كثيرا ما توقفت عند هذه الصفة، التي تناولتها علوم الإدارة البشرية الحديثة، تحت اسم "الثبات الانفعالي"، وجعلها الله تعالى سببا رئيسا من أسباب دخول الجنة، وهي "كظم الغيظ". وتأملت سلوكي، عبر سنين عمري الممتدة، ووجدت كم كانت حاجتي إلى "كظم الغيظ"، في مواقف كثيرة، وكم يحتاج مجتمعنا، والبشرية، إلى التحلي بها، ومع ذلك تتوه منا في زحام المناكفات التي لا يكاد يمر يوم من حياتنا دون أن ينطوي عليها. فإذا تأمل المرء في هذا الخلق أو السلوك؛ وجده هدية الإسلام للبشرية، وعصمة الله للبشر، من الزلل والتجاوز والخطأ، بعضهم في حق بعض. فلو اتصفت البشرية بهذه الصفة؛ لتجنبت إزهاق أرواح الملايين في حروب عبثية، ومعارك غبية، ومواجهات دامية، على مدار التاريخ، تسبب فيها عدم التحلي بها، والتنكب لها، والعمل بعكسها، وهو إنفاذ الغيظ، والتنفيس عنه، بقرارات غاضبة، أو مواقف منفعلة، أو معالجات متهورة. والأمر هكذا، كم تسبب عدم كظم الغيظ في كوارث ومصائب ومحن، برغم أنه يمثل "الفرملة" التي تمنع التردي، و"الضابط النفسي" الذي يعصم من تدمير الذات، و"الكابح" الذي يعصم المرء من الوقوع في الخطأ، والتمادي في حق الآخرين. ومعنى الكَظْم لغةً: الإمساك، وأَصْله: حَبْسُ الشَّيء عن امتلائه، يقال: كَظَمْت القِرْبَة، إذا ملَأْتها. ويقال: كَظَمْت الْغَيْظ، أَكْظِمُه كَظْمًا، إِذا أمْسَكت على ما في نفسك منه. أما الغَيْظ فهو: الغَضَب. ومعنى "كَظْم الغَيْظ" اصطلاحًا: تجرُّعه، واحتمال سببه، والصَّبر عليه. يقال: كَظَم غَيْظَه، أي: لم يُظْهِره بقولٍ أو فعلٍ، مع قُدْرته على إيقاعه. ونظرا لأهمية "كظم الغيظ"، فقد وصف الله تعالى المتقين الذين يستحقون الجنة بقوله: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".(آل عمران:133-134). فجعل الله من أولى صفات المتقين، الذين يستحقون الجنة، ثلاثا: "الإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس". فإذا تأمل المرء فيها جميعا، وجدا تباينا بينها، وترابطا في الوقت نفسه، حتى جعلها الله من "الإحسان"، الذي يحب المتصفين به. "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ": أي: "الجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، يقال منه: "كظم فلان غيظه" إذا تجرعه، فحفظ نفسه من أن تمضي في ما هي قادرة على إمضائه باستمكانها ممن غاظها، وانتصارها ممن ظلمها"، بحسب الطبري في تفسيره. وهنا تأتي أهمية الصفة الثالثة: "وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ"، وهم الذين يتجاوزون عن مؤاخذة الناس، مع القدرة على ذلك، وتلك منزلة أرقى من كظم الغيظ بمفرده، إذ يجمع معه؛ ألا ينطوي على حقد أو ضغينة، وهو: العفو عن الناس. ثبت عن سهل بن معاذ عن أبيه رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيِّره الله من أي الحور العين شاء". (حسّنه الألباني في صحيح ابن ماجة، وصحّحه في "صحيح الترمذي"). ولكن كيف يمكن أن نوفق هنا بين الحق في الانتقام من المعتدي، ومعاقبته بالمثل، الذي دعت إليه الآيتان: "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ".(البقرة: 194)، و"وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ".(الشورى:39). ذلك مع كظم الغيظ، وترك الانتقام، والعفو، والصفح؛ الذي دعا إليه تعالى بقوله: "فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ".(الحجر:85)، وقوله: "وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ".(الشورى:43)، وقوله: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ".(الأعراف:199)؟. دفع العلماء هذا التعارض المتوهم بقولهم إن الله تعالى قد أذن في الانتقام، ثم أرشد إلى أفضلية العفو، ويدل لهذا قوله: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ". (النحل:126)، وقوله: "لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ" (النساء:148)، ثم أرشد إلى العفو بقوله: "إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا". (النساء:149). والوجه الثاني أن الانتقام له مواضع يحسن فيها، والعفو كذلك. قال أبو الطيب المتنبي: "إِذَا قِيلَ رِفْقًا قَالَ لِلْحِلْمِ مَوْضِعُ.. وَحِلْمُ الْفَتَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد