفعت، وهاروت وماروت. ولا أميل إلى تفسير هذا التمييز اللغوى تفسيراً عرقياً، بالقول إن اللغة العربية تتحيز للعروبة، أو تفسيراً جندرياً بالقول إن اللغة تمنح الذكور ازدواجية التاء والهاء كما تمنحها للرجال. بل أميل فى مقابل ذلك إلى البحث عن دلالة هذا الاستثناء فى أن اللغة تفتح ذراعيها للغرباء، فلا تغرقهم فى تفاصيل الوقف والوصل، تفاصيل الأنوثة والذكورة، بل تفاصيل الحركة الإعرابية، وهى بذلك لا تهمشهم ولكنها تجلهم بمكانة خاصة. ولكن الأهم من ذلك هو البحث عن الحالات التى تفتح فيها التاء المربوطة فى صيغ المؤنث. تدلنا هذه الحالات على دلالات أخرى أكثر أهمية، ونقدم أمثلة لها من حالات أربعة. تتمثل الحالة الأولى فى صيغة الفعل الماضى المؤنث كأن نقول: لعبت البنت، أو أكلت المرأة. هذه التاء هى التى يقال لها تاء التأنيث، وهى تدل على أن القائم بالفعل أنثى. وهذا الفعل هو فعل يبنى على الفتح أو على السكون، ويأتى حرف التاء دائماً لصيقاً بآخر الفعل المؤنث، فى حين يتغير الحرف فى كل فعل مذكر ماضى. قد يؤشر ذلك على تحيز لغوى يمنح الرجل تنوعاً فى الفعل ويثبت المرأة عند فعل واحد، ولكنى أفهم ثبات حرف التاء فى نهاية الفعل الماضى المؤنث على أنه تأكيد وتثبيت للفعل المؤنث، فهو فعل تام كامل. وكأن تاء التأنيث قد جاءت لتوقع على تمام الفعل واكتماله. ومثل ذلك يقال فى الحالة الثانية لفتح التاء، وهى حالة جمع المؤنث السالم الذى تفتح فيه التاء التى كانت مربوطة فى المفرد معلمة (معلمات)- جميلة (جميلات). هنا تتحول التاء والهاء المتزاوجتان إلى تاء مفتوحة، تدل على تثبيت الصفة وعلى روح الوحدة والتعاون. فالتلازم والتزاوج بين الهاء والتاء فى صفة المفرد لا تتحول إلى فرقة فى صيغة الجمع، بل تتحول إلى حرف واحد يلم الشمل ويجمع المؤنث على حرف سواء. أما الحالة الثالثة فتتصل بفتح حرف التاء فى أول الفعل المضارع المؤنث، فتظهر الصيغ المضارعة المؤنثة متوجة بحرف التاء المفتوح (فى أول الفعل) الذى يؤشر هنا على استمرارية الفعل وتفتحه على آفاق متعددة من العمل والانجاز. ويمكن أن نشير فى النهاية إلى حالة رابعة، وهى حالة وردت فى بعض آيات التنزيل التى ذكر فيها اسم المرأة ملازماً لاسم الرجل. فقد جاء اسم المرأة فى التنزيل بتلازم التاء والهاء كما هو معروف، ولكن حين لحق اسم المرأة باسم علم كعمران وفرعون والعزيز ولوط ونوح جاءت كلمة المرأة بفتح التاء. ولا أقول هنا تأويلاً بأن التاء المفتوحة تجعلها تابعة، ولكن أقول إن فتح التاء هو فتح لأفق علاقة متجددة، علاقة تفاعلية، تشاركية تقول المرأة فيها رأيها بصراحة، وكل الأمثلة تدلنا على أن المرأة تتفاعل وتشارك خاصة فى الحالات الإيجابية من التفاعل: فهذه تقول لربها «إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا» (آل عمران: 34)، وأخرى تقول «قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ» (القصص: 9) وثالثة تقول «الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ» (يوسف: 51). وبعد... فإننى بعد هذا التأمل فى حرف التاء المربوطة، أتمنى ألا أكون قد جاوزت المدى والحد، وإن كنت فعلت فبقدر ما جاوزت بقدر ما أكن للمرأة من احترام وبقدر ما أقدم من التحية والتقدير لكل النساء المصريات، من هن فى أروقة السلطة يعملن، ومن هن بأيديهن ينسجن غزلاً للمستقبل. لمزيد من مقالات د. أحمد زايد