منذ 3 يوليو 2013 - وحتى الآن - والجيش المصرى يواصل اشتباكه بكثافة على جبهتين معا، وبشكل متزامن. الجبهة الأولى: «حرب البناء والتنمية»، والثانية: «حرب الحفاظ على مقدرات الدولة فى مواجهة الإرهاب». الجبهتان معا تعكسان توافر الإرادة لمواجهة تحدى «البقاء والبناء» فى لحظة استثنائية يعانيها الوطن. وكذلك تترجمان المعنى المتعلق بأن التنمية الإقتصادية هى أحد المداخل الهامة لمعالجة التطرف الذى شهدته البلاد على مدى السنوات الماضية، وارتفع منسوبه فى مرحلة ما بعد الحراك الثورى فى الإقليم منذ خمس سنوات. حيث تفاعلت بيئة داخلية ضاغطة مع تحولات إقليمية سائلة فى تغذية أعمال من شأنها إنهيار الدول الوطنية وسقوط النظم السياسية، واستطاعت مصر النجاة من هذا السيناريو الكابوسى بفضل الموقف البطولى للقوات المسلحة التى انحازت للإرادة الشعبية، فى 25 يناير 2011 لإسقاط نظام حسنى مبارك وفى 30 يونيو 2013 لإسقاط حكم الإخوان المسلمين. سباق الزمن فى الجبهة الأولى، يسابق الجيش الزمن لتحقيق أعلى معدلات الإنجاز، ويأخذ بزمام المبادرة حاملا على كاهله مهمة القيام بالأدوار الرئيسية فى المشاريع القومية الكبرى (مشروع تنمية محور قناة السويس، ومشروعى المليون وحدة سكنية، والعاصمة الإدارية الجديدة، كأمثلة). وفى هذا السياق يعد مشروع تنمية منطقة القناة، بداية من بورسعيد ومنطقة القنطرة ثم الإسماعيليةوالسويس وخليج السويس، هو الأضخم فى منطقة الشرق الأوسط، بما يشمله من تطوير موانئ وطرق ومناطق لوجستية، ومنطقة صناعية تقام على مساحة 40 مليون متر مربع. فضلا عن أن ال6 أنفاق الجديدة المخصصة للسيارات والسكة الحديد، ستكون بوابة كبيرة للتنمية فى سيناء، وسيتحرك الجميع بسهولة من الإسماعيلية وبورسعيد إلى سيناء بعد أن يتم ربطها بالوطن الأم مصر. من ناحية أخرى، يمكن تصنيف مساهمة الجيش فى المجال الاقتصادى ضمن نمطين رئيسيين: المشاركة فى تنمية الهيكل الاقتصادى للبلاد، والمشاركة فى تطوير أنشطة اقتصادية محددة مثل الزراعة. وبالاعتماد على البيانات الرسمية التى وفرها جهاز مشروعات الخدمة الوطنية (هيئة تابعة للجيش نشأت بموجب القرار الجمهورى رقم 32 لسنة 1979، يمتلك 21 شركة تعمل فى قطاعات مدنية متنوعة) من خلال بيان تم توزيعه على المراسلين العسكريين فى مايو 2015، يمكن الوقوف على الحجم النسبى لعمليات الجهاز: ففى الزراعة يقوم الجهاز باستصلاح وزراعة مائة ألف فدان فى منطقة شرق العوينات بالصحراء الغربية حيث يتركز القسم الأكبر من مزارع القوات المسلحة، وتنتج تلك المزارع نحو 78 ألف طن تقريبا من القمح سنويا، و156 طن من زيت الزيتون، و25 ألف طن من منتجات الألبان بالإضافة إلى 2000 طن من اللحوم الحمراء ونحو 30 مليون بيضة سنويا، وتمتلك نحو 16 ألف رأس ماشية، ونحو 60 ألف طن من الأعلاف الحيوانية. وبجانب السلع الاستهلاكية فإن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية يمتلك شركة العريش للأسمنت والتى تنتج ما يتراوح بين 2.5 و3 مليون طن اسمنت سنويا، كما تضطلع شركة النصر للكيماويات الوسيطة بإنتاج الأسمدة، وبلغ إنتاجها نحو 150 ألف طن سنويا لصالح قطاع الزراعة. الدفاع الفعال وبمقارنة تلك الأرقام والكميات التى تنتجها شركات الجهاز، بحجم الإنتاج الكلى فى مصر، يمكن القول بأن إستراتيجية التوسع الاقتصادى للجيش تقوم على تأمين حصص سوقية لا الهيمنة أو النزوع نحو السيطرة على قطاعات إقتصادية، الأمر الذى يُمكن الجيش من تحصيل شروط القيام بمهام «الدفاع الفعال»، ولا يتناقض فى ذات الوقت مع إيمان المؤسسة العسكرية بأهمية دور القطاع الخاص فى تحقيق التنمية. وقد اتسعت المشروعات التى تم إسنادها للقوات المسلحة خلال حكومة حازم الببلاوى، ولكن ذلك جرى فى وقت استثنائى من حيث الاضطراب السياسى وانخفاض الاستثمارات الخاصة نتيجة إحجام القطاع الخاص، ومن ثم كان من الضرورى أن يتقدم الجيش لكى يسهم بثقل فى دفع عجلة الاقتصاد قدما إلى الأمام بعد تعثر متواصل فى مواجهة تبعات ثورتين متتاليتين. وفى الجبهة الثانية، يقوم الجيش – اضطرارا- فى بعض الأحيان بمهام تدخل فى صميم اختصاص المؤسسة الأمنية. من ذلك، على سبيل المثال، قانون حماية المنشآت العامة، الذى صدر فى أكتوبر 2014، ويخول الجيش مهمة حماية وتأمين المنشآت العامة إلى جوار الشرطة، لمدة عامين تنتهى فى سبتمبر 2016. مخاطر الإرهاب والملاحظ أن هذا القانون يأتى متسقا مع تولى الجيش الأدوار الرئيسية فى مكافحة الإرهاب. كما أن تأطيره بإطار زمنى يعكس طبيعته الإستثنائية، كونه قد جعل المنشآت العامة فى حكم المنشآت العسكرية، وهو وضع استثنائى لا يمكن تبريره إلا فى سياق وصول المخاطر إلى مستوى أعلى من أى وقت سابق، وهذا ما تعكسه الاحصائيات المتعلقة بالعمليات الإرهابية التى تعرضت لها البلاد خلال الفترة ذاتها. من ناحية أخرى، فإن طريقة أداء الجيش على هذه الجبهة تدل على إدراك القيادة التام للفرق الكبير بين «إدارة المسألة الأمنية» و«حسم المسألة الأمنية». ففى الحالة الأولى يتطلب الأمر استخدام الأداتين العسكرية والأمنية بكثافة من أجل النزول بسقف التحديات إلى المستوى الذى يمكن التعايش معه، والذى لا يحول بين الدولة المصرية وبين تحقيق أهدافها على مسرح العمليات. أما الحالة الثانية فتتطلب مقاربة مختلفة تتجاوز بكثير البعدين العسكرى والأمنى إلى حيث الأبعاد الأخرى: كالإقتصادية والاجتماعية والثقافية. والشاهد على هذا الإدراك أن التخطيط لإقامة مدينة «رفح الجديدة» كان بالتزامن مع التخطيط لإقامة المنطقة العازلة على طول خط الحدود مع قطاع غزة، ومع التخطيط كذلك للعمليات العسكرية والأمنية فى شمال سيناء. وفى هذا السياق، بلغ عدد العمليات، ضمن مكافحة الإرهاب، 1096 عملية حتى ديسمبر 2015. أسفرت عن مقتل 545 من العناصر الإرهابية، كما تم القبض على 394 عنصر. أيضا تم تفكيك وتفجير 544 عبوة ناسفة وتدمير 187 وكرا للإرهابيين، ما بين مخازن وخنادق ومغارات، فضلا عن اكتشاف أكثر من 1670 فتحة نفق فى منطقة رفح. كذلك تم ضبط ألف مفجر كهربائى، وحوالى طن ونصف من المتفجرات، وكميات كبيرة من الأسلحة والزخائر. والمتوقع أن تمثل نتائج المرحلة الثانية من عملية «حق الشهيد» نقطة تحول باتجاه تحقيق نتائج أفضل على مسار البعدين العسكرى والأمنى لمكافحة الإرهاب. ومع كل ذلك، يحتاج أداء الجيش على الجبهتين معا إلى التقييم الموضوعى الذى يأخذ بعين الاعتبار معطيات الواقع الراهن بكل تعقيداته وتحدياته. وحدود الخيارات المتاحة فى لحظة استثنائية من تاريخ البلاد والإقليم ككل، تتسم بدرجة عالية جدا من المخاطر. لكن من اللافت، فى هذا السياق، أن الرافضين لممارسة الجيش أدوارا تتخطى دوره التقليدى (أى الدفاع عن الوطن) يغفلون عن معطيات العقدين الماضيين بشأن أدوار الجيوش فى التنمية الوطنية فى الدول النامية، ويسقطون من حساباتهم الاعتبارات الإقتصادية لهذا التدخل. كذلك يبدو أنهم قد فاتهم النظر فى تجارب بعض الدول التى تمتلك جيوشا كبرى فى الإقليم كتركيا واسرائيل (بشكل أساسي) وباكستان وإيران (بدرجة أقل) والتى أظهرت أن القوات المسلحة يمكن أن تلعب أدوارا تنموية واجتماعية كبيرة، من دون أن يؤثر هذا على الفاعلية العسكرية. فضلا عن أنهم (فى سياق الجدل حول دور المؤسسة العسكرية فى التنمية الوطنية) لا يعيرون اهتماما للاتجاهات الحديثة المستقرة الآن بشأن مفاهيم: «الحرب الشاملة» و «الدفاع الفعال». دواعى التدخل فمن ناحية، يستند تدخل الجيش المصرى فى مجال التنمية الداخلية إلى أرضية اقتصادية تتمثل في: - أن المشروعات ذات الكلفة المرتفعة جدا تصبح ممكنة إذا ما نفذتها القوات المسلحة. يحدث هذا لأن نفقات محددة (مثل الأجور ونفقات الاستضافة والإعاشة) يتم الوفاء بها بشكل أو بآخر تلقائيا فى حالة استخدام القوات المسلحة فى هذا العمل. - فى أغلب الحالات، تتوافر متطلبات تطوير البنية التحتية، لدى الجيش بأكثر مما تتوافر لدى أى مؤسسة أخرى. أى أن القوات المسلحة عادة تكون مستعدة أكثر من غيرها كى تساهم فى تنمية البنى التحتية، إذ أن عناصرها مدربة على مشروعات الهندسة والاتصالات لأغراض عسكرية. بل وتتعدد أيضا أغراض تلك المشروعات لتشمل أغراضا عسكرية ومدنية على السواء.. فتحسين الطرق وشبكات الاتصال ترفع الكفاءة العسكرية، كما أنها تحسن الوضع الاقتصادى أيضا. وهذا الأمر لا يقتصر على مصر وحدها، بل يشمل دولا أخرى فى الإقليم. من أمثلة ذلك، تطوير الجيش التركى، قبل سنوات، لشبكة طرق سريعة وحديثة، أسهمت فى زيادة كفاءة خطوط مواصلات واتصالات الجيش، وكذلك فى انسيابية حركة التجارة الداخلية. كذلك باكستان، كانت مشروعات الطرق التى يشيدها الجيش تدخل ضمن خطة تنموية شاملة. لكل تلك الاعتبارات السابقة، أصبحت الكثير من البلدان على دراية بقدرة الجيش على المساهمة فى هذه المجالات، وأصبحت المشروعات التى ينفذها الجيش تُقاس بجدواها العسكرية والتنموية. ومن ناحية ثانية، الذين يعتقدون بأن تدخل القوات المسلحة فى مجالات التنمية يؤثر سلبيا، على المهمة الرئيسية لها – الدفاع الفعال عن البلاد- ربما يتعين عليهم الوقوف على دلالات تجربة الجيش خلال السنوات الخمس الماضية !! وفى هذا السياق ليس بالإمكان أن تفوتنا ملاحظة أن الفترة التى ازداد فيها انخراط الجيش فى الشأن الداخلى، هى ذاتها التى زاد فيها نشاطه على صعيد القيام بمهام وظيفته الأصلية، والشاهد على ذلك، الإشتباك الدموى الكثيف مع شبكات الإرهاب فى سيناء منذ سبتمبر 2013 وحتى الآن، فضلا عن التدابير الإحترازية على حدودنا الغربية. فالجيش المصرى يواجه حالة حرب حقيقية وخاصة على أطراف الدولة المصرية. وهى اللحظة ذاتها التى تكثفت فيها برامج التدريب لرفع الكفاءة القتالية لوحداته. بل وهى ذاتها التى إزدادت فيها أيضا محاولات تنويع مصادر السلاح، بل وتوطين التكنولوجيا العسكرية أيضا. بعد أن ضاعف الجيش جهوده لإبرام اتفاقات إنتاج مشترك مع شركات دفاع أجنبية، الأمر الذى لا يعنِ فقط توفير فرص أفضل لصادرات مستقبلية، بل أيضاً الحصول على مداخل إلى تكنولوجيات جديدة. وعلى سبيل المثال، فى 11 فبراير 2011 (تماماً فى ذات الوقت الذى كان فيه الرئيس الأسبق حسنى مبارك يتأرجح على شفير الاستقالة القسرية) أعادت البحرية المصرية التفاوض حول عقد بقيمة 13 مليون دولار مع شركة «سويفتشيب» سبق أن وُقِّع فى العام 2008. ونصّ العقد المعدَّل، الذى زادت كلفته بنحو 20 مليون دولار لسفن الدورية الأربع نفسها التى وردت فى العقد الأصلي، على أن يشارك حوض مصرى لبناء السفن فى تجميع هذه السفن وإنتاجها. وتضمّن أيضاً نقل التكنولوجيا، وبناء منشآت جديدة، واستيراد معدات جديدة، وعقوداً طويلة الأمد لقطع الغيار والصيانة، وتدريباً جديداً للعنصر البشري. حرب شاملة ومن ناحية ثالثة، فى سياق «الحرب الشاملة»، لا يكفى أن تدافع القوات المسلحة عن بلادها فقط بأن تعد نفسها للحرب النظامية، خاصة إذا ما كانت الحرب تتم بالتزامن فى مجالات عديدة (سياسية، اقتصادية، دبلوماسية وعسكرية) وإنما يبدو منطقيا أن تحاول المؤسسة العسكرية المنوط بها مهام الدفاع عن البلاد، مكافحة هذا التهديد، ليس فقط فى ساحة المعركة، بل أيضا على أصعدة أخرى. وربما فى بعض الأحيان تصبح مساهمة القوات المسلحة فى التنمية الوطنية أمرا حتميا، كى تضمن أن تجهيزاتها الدفاعية لن تذهب هدرا.