«التضامن الاجتماعي» توافق على قيد جمعيتين بالشرقية    ضبط قضايا إتجار بالنقد الأجنبي بقيمة 14 مليون جنيه خلال 24 ساعة    مدبولي مهنئا السيسي بعيد الأضحى: أعاهدكم على استكمال مسيرة التنمية والبناء    «التعليم» تحدد حالات الإعفاء من المصروفات الدراسية لعام 2025 الدراسي    "مواجهة الأفكار الهدامة الدخيلة على المجتمع" ندوة بأكاديمية الشرطة    عضو لجنة الرقابة الشرعية: فنادق الشركات المقدمة للخمور تنضم لمؤشر الشريعة بشرط    أسعار الذهب اليوم الأربعاء 12 يونيو 2024    البورصة المصرية تطلق مؤشر الشريعة "EGX33 Shariah Index"    محافظ الغربية يتابع مشروعات الرصف والتطوير الجارية ببسيون    إي اف چي هيرميس تنجح في إتمام خدماتها الاستشارية لصفقة الطرح العام الأولي لشركة «ألف للتعليم القابضة» بقيمة 515 مليون دولار في سوق أبو ظبي للأوراق المالية    أماكن المجازر المجانية لذبح الأضاحي في الدقهلية    محافظ الفيوم يوجه بتشكيل لجنة للمرور على كافة المصانع    بلومبرج: قرار ماكرون الدعوة لانتخابات مبكرة يثير غضبا داخل حزبه    تقرير: رشقة صاروخية خامسة من لبنان باتجاه الجليل الأعلى    أ ف ب: لجنة تحقيق أممية تتهم إسرائيل و7مجموعات فلسطينية مسلحة بارتكاب جرائم حرب    الكويت: أكثر من 30 حالة وفاة وعشرات الإصابات في حريق جنوب العاصمة    اليونيسف: نحو 3 آلاف طفل في غزة يواجهون خطر الموت أمام أعين عائلاتهم    «ولا عشان معندهومش ضهر».. شوبير يهاجم موعد مباريات دورة الترقي نهارًا (فيديو)    ميرور: كومباني يستهدف ضم مدافع ليفربول لصفوف بايرن    مفاجأة صادمة لنجم الأهلي في سوق الانتقالات الصيفية    سر البند التاسع.. لماذا أصبح رمضان صبحي مهددا بالإيقاف 4 سنوات؟    محافظ أسوان يشهد حفل التخرج السنوي لمدارس النيل المصرية الدولية    عبر كاميرات المراقبة.. وزير التعليم يراقب لجان امتحانات طلاب الثانوية العامة    الذروة 3 أيام.. الأرصاد تحذر من موجة حارة تضرب البلاد في عيد الأضحى    مناسك (6).. الوقوف بعرفات ركن الحج الأعظم    ماس كهربائي.. تفاصيل نشوب حريق داخل شقة في العمرانية    والدة طالب الثانوية الذي مُنع من دخول امتحان الدين ببورسعيد: «ذاكروا بدري وبلاش تسهروا»    المهن السينمائية تنعي المنتج والسيناريست الكبير فاروق صبري    أفضل أدعية يوم عرفة.. تغفر ذنوب عامين    توقيع بروتوكول تعاون ثنائي بين هيئة الرعاية الصحية ومجموعة معامل خاصة في مجالات تطوير المعامل الطبية    بايدن يدرس إرسال منظومة صواريخ باتريوت إلى أوكرانيا    رئيس إنبي: لم نحصل على أموال إعادة بيع حمدي فتحي.. وسعر زياد كمال 60 مليون جنيه    ترتيب مجموعات أفريقيا في تصفيات كأس العالم بعد الجولة الرابعة    تفاصيل مشاجرة شقيق كهربا مع رضا البحراوي    السكك الحديدية: تعديلات جديدة على القطارات الإضافية خلال عيد الأضحى    تعرف على التأخيرات المتوقعة لبعض القطارات اليوم بالسكة الحديد    بدأ مشوار الشهرة ب«شرارة».. محمد عوض «فيلسوف» جذبه الفن (فيديو)    طفرة تعليمية بمعايير عالمية    وزير الأوقاف يهنئ الرئيس السيسي بعيد الأضحى المبارك    دار الإفتاء: يجوز للحاج التوجه إلى عرفات فى الثامن من ذى الحجة يوم التروية    "مقام إبراهيم"... آيةٌ بينة ومُصَلًّى للطائفين والعاكفين والركع السجود    مصطفى مدبولى يهنئ الرئيس السيسى بعيد الأضحى المبارك    احذري تعرض طفلك لأشعة الشمس أكثر من 20 دقيقة.. تهدد بسرطان الجلد    وزير الصحة: تقديم كافة سبل الدعم إلى غينيا للتصدي لالتهاب الكبد الفيروسي C    أفلام عيد الأضحى تنطلق الليلة في دور العرض (تفاصيل كاملة)    نقيب الصحفيين الفلسطينيين: موقف السيسي التاريخي من العدوان على غزة أفشل مخطط التهجير    ماذا يحدث داخل للجسم عند تناول كمية كبيرة من الكافيين ؟    استشهاد 6 فلسطينيين برصاص إسرائيلي في جنين بالضفة الغربية    هيئة الدواء: هناك أدوية ستشهد انخفاضا في الأسعار خلال الفترة المقبلة    «الزمالك بيبص ورا».. تعليق ناري من حازم إمام على أزمة لقب نادي القرن    عاجل.. تريزيجيه يكشف كواليس حديثه مع ساديو ماني في نهائي كأس الأمم الإفريقية 2021    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    الفرق بين الأضحية والعقيقة والهدي.. ومتى لا يجوز الأكل منها؟    خلال 3 أشهر.. إجراء عاجل ينتظر المنصات التي تعمل بدون ترخيص    نقيب الصحفيين الفلسطينيين ل قصواء الخلالى: موقف الرئيس السيسي تاريخى    عصام السيد يروى ل"الشاهد" كواليس مسيرة المثقفين ب"القباقيب" ضد الإخوان    بالفيديو.. عمرو دياب يطرح برومو أغنيته الجديدة "الطعامة" (فيديو)    حظك اليوم| الاربعاء 12 يونيو لمواليد برج الميزان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراما رحلة الصعود.. والانصراف الأخير

هذا الصباح لم يبدأ الأستاذ يومه بعد الفجر كالمعتاد، ولم ينتظر الأسطى محمد الذى ورث قيادة سيارة الأستاذ عن والده فى تمام السابعة صباحا لنقل الأستاذ من المنزل الريفى الى مكتبه المطل على نيل الجيزة، ولم يدخل عم عبد المنعم لأول مرة منذ 20 سنة على أطراف أصابعه بعلبة السيجار وفنجان القهوة..
ولم تنقر جيهان مديرة مكتبه الباب بأناملها الرقيقة والأمينة لتضع أمام الأستاذ ملفا لأهم أخبار الصباح وتطورات الأحداث فى الميديا العالمية، ولم تجرى عين الأستاذ بسرعة فوق خطوط الحبر الفوسفورى ليقف أولا على الأنباء العاجلة.. لم يحدث شيئا من هذا.. لأن حدثا جللا قد حدث، توقفت أجهزة مراقبة نبضات القلب وتنشيط الكلى والرئتين، فى غرفة العناية الفائقة التى جهزت فى منزله، وخلدت عين الأستاذ محمد حسنين هيكل الى الراحة الأبدية قبيل الحادية عشرة صباح أمس الأربعاء 17 فبراير 2016، بعد مشوار طويل من النظام المحكم، وأسدلت الحياة ستائرها على معلم من معالم مصر الثقافية واستسلمت نفسه المطمئنة إلى لقاء ربها بعد رحلة عمر وتجربة حياة لا تتكرر، شهدت أنواء وعواصف فاق بعضها حدود الوصف وتخطت آفاق الخيال.

حياة ثانية

«تحكى الأساطير التى يتناقلها الأجيال فى بلاد العرب عن الأقدمين أن طائر العنقاء الأسطورى الذى كان يعيش فى الصحراء يظهر من سلالته طائر كل عدة عقود من السنين ، وأنه يضرب بجناحيه على اتساعهما فى الآفاق المهيبة . مبهرا الخلائق وخاطفا الألباب، وساحرا العيون بريشه البديع، لكنه عندما يحين الأوان فإن هذا الطائر الوحيد الفريد يهبط من الأجواء وينتصب واقفا فى كبرياء، وسط لهيب المعارك ونيران الفتن، لكنه لا يحترق، وإنما ينبعث من قلب النار مبشرا بحياة ثانية منتشيا بشباب عمر جديد»..
كأن الأستاذ هيكل قد اختار لنفسه هذا الوصف عندما كتبه فى رثاء الدكتور جمال حمدان، معبرا عن مصير سلالة من عظماء الوطنية المصرية ممن أناروا حياتنا خلال المائتى عام الماضية، أولهم كان رفاعة الطهطاوى ثم حمل شعلة التنوير الإمام محمد عبده ثم الذين آمنوا برسالة تجديد الخطاب الحضارى من بعده، وآخرهم جمال حمدان...
وإذا كان راهب الجغرافيا والتاريخ جمال حمدان عنقاء حلم مصري، حوطته النيران بفعل فاعل مجهول ذات صباح من شهر ابريل عام 1993فذهب جسده الواهن وظلت أحلامه سامقة تشع نورها للأجيال. فإن فقيدنا اليوم هو عنقاء حلم قومى عربى عظيم، وصاحب مشروع تنويرى ثقافى صحفي، رسم خطوطه وشارك فى بنائه وصار حقيقة واقعة أمام عينيه ممثلا فى التأسيس الثانى للأهرام، فتحولت بفضله وفريق العمل الذى انتقاه بعناية من صحيفة تصارع الهبوط الى منارة لتحديث الفكر وواحدة من أعظم عشر صحف فى العالم.

مشوار بين الكوليرا والحرب

بدأ محمد حسنين هيكل عمره الصحفى فى 8 فبراير عام 1942بموضوع عن بيوت الليل فى صحيفة «الإيجبشن جازيت»، ثم غطى فيها أخبار الحرب وأخلص لمهنته وترقى فى بلاطها من محرر «سوبر» فى أخبار اليوم إلى رئاسة تحرير آخر ساعة فسافر مع محمد يوسف كبير المصورين لتغطية وباء الكوليرا فى محافظة الشرقية ومن الحياة فى ظلال الموت بالوباء إلى الحياة فى ظل الموت بالحروب، فى كل أنحاء الشرق الأوسط حتى نال جائزة فاروق الأول ثلاث مرات، وهو دون الخامسة والعشرين، كل ذلك كان مقدمات تؤهله لرئاسة تحرير الأهرام عام 1957، اقترب فى نفس الفترة من صناعة القرار السياسى وكان صديقا موثوقا من رجال ثورة يوليو 52 وبصفة خاصة من الرئيس جمال عبد الناصر ناصحا أمينا له، ألقى عليه العروض الوزارية، لكنه تمسك بعمله الصحفي، قائلا: «انا صحفى يعمل بالسياسة ولست سياسيا يعمل بالصحافة».. وأن لقب «الجورنالجي» أفضل الى قلبه من معالى الوزير أو دولة رئيس الوزراء، وظل مخلصا لهذا الوصف إلى نهاية العمر..
صنع نهضة الأهرام الحديثة وودع صحافة الأسلوب التى تعلمها من أستاذه محمد التابعى وصحافة الخبر المشوق المثير التى نجح فيها مصطفى وعلى أمين، وأنطون باشا الجميل، وأسس صحافة الحقيقة والمصداقية وماوراء الخبر، واحتل مقعد المؤسس الثانى عندما نقل الاهرام من صحيفة العائلة إلى قاطرة لمؤسسة صحفية تدار بأحدث تكنولوجيا العصر، وانطلقت بالقواعد والأصول التى أرساها.. أسس مدرسة صحفية بعلاقات عمل وقيم كانت جديدة على الحياة المؤسسية فى مصر .. صاحب الأستاذ هيكل منذ بداية عمله فى الأهرام الأستاذ توفيق بحري، وكان أول سكرتير تحرير فى الصحافة المصرية يقوم بإخراج ورسم صفحات الجريدة على «ماكيت» بحجم الصفحة. وبفضل الأستاذ صار للأهرام مدرسة فى الإخراج تتوازى مع المدرسة التحريرية الحديثة، وبفضل رفقاء درب الأستاذ هيكل وأعضاء مدرسته مكرم محمد أحمد ومحمود عبد العزيز وعلى حمدى الجمال وصلاح هلال وسلامة أحمد سلامة وصلاح جلال والدكتور بطرس غالى فى السياسة الدولية وبرز من هذه الكتيبة من النجباء ابراهيم نافع الذى انطلقت الأهرام وتوسعت كميا وتحولت الى امبراطورية إعلامية احتفلنا مع الجيل الجديد منذ أيام بدخولها العام الاربعين بعد المائه الاولى منذ اسسها سليم وبشارة تقلا عام 1875.

امتداد لمن!

قلت للأستاذ هيكل مرة أنت امتداد لمن؟
فأمسك فتاحة ورق وقال: الناس والتجارب الإنسانية ليست مثل هذا الخط المستقيم ولا خطوط متوازية أو متقاطعة.. لكنهم مثل المجرات الكونية.. كل كوكب مقدر له مدار.. ويمكن أن يكون سؤالك بصيغة أخري.. إنت تأثرت بمن؟ أقول لك إننى تأثرت فى البدايات بأربع شخصيات أو نماذج بشرية: هارولد ايرل فى الإيجبشن جازيت، وفيليب حنين رئيس القسم الداخلى بها، ومحمد التابعى صاحب آخر ساعة، ومحمود عزمى الصحفى .
بدأ هيكل العمل فى صحيفة الشركة «الإيجبشن جازيت» ثم الصحيفة الحزبية (اخر ساعة المعبرة عن حزب الوفد) ثم بالصحيفة العائلية (الاهرام) وتحولت بفضله الى «مثال» للصحيفة القومية بعد قرارات تنظيم الصحافة 1961، وفى كل أنماط الملكية حافظ على استقلاله واعتبر «كرامة المهنه من كرامة الصحفي، وقداستها من وقداسة الرسالة التى يؤديها».. تحمس لمشروع ثوار يوليو.. واقترب من جمال عبد الناصر وآمن الى حد الاعجاب بمشروعه التنموى القومي.
وظل مخلصا له بعد أن فارق ناصر الدنيا فى سبتمبر 1970، وساند الرئيس السادات فى معركته مع مراكز القوة فى 1971، ورد له الرئيس السادات الجميل حين طلب منه كتابة التوجيه الاستراتيجى الذى وقعه القائد الأعلى للقوات المسلحة ووجهه الى المشير أحمد اسماعيل على القائد العام للقوات المسلحة المصرية ليبدأ رحلة العبور من الهزيمة الى النصر العظيم الذى لن ينساه التاريخ العسكرى فى انتصار اكتوبر 1973.
وظل مخلصا لمهنته حتى فوجئ الصحفيون والقراء فى صباح يوم الأحد 3 فبراير 1974 بخبر نشر فى أعلى العمود الأول من الصفحة الأولى بعنوان تعيين على أمين مديرا لتحرير الأهرام، وبعد أسبوع صدر قرار آخر بتعيينه رئيسا للتحرير. ويصف مصطفى سامى أحد رواد مدرسته الصحفية مشاعره فى ذلك اليوم المشهود الذى سيطرت فيه الصدمة على مشاعر المحررين: كان أصدق تعبير بالتقدير والعرفان للأستاذ هيكل عندما سافر الى الخارج وبعد ستة أشهر من غيابه عن الأهرام، أبلغنا المرحوم الزميل حسن أبو العينين مندوب الأهرام فى وزارة الداخلية فى ذلك الوقت بموعد عودته الى القاهرة، فوجئ الاستاذ هيكل بجميع محررى الأهرام وقد امتلأت بهم قاعة كبار الزوار فى مطار القاهرة يتقدمهم المرحوم الاستاذ على حمدى الجمال مدير التحرير يستقبلونه بباقات الورد. ولم يكن هذا الوفاء بمحض الصدفة فقد سبقت مواقفه الإنسانية مع أسرته الصحفية..

.. وسكت من يحق له الكلام

يرحل الأستاذ هيكل عنا فيبتعد من يحق له الاقتراب ويسكت من يقدر على الكلام بالضبط كما قال عن غياب أحمد بهاء الدين ونحن نعيش أزمة بلا عنوان ازدادت أوضاع وأقدار أمتنا استباحة وغدا الماسك على وطنه وهويته كالماسك على الجمر من هول المخاوف وشدة المخاطر ومرارة الانقسام، وشعوب المنطقة على غير العادة لا تعرف ما تريد، تقسمها وسائل «التشتت الاجتماعي» أكثر مما تقربها، ينطبق علينا نفس التوصيف الذى أطلقه فى كتابه الرائع حرب الخليج أوهام القوة والنصر: أمة أخذتها المفاجآت وأفزعتها التداعيات ثم قسمتها الخلافات ثم ساقتها الفتنة إلى طريق وعرة ليس بينها درب أمان ..و..أمة مسلحة لكن للاقتتال وليس للقتال.. وعالم بأكمله يتفرج وبعض قواه النافذة توهمنا بأنها تطفئ النار وهى أمام أعيننا تزيد النار اشتعالا.. ويواصل الأستاذ هيكل توصيفه لحالنا أثناء وبعد حرب الخليج الثانية وكأنه يتحدث عن حالنا الآن: انقسمت الأمة بعد أربعة عشر قرنا من الزمان إلى أصحاب لمعاوية أو شيعة لعلي، وكأن محنة الفتنة الكبرى وتعاقب القرون بعدها، لم يجعل هذه المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج تتعلم شيئا أو تنسى شيئا.. والآن كما هو وقتها لم يعد أمام مصر بديل إلا عدم الاعتراف بالعجز وعدم الاستسلام لليأس وكسر أسوار الظلام.. لامتلاك عناصر القوة باعتبارها ضابط الإيقاع فى عالم يتم تشكيله الآن بعيدا عن عدالة القانون.

هيكل يبكى

رغم أنه كان قويا فى مواجهة الأزمات التى تلم بالصحفيين إلا أنه شوهد وهو يبكى بصوت عال فى وداع رفاق الدرب: مرة فى عام 1964 أثناء جنازة المرحومة فتحية بهيج، والمرة الثانية يوم 3 يناير عام 1970 عندما توفى المرحوم الأستاد توفيق بحرى الذى كان ذراعه اليمنى فى إدارة الأهرام..

الجورنالجى لا يموت

تمت ثلاث محاولات لانصراف الأستاذ هيكل عن رئاسة الأهرام، المحاولة الأولى بقرار من الرئيس عبدالناصر فى 26 إبريل عام 1970 حين أرسل الرئيس خطابا إلى هيكل يتضمن قراره بتعيينه وزيرا للإرشاد القومى وقد رفض هيكل القرار بدون تردد، ولم يتخل عن عمله ك«جورنالي» مقابل أى منصب وزاري، وفى الأول من فبراير 1974 كان انصرافه القسرى الثانى الذى نجح الرئيس السادات فى إقالته من الأهرام لكن هذا القرار لم ينجح فى إبعاده عن مهنته التى عشقها، وأثبت أن «الجورنالجى الحقيقى لايموت».. وأمتع العقل العربى والتاريخ بسلسلة من الكتب والدراسات والاحاديث والشهادات بعد «أزمة المثقفين» الذى كتبه فى الستينيات انطلق بفكره الى «سنوات الغليان» و«حرب الثلاثين سنة» و«الانفجار» ثم «بين الصحافة والسياسة»، وحذر من «سلطة شاخت فى مواقع القرار»، واستشرف بتحليلاته وقائع ثورة 25 يناير، وتسابقت على نشر شهاداته ومقالاته وكتبه كبريات الصحف ودور النشر العالمية وحافظ على علاقته وصداقته بقاده الفكر وكبار زعماء التحرر فى العالم أمثال جيفارا وميتران وجارودى وسارتر وكاسترو ومانديلا، وآية الله الخمينى وعرفات والملك حسين، والحبيب بورقيبة، ومن قبلهم تيتو ونهرو وشواين لاى وخروتشوف.. فأثبت أنه وهو بعيد عن كرسى المنصب الصحفى وقيود الوظيفة أكثر انطلاقا واستقلالية وإبداعا وقوة فى التأثير.. يُعمل لكلمته ألف حساب. فاستحق عن جدارة لقب الاستاذ.. حتى ولو كتب مجردا بلا أسماء فى الاهرام أو أى صحيفة او وسيلة إعلامية، وهى مكانة رفيعة فى الاداء المهنى لم يحسده عليها كل الأساتذة ومنارات مصر الثقافية الذين أناروا حياتنا بعطائهم من خلال مشروعه الصحفى الأهرامى التنويري، بدءا من عميد مسرح العقل توفيق الحكيم واديب نوبل نجيب محفوظ وابو القصة القصيرة العربية يوسف ادريس وصاحب الوضعية المنطقية الدكتور زكى نجيب محمود وعميد الدبلوماسية العالمية الدكتور بطرس غالي، ومعهم بنت الشاطئ عائشة عبد الرحمن وصلاح جاهين وصلاح طاهر وسناء البيسى وأحمد بهاء الدين وأحمد بهجت....
وقد كان لى حظ أن أكون بجوار الأستاذ هيكل فى منزله ببرقاش وهو يعد رسالته الوداعية للإنصراف الثالث الذى تم بإرادته..
فدار الحوار التالي:

قرار الغياب

سألنى الأستاذ هل قرأت رسالة «استئذان فى الإنصراف».. وأعقبه سؤال آخر... رأيك إيه؟!
فبدوت كالتلميذ الذى أُمر فورا بالقدوم إلى الصف الأول من الفصل فأنسته المفاجأة لثوان ما حفظه من المادة قلت:
أرجو أن تعيد النظر يا أستاذ فى قرار الغياب!
وواصلت: نحن فى مركب تغرق ونحتاج بيننا إلى من ينادى أهل الشاطيء بلغة تفهمها فرق الإنقاذ!
قاطعنى بحسم قبل أن أتم «الخطبة» العصماء:
لم أقل اعتزال.. بل انصراف..ابتعاد وليس غياب!
أنا الآن رجل فى الثمانين.. ومن حقى أن أتخفف من بعض أحمالي.. لقد قلت ذلك لإحدى القنوات الفضائية اللبنانية.. عرضوا عليّ أن أقدم حلقات وأعلق على وثائق وأحداث.. فقد تخيلوا أننى أعلنت الانصراف احتجاجا على منعى من الكتابة والكلام،
قلت له لماذا توقفت حلقاتك فى دريم ؟
لقد جاءنى الدكتور أحمد بهجت هنا معتذرا عن عدم قدرته احتمال الضغوط فقد وضعوا النظام السابق - استمرار الحلقات فى كفة والضغوط المادية عليه فى كفة أخرى!

نقطة فى نهاية الجملة!

«إننى رجل محب للحياة ومغرم بها.. وفى نفس الوقت متصالح ومتفاهم مع ما بعدها.. فهذه الحياة أعطتنى أحلى وأغلى ما عندها ومن الحق أن أدرك أن ما بعدها موصول بها اتصال الليل بالنهار!».
ولا أعرف بالضبط لماذا هزتنى هذه العبارة بالذات بعد أن سمعتها من الأستاذ هيكل وقتها وبصوته لدرجة أننى قلت بعدها للأستاذ:
الله.. الله..
وفى هذه النقطة بالذات سألته :
هل هى طبيعة الشرق كما سألك عنها طبيبك «فريدريك فى مستشفى كليف لاند» أم هو لقاء الدين والدنيا معا؟
فاقتصرت إجابة الأستاذ على سؤالى: نقطة فى نهاية الجملة !!
وحين عدت إلى بيتى فى المساء وجلست أكتب مشاهداتى وما سمعته من هذا المبدع جاء إلى ذهنى ما قاله توفيق الحكيم لفتحى الابيارى أن ما كان يشاع فى العالم القديم من أن العبقرية هبة مقدسة إلى العبقرى من العالم الإلهي.. حق وصدق.. وأن العبقرى بما ركب فيه من قوة فريدة فى الذاكرة وإدراك عميق لأبعاد الشخصية البشرية وتقدير مدروس لأعجوبة الإنسان فى هذا الوجود.. كل هذا يدفع الإنسان العبقرى إلى رفض صورة فنائه وزواله النهائى من سجل الموجودات لمجرد فناء جسمه المادي.. فهو منذ خلق بهذه الجواهر الثمينة فى طبيعته ما خلق إلا ليبقى وتبقى معه طبيعته فى حياة ممتدة إلى أبعد من تركيبه المادى الواهن.. وهى نفس المعانى التى عبر عنها الأستاذ فى وداعه لجمال حمدان!
ورغم أن الأستاذ سافر إلى كل انحاء العالم وغطى الحروب والاحداث فى أماكنها الساخنة من الفالوجة 1948 إلى فيتنام إلى البلقان وإيران واليمن وتنفس دخان المعارك فى ميادين القتال.. لكن بقيت أهم نقطة سكن قريبة الى روحه كانت هى »حديقة لها قصر« فى برقاش، لم يخلو ركن فيها من لمسة جمال أنيقة وشجرة نادرة وتحفة فنية وضعتها على عينها بصبر وإيمان برسالته شريكة حياته زوجته السيدة هدايت تيمور..
.........................
وبوداعه أمس حدث الإنصراف الرابع والأخير للأستاذ بمشيئة إلهية..
وحرم فكر جمال عبد الناصر والوطنية المصرية خط الدفاع القوى والحارس الأمين قوى الحجة شديد البيان..
وفى الختام لابد لمن لم يكونوا على وفاق مع آراء الراحل ومواقفه أن يتدبروا نصيحة أبى العلاء المعرى:
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى
إنى أخاف عليكمو أن تلتقو
وتمت مراسم انصرافه النهائى طبقا لوصيته «أن يدفن فى نفس اليوم دون أى مظاهر احتفالية فى جنازة شعبية من مسجد سيدنا الإمام الحسين فى مدافن الأسرة بمصر الجديدة».
أغمض محمد حسنين هيكل عميد أسرة الاهرام والصحافة العربية عينيه للمرة الأخيرة مستسلما لقضاء الله وقدره، وترك فينا أحلامه الشامخة وأفكاره الخالدة التى عاش من أجلها والتى ستبقى شامخة شموخ طائر العنقاء الأسطورى الذى لا يتكرر نزوله إلى الدنيا إلا بعد عدة مئات من السنين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.