إنه الأحد الأخير فى شهر رمضان الكريم، حيث أربع وعشرين ساعة رمضانية، شديدة الحرارة، عالية الرطوبة، قاسية الإيقاع الحدثي، بدأت باستهداف مركبة أمنية جنوبالقاهرة (المعادي)، وانتهت باستهداف عدد من المصلين خارج مسجد (دار الرعاية) قرب مسجد (فينسبرى بارك) شمال العاصمة البريطانية (لندن)، وبين الاستهدافين كان استهداف من نوع آخر قرر المستهدفون فيه تصويب سهام استهدافهم صوب أحد المطاعم المصرية الشهيرة فى شرق القاهرة بسبب ما سموه استهداف المطعم اضطهاد عدد من (المنتقبات). عبر إيقاع اليوم الساخن تكتشف سيادة ثقافة الاستهداف أو بمعنى أدق (الدهس)، إنه التعبير الفصيح للعبارة العامية التى تفرض نفسها على الوعى الجمعى هاتفة فيه (اللى يقع تحت إيدك افرمه)، والفرم الدهس- هنا كلما كان ممنهجاً منظماً جمعياً يكون أسرع فى تحقيق أهدافه وأجدى فى إيصال أفكاره، وأعنف فى ردع مخالفيه، وبالتالى يبلغ الفرم الدهس- مراده كلما استدمج داخل أطر نظامية أو تنظيمية. إن رابطا وثيق الصلة يربط بين حوادث اليوم الثلاث، حيث أرضية مشتركة عالمية أنتجت استهداف المركبة الأمنية فى المعادي، واستثمرت مشاجرة عادية فى مطعم مدينة نصر، وحركت سيارة الدهس أمام مسجد (دار الرعاية) اللندني، وهى ذات الأرضية التى طرحت لنا ثمار خريف فاسدة أنجبها (ربيع عربي) مزور، أرضية تحمل عنوانا كبيرا هو (العالم الجديد)، ويرويها خطاب عالمى إعلامى بأذرع متنوعة، تجاوزت تقليدية الوسائل إلى (الإعلام المجتمعي)، حيث الكل شريك فى صناعة ثقافة الفرم، وفى تهيئة الأجواء لانتشار جراثيم الدهس، بعد استحضار نية الكُرّهْ، وإعلان الثأر، ونفى الآخر. بالبحث عن خلفيات من شاركوا فى عمليات (اللجان النوعية) التابعة للتنظيم الإخوانى الإرهابي، تكتشف أن نوعيات جديدة من صفوة المجتمع التنظيمى تكون هذه اللجان، سواء الصفوة الاقتصادية أو الاجتماعية أو التعليمية، عقول نمت فى أحضان تنظيم التمكين بعد ثورة 2011م، وجدت نفسها قاب قوسين أو أدنى من أن تتحول من مجرد (أفراد) إلى أعيان سادة، حتى ذهبت أمانيهم أدراج رياح الشعب فى 30 يونيو 2013م، لتقرر هذه العقول فيما بعد الاتجاه صوب تحقيق سيادتها فى بلاد المهجر بادعاء النضال عبر الانتقام من الوطن وشعبه، ومَنْ فشل فى الهرب قرر أن يمارس انتقاماً مباشراً من شعب رفضه ومؤسسات لفظته، وبالتأكيد التنظيم يؤصل شرعاً لمنطق (يا نعيش عيش فل يا نموت إحنا الكل). إنها نفس الثقافة المتربصة من البداية تلك التى تحكم عقلية نشاط الأخوات الرمضاني، فالانتماء للتنظيم يُشعر الفرد بالقوة، وفى زمن استضعاف التنظيم تتصدر الأخوات ليدهسن بتصدرهن العديد من العصافير، فالأخت منفردة قادرة على أن تكتسب تعاطف الجمهور صراخاً وبكاءً وربما محاججة، ولكن الأخوات حين يخرجن فى فعل جماعى فإنهن يمارسن عزة الإسلام عملياً، وعلى من يتعرض لهن أن ينتظر جزاءه، سواء من الأخوات المهيئات للجهاد ضد أى حد، أو من التنظيم بأمر مباشر، كأن تحرك القيادة أفرداً للثأر للأخت فى عملية نوعية خاطفة، وهو ما كان يحدث من أيام (مبارك)، أو بطريقة غير مباشرة عبر الماكينة الإعلامية للتنظيم، ليكون شجاراً مع أعضاء فعالية الأخوات التنظيمية فى مطعم، مجرد منصة يقفز عبرها التنظيم من الثأر للأخوات إلى تسويق (عداء الشعب للإسلام ومظاهره ضياع النخوة فى ظل النظام الحالى استعراض قدرة التنظيم على ضرب سمعة مؤسسة اقتصادية التسويق لأن النظام الحالى فى مصر يضطهد المحجبات والمنتقبات). بات فرم الواقع هو بوابة العبور نحو (العالم الجديد)، يسير واقعنا نحوه مدفوعاً بخطاب يحول كل إنسان فى عصرنا إلى (مفرمه)، تتغذى على تفتيت كل من حولها، وتمارس سطوتها عبر سحق كل من يقترب منها، وما نموذج مسجد (دار الرعاية) إلا تجسيد خالص ونقى للحالة المستهدفة عالمياً، فبالقرب من الساحة الدهس كان مسجد (فينسبرى بارك) خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات ساحة مفتوحة لكل جراثيم التطرف برعاية رسمية وتحت سمع وبصر كل أجهزة الأمن البريطانية، قادة الجهاد العالمى تخرجوا من هناك إلى كل أصقاع العالم، واليوم تطور انجلترا النموذج، عبر إرهاب مضاد، تحصد أول ثمار لطرح العالم الجديد، حيث شعار مواطنيه (اللى يقع تحت إيدك افرمه). هكذا ببساطة يمكن قراءة حوادث الأحد الأخير، وهكذا يمكن أن يتم مد الخط ليشمل مظاهر الدهس فى مجتمعنا سواء أكان دهس مؤيدى النظام لمعارضيه، أو المتنافسين داخل النظام لبعضهم البعض، أو المعارضين للنظام فى صراعهم من أجل البقاء فى بؤرة أحداث المشهد، إن هكذا تفسير يحملنا مباشرة إلى (العالم الجديد) القادم والذى لا يمكن أن يقوم إلا إذا دهس سابقه، ومن ثم يستعد ليدهس من ينافسه أو يخالفه إنه عالم جديد. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى;