بجسد مثقل بأعباء السن ووهن يشير لقرب النهاية، يجمع الملك بناته الثلاث حوله ويخبرهن أن مملكته ستوزع بينهن، ليس بالتساوى لكن بحسب قوة حب كل واحدة منهن له... هكذا تبدأ مسرحية "الملك لير" التى كتبها ويليام شكسبير بين 1603 و1606. البداية المفعمة بالترقب توضح لماذا يظل الكاتب الإنجليزى الذى كتب «هاملت» و«ماكبث» و«تاجر البندقية" و«روميو وجوليت» و«يوليوس قيصر» و«عطيل» و«انطونيو وكليوباترا» متربعا على قائمة الكتاب الأكثر تأثيرا فى العالم بعد مرور 400 عاما على وفاته. فمن يقرأ الصفحات الأولى لا خيار أمامه سوى قلب الصفحة. يظل اسم شكسبير أهم منتج ثقافى بريطانى خرج للعالم. وما زالت أعماله تترجم ويعاد ترجمتها وتتحول لأفلام ومسرحيات حول العا لم إلى اليوم. وفى مسقط رأسه «ستراتفورد أبون ايفون» المدينة التجارية وسط بريطانيا، سترى بجلاء كيف تحول شكسبير إلى علامة تجارية لجلب السائحين والزوار وتنشيط حركة البيع والشراء. فمنزله جهز كمزار سياحى يزوره الملايين سنويا ويدر مبالغ طائلة للمدينة الصغيرة ولبريطانيا إجمالا. فيما الحوانيت والمحال تعرض كتبه وملصقات عنه وتماثيله وأقواله منقوشة كبضاعة تذكارية. وفى استطلاع نشرت نتائجه هذا الأسبوع أجرى على 18 ألف شخص من 15 دولة، اجراه «المجلس البريطاني» بالتعاون مع مؤسسة «يوجوف» البريطانية لاستطلاعات الرأى العام، كانت شعبية شكسبير فى بلاد مثل الهندوالمكسيك والبرازيل أعلى حتى منها فى بريطانيا. ففى المكسيك مثلا قال 88% ممن استطلعت آراؤهم أنهم يحبون شكسبير مقارنة ب59% من البريطانيين. وقال 84% من البرازيليين الذين تم استطلاع رأيهم إنهم يجدون أعمال شكسبير"ذات صلة بتطورات عالم اليوم"، مقابل 57% من البريطانيين. وبينما قال 83% من الهنود الذين تم إستطلاع رأيهم إنهم يفهمون أعماله، قال 58% من البريطانيين إنهم يفهمون أعماله. وأجمالا كانت شعبية شكسبير دوليا 65% مقابل 58% فى بريطانيا. أما أدنى شعبية له فكانت فى المانيا (44%) بلد جوته وشيلر وتوماس مان، وفرنسا (51%)، بلد فيكتور هوجو ومارسيل بروست وفولتير الذى وصف يوما أعمال شكسبير ب «مزبلة هائلة». ووفقا للإستطلاع فإن شكسبير «ضرورى لبريطانيا أقتصاديا ومن حيث صورتها ونفوذها فى العالم». فأكثر من تم إستطلاع رأيهم قالوا إن شكسبير جعلهم ينظرون بشكل إيجابى إلى بريطانيا (62% من الهنود) و(57% من البرازيليين). ونحو 70% من هؤلاء قالوا أنهم "مهتمون بزيارة بريطانيا بسبب تلك الصورة الإيجابية عنها التى ولدها شكسبير". شكسبير إذن ظاهرة ثقاقية-تجارية، وهناك سوق كبيرة فى بريطانيا والعالم ل «صناعة شكسبير»، والأستخدام التجارى له وتحويله كعلامة تجارية فى مجال الدعاية والسياحة والأنتاج الفنى والمسرحى والترفيه. وهذه الأهمية البالغة لتأثير نصوصه المسرحية وأشعاره على أقتصاد بريطانيا وصورتها ونفوذها دفعت الكثيرين للحفاظ على شكسبير كمؤسسة ثقافية بعيدا عن النقد التاريخي. وهو ما يقلق الكثير من البريطانيين من الخبراء والعامة. فشكسبير يدرس فى المدارس البريطانية كما تدرس الشخصيات الدينية المقدسة: أى ولد وترعرع وتعلم وأثبت موهبته وتألق وكتب أجمل ما أنتجه القلم الإنسانى وتوفى وترك أرثا للعالم كله. لكن هذا ليس بالضرورة صحيحا. فشكسبير شخصية غامضة جدا وهناك تناقضات كبيرة فى سيرته ألقت بظلال من الشك على أن الطفل الذى ولد فى «ستراتفورد ابون ايفون» ونال تعليما بسيطا ولم يغادر بريطانيا يوما ولم يتعلم لغات أخرى، هو من كتب تلك الأعمال المسرحية التى تكشف معرفة وثيقة بلغات عديدة وبلاد بعيدة (نحو ثلث أعمال شكسبير تدور فى إيطاليا وتصفها بدقة)، كما تكشف معرفة عميقة بالفلسفة والدين والسياسة ودهاليز الحكم والطبيعة الإنسانية والعلوم الطبيعية. فسيرة شكسبير الموثقة تشير إلى انه كان رجل أعمال وتاجرا وممثلا مغمورا سافر إلى لندن وعمل مع فرق مسرحية كممثل ومتعاقد مسرحي، إذ كان يشترى مسرحيات من المؤلفين ويجهزها للعرض للجمهور فى لندن التى كانت عندما توجه إليها شكسبير مدينة يعيش بها نحو 200 ألف نسمة، وكان الذهاب للمسرح أكثر الأنشطة شعبية وسط الناس، كما كان العمل فى الأنتاج المسرحى مربحا جدا بمعايير ذلك الزمان. ثم بعد سنوات عاد إلى مسقط رأسه حيث توفى بعد ذلك بسنوات. محدودية تعليم شكسبير، وعدم معرفته بلغات أخرى وعدم سفره خارج بريطانيا كان يمكن أن تمر بدون شك كبير لولا أن شكسبير لم يترك مسودات من أعماله أو نسخ بخط اليد أو خطابات من أى نوع. وهذه حقيقة مذهلة، فجل المعاصرين له من الكتاب والمؤلفين وجدت مسودات لأعمالهم ونسخ بخط يديهم. بينما شكسبير لم يتم العثور على ورقة واحدة من مؤلفاته بخط يده أو أى مسودة لأى من أعماله المسرحية . كل ما عثر عليه هو وصيته التى كتبت بطريقة بدائية جافة مثل لغة التجار يوزع فيها أملاكه على زوجته وبناته، بدون أن يذكر كلمة واحدة عن مسرحياته أو أشعاره وإلى من ستؤل ملكيتها للتصرف فيها بعد مماته خاصة أن الكثير منها لم يكن نشر أنذاك. كما عثر على 6 إمضاءات له، بينهما ثلاثة على وصيته، كتبت كلها بهجاء مختلف وبطريقة تشير إلى محدودية تعليم أو غياب تعليم صاحبها. أيضا يعزز الشكوك أنه لم يكن معروفا فى مدينته خلال حياته على أنه كاتب مسرحى أو مؤلف، بل كان معروفا كتاجر. وعندما توفى وضع شاهد على قبره يصور رجل يجلس مقرفصا، لكن بعد ذلك بسنوات طويلة أستبدل هذا التمثال بتمثال أخر لرجل يحمل ريشة وورقة. وبالتالى ظهر وسط الحقل الأكاديمى البريطانى تيار قوى منذ القرن الثامن عشر يعتقد أن شكسبير هو «أسم أدبي» وليس أسم المؤلف. وأنه حدث خلط متعمد بين الأسم الأدبى وشخصية شكسبير المتعهد المسرحى لإخفاء هوية الكاتب الحقيقى الذى كان ينتمى غالبا لأحد الأسر العريقة وكان يخشى على وضعه ووضع أسرته بسبب الأفكار السياسية الثورية الواردة فى العديد من مسرحيات شكسبير. ووضع الأكاديميون المختصون قائمة بأسماء عدد من الشخصيات التى يمكن أن تكون هى "المؤلف" لهذه الأعمال الساحرة. ومن بينها كاتب مسرحى واعد يدعى كريستوفر مارلو درس فى كمبردج وألف مسرحيات هزت الوسط الثقافى اللندنى وهو ما زال فى مطلع العشرينيات من العمر. كان مارلو ذا حس نقدى لاذع وكان أيضا ملحدا فى وقت كان الصراع داخل بريطانيا بين البروتستانت والكاثوليك على أشده. وعندما وجهت تهم الإلحاد لمارلو ما يحتم إعدامه، أختفى فجأة من المشهد الأدبى والثقافى البريطاني. ثم ترددت قصص حول مقتله فى مشاجرة فى حانة. لكن ظلت شكوك عميقة أن مارلو فبرك قصة موته من أجل الخلاص من الملاحقة القانونية وهرب إلى إيطاليا حيث عاش فيها حتى موته وكان يرسل أعماله المسرحية إلى المتعهد المسرحى شكسبير كى يقدمها على مسارح لندن. ويقول أكاديميون بريطانيون من بينهم الأكاديمية روس باربير، التى تمحورت دراستها للدكتوراة حول أن مارلو هو شكسبير الحقيقي، إن مجرد حقيقة أن نحو ثلث الأعمال المنسوبة إلى شكسبير كانت تدور فى ايطاليا مثل «روميو وجوليت» و«عطيل» و«تاجر البندقية» و«أنطونيو وكيلوباترا» و«يوليوس قصير» و«كريولانس» و«جلبة بلا طحين» و«سيدان من فيرونا» و«سيمبلين»، وحقيقة أن الكاتب لديه معرفة عميقة بالتاريخ الرومانى وتقاليد البلاط الإيطالى وأن الكثير من أفكار هذه الأعمال كانت تدور حول المنفى والوطن والحنين له دليل على أن مارلو هو المؤلف الحقيقي. ويعزز الشكوك أن شكسبير نشر أول أعماله بعد وفاة مارلو المفترضة ب13 يوما فقط. وكان هذا العمل أرسل أولا إلى الناشر بدون ذكر اسم المؤلف. كما أنه قبل غياب مارلو عن المشهد الأدبى البريطانى لم يكن هناك أى ذكر لشكسبير كمؤلف مسرحى برغم أنه كان فى الثلاثينيات من العمر أنذاك وهو نفس عمر مارلو. وتتعمق الشكوك فى ضوء حقيقة أن شكسبير، الذى أدخل نحو 3 ألاف كلمة جديدة على المعجم الأنجليزي، لم يترك مسودة واحدة أو أى نسخة بخط يده لأى من أعماله، سواء مسرحياته (38 مسرحية) أو أشعار وسوناتات (154 عملا) وليست هناك أية مراسلات بخط يده أو خطابات. وبينما يصور شكسبير فى الوعى الشعبى البريطانى ككاتب مسرحى مؤثر جدا خلال فترة الملكة اليزابيث الأولى، مقربا منها ويعرض مسرحياته فى بلاطها، لا تشير وثائق البلاط خلال تلك الفترة إلى أن اليزابيث الأولى عرفت شكسبير أو التقت به أو شاهدت مسرحياته المفترضة، فلم يرد ذكر لاسم شكسبير أبدا فى أى مراسلات أو خطابات للملكة أو بلاطها أو المقربين منها أو مؤرخى فترتها. وعندما توفى لم ينتبه أحد لا فى لندن ولا فى مسقط رأسه إلى وفاة "شكسبير المؤلف المسرحى النابه". فقط بعد وفاته بنحو ثمانى سنوات جمع أحد النقاد بعض مسرحياته ووضعها فى كتاب وقال هذه مؤلفات شكسبير ووضع صورة على غلاف الكتاب، باتت لاحقا هى الصورة الرسمية لشكسبير، بالرغم من أنه ليس هناك أى دليل تاريخى على أن هذه الصورة له، فلم يتم رسمه أبدا ولا يعرف أحد من المؤرخين والأكاديمين المتخصصين فى شكسبير ملامحه وبنيانه وشكله الحقيقي. بسبب هذه التناقضات والنقاط الغامضة ظهر سؤال "التشكيك فى إصالة شكسبير"، ولم يطرح فقط فرضية أن مارلو قد يكون هو المؤلف الحقيقي، بل شخصيات أخرى من بينها السير فرانسيس بيكون، وإدوار دى فير أحد نبلاء أكسفورد. فكلاهما نال أفضل تعليم ممكن فى زمنه وسافرا مرارا وكانا على معرفة وثيقة بدهاليز البلاط الملكى فى بريطانيا وأوروبا عموما. لكن الأهم أن كلاهما كان ثوريا فى أفكاره وضد الملكية المطلقة مع ميول خفية لنظام جمهورى ما يشكل خطرا عليهما إذا عبرا عن هذه الافكار بشكل مباشر. كما أن مهنة الكتابة المسرحية للعامة كانت مهينة للنبلاء. ويقول كير كوتلير الأكاديمى البريطانى المتخصص فى الأدب الشكسبيرى إن إدوار دى فير، الذى تربى فى بلاط الملكة إليزابيث الأولى قد يكون هو الكاتب الحقيقى للأعمال المنسوبة لشكسبير. فمسرحية «هاملت» مثلا هى ببساطة السيرة الذاتية لعلاقته مع الوصى عليه، السير ويليام سيسل رجل البلاط القوى وسكريتر الملكة اليزابيث الأولي، الذى تزوج والدة إدوارد بعد وفاة والده. مع كل ذكرى لشكسبير يعود الجدل حول أعماله وتأثيره فى بريطانيا وحول العالم، كما تطرح تساؤلات مشروعة حول هويته الحقيقة بالرغم من أن الكثيرين لا يريدون التفريط فى القصة الشعبية الأخاذة المتداولة حول الشاب محدود التعليم الذى لم يسافر يوما لكنه مع ذلك كتب "كمن رأى كل شئ" فقط بسبب موهبته الفذة. فهذه القصة وحدها لا تقل درامية عن «هاملت» و«الملك لير» و«ماكبث» ومنها بات شكسبير «مؤسسة ثقافية» منيعة فى بريطانيا والعالم. فبطريقة ما لم يعد هاما جدا من كتب هذه الأعمال المسرحية العابرة للأزمنة والأمكنة. المهم أنها كتبت، والخلاف حول من كتبها يزيدها جاذبية وحداثة.