(1) استيقظت مبكرا أشعر بصداع فتشت كثيرا عن مبرر له دون فائدة، خرجت إلى صالة المنزل افتش عن نظارتى الطبية فوجدت فى الشقة طفلًا لا أعرفه لا يتجاوز العامين، كان باب الشقة مفتوحًا بما يعنى أنه تسلل إلى هنا قادمًا من بيت أحد الجيران. علاقتى بجيرانى ضعيفة للغاية وليس هناك فرصة لأن أطرق أبوابهم سائلًا كل بيت على حدة إن كان هذا طفلهم أو لا، لم أعمل حسابًا لهذه اللحظة، قلت لنفسي: سيظهر فى الدقائق القادمة من يبحث عن هذا الطفل، ستكتشف أمه غيابه، وستخرج إلى بسطة السلم مذعورة تنادى على طفلها، ترى ما اسمه؟ حاولت أن أرفع الطفل فوق الأريكة إلا أنه امتعض، فأحطته بكل الوسائد الممكنة، ثم استدعيت البواب بالتليفون. أكد البواب أن الطابق الذى أقيم فيه لا يوجد به أطفال، قلت له: ربما طفل أحد الزوار؟ قال: إنه لم يلحظ دخول شخص غريب يحمل طفلًا إلى العمارة اليوم، قال لى البواب: «مش يمكن ابن حضرتك؟». جلسنا أنا والطفل سويًّا ننتظر طويلًا، اسميته «ماجد»، وأطعمته لبن الأطفال الذى اشتريته من الصيدلية بما تبقى من أموال معي، ثم اتصلت بمن يدينون لى ببعض المال، فوفى الكثيرون بما يكفى لأن أقدم له فى مدرسة لا بأس بها، كان مستوى تحصيله متوسطًا، وكنت أخاف عليه كثيرًا فأحضرت له المدرسين حتى باب البيت، الأمر الذى جعلنى أضاعف ساعات عملي، فحصلت على ترقية كبيرة، إلا أننى اضطررت لاستبدال جزء من معاشى لأجرى له عملية جراحية خطيرة نتيجة حادث تعرض له وهو فى طريقه إلى المنزل فى آخر يوم من الامتحانات، رقد بعدها لفترة طويلة أعاقته عن حضور التيرم الأول فى الهندسة، إلا أنه سرعان ما استرد عافيته وتفوقه، إلا أنه انتكس من جديد عندما تعرف بعد عامين على فتاة قاسية وقع فى غرامها فأذاقته حريق القلب، أخذته إلى شيخ أعرفه ليخرجه من المأساة، إلا أن الفكرة أتت بنتيجة عكسية فكره الدين، قررت أن أصحبه معى فى رحلة عمرة طالبًا منه أن يؤدى واحدة لروح والدته، كنت قد اخترعت له قصة بخصوص أمه كما تخيلتها ووصيتها وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة على طريق الإسكندرية الصحراوى بأن يعتمر ماجد نيابة عنها عندما يكبر، عاد من هناك رائق الذهن، فوقع فى غرام فتاة طيبة، طلب أن يخطبها فطلبته أن يتمهل قدر الإمكان، وأن يستمتع بالحب، وهو ما حدث، فأشرقت روحه من جديد، وبعد أن أنهى تعليمه الجامعى كانت المكافأة أن سافرنا سويًّا فى إجازة إلى باريس، وهناك أخبرته بالقصة الحقيقية، فاحتضننى وبكي، وقال إنه لا يعرف غيري، وأنا قلت له: هكذا كان شعورى أيضًا منذ التقينا أول مرة فى صالة بيتي. (2) ظهر فى شارعنا كلب حديث الولادة ، أتابعه وهو يحاول أن يتعلم النباح مثل بقية بنى جنسه فيخرج صوته مبحوحا متقطعا بشكل يثير ضحك كل من يتخذ من شارعنا مستقرا له ، يغيب الجرو الصغير ثم يظهر فجأة ب «هليلة» فى الشارع جعلت الجميع يقعون فى غرامه و يسألون عنه إن اختفى . أهم ما يميزه هو حبه للحياة ، يسير إلى جوار البنات صامتا رافعا رأسه الصغيرة باتجاههم ،أراقبهم و هن يتحاشينه و يسرعن الخطى ثم سرعان ما يسبقهن الجرو بخطوة ثم يتشقلب أمامهن على أسفلت الشارع فيثير ضحكهن و تعاطفهن فيسمحن له بان يكون فى الصحبة حتى نهاية الشارع ، يعرف حدود الشارع جيدا فلم يحدث أن خرج منها ، يستقبل المارين الغرباء بنباحه الكوميدى و شقلبته و مرحه حتى يغادروا الحدود بسلام مؤتنسين بالتشريفة التى يقدمها لهم . يغيب لساعات طويلة ثم يتصادف أن تمر «فسبا « يشغل صاحبها عبر الفلاشة بصوت عال إحدى الأغنيات الشعبية الصاخبة فيظهر الكلب الصغير من مكان ما و يظل يجرى خلف الفسبا بطريقة لا تشبه الكلاب و لكنها أقرب لقفز الكنغر الراقص قال لى عامل المقهى إنه دماغ و أنه قبل يومين و أثناء تنظيف المقهى فجرا عقب انصراف الرواد تسلل إلى أحد الأركان مستكينا بينما عملية التنظيف تتم برعاية صوت أم كلثوم القادم من الراديو ، سألته عن اسم الأغنية فقال العامل « أنا فاكر؟ اسأله» . كلب صغير محب للحياة أصبح نجم الشارع ، اعتبرناه هاربا من أهله ، وكنا نتساءل عن سر اختياره لهذا الشارع بالذات إلى أن اختفى تماما ، سألت السايس فقال إن مجموعة من الكلاب دخلت الشارع فجر أحد الأيام و خرج معهم و لم يعد ، ظننت ان السايس يمنحنى نهاية منطقية ليريحنى ، لكننى تذكرت أننى فى نفس الوقت تقريبا صحوت فجرا على أصوات نباح عالية فى الشارع يتخللها نباح جروى الصغير المميز ، قلت لنفسى إن السايس صادق و إن هذا النباح كان نقاشا عائليا انتهى باصطحاب الابن البار إلى ملاعب العائلة وانه تحت ضغط ما اضطر للرحيل عن العالم الذى اختار أن يعيش فيه بنفسه و بقوانينه الخاصة جدا فى الطعام و الانطلاق و حب البشر و الموسيقى . مر وقت طويل افتقدته خلاله إلى ان رأيته اليوم يخرج من أسفل السيارة و يجرى باتجاهى بشوشا كعادته لكنه كان يعرج و يرفع بصعوبة عن الأرض ساقه الخلفية المكسورة ، و فهمت أن عودته للحياة التى يحبها لم تكن سهلة أبدا .