المؤمنون الصادقون، والمسلمون المخلصون؛ هم أوائل ضحايا العنف، منذ قديم الأزل، وحتى الآن؛ فدينهم الرفق واللين، وسلوكهم الهدوء والسكينة، وطبعهم الإيثار والسماحة.. لا يرفعون صوتا تأدبا، ولا يخدشون شعورا حياءً، ولا يظلمون أحداً عدلاً، ولا ينتقمون من أحد ترفعاً.. فقلوبهم رحمة، ووجوههم بسمة، وكلامهم حكمة، وصمتهم عبرة، وفكرهم قمة، وفعلهم مودة، وقربهم سعادة، ونورهم عبادة. انظر يمينا ويسارا، وشرقا وغربا، ستجد هؤلاء المؤمنين الصادقين، والمسلمين المخلصين؛ هم أوائل ضحايا عنف الآخرين، وغلظة قلوبهم، وجهالة طبعهم، وخشونة سلوكهم، وفساد فكرهم، وانحراف فطرتهم. شعارهم ما قاله "هابيل"، أول ضحية للعنف الدموي على مستوى البشرية، لأخيه قابيل، قبل أن يهم بقتل أخيه: "لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ".(المائدة: 28). وهكذا كان الأنبياء والرسل: قدوةً وأسوةً، ومن تبعهم بإحسان، في هذا المضمار، حتى كان من صفات خاتم المرسلين، محمد -صلى الله عليه وسلم-، أنه "بالمؤمنين رءوف رحيم". كما أنه من أسماء الله سبحانه: "الرفيق"، وهو مأخوذ من الرفق الذي هو التأني في الأمور، والتدرج فيها، وضده "العنف" الذي هو الأخذ فيها بشدة، واستعجال، كما قال العلماء. ويحدثنا القرآن الكريم عن عشرات المواقف والأمثلة، التي وقف فيها المؤمنون معرضين للظلم والعدوان، متحلين بالصبر، ومتجملين بالتضحية، ومتحققين بالتجرد، وصابرين "الصبر الجميل"، داعين "بالحكمة والموعظة الحسنة"، ومجادلين ودافعين ب"التي هي أحسن"، وقائلين للناس "حسنا"، و"معرضين عن الجاهلين". هؤلاء هم "أصحاب الأخدود"؛ نموذج لهؤلاء المسالمين الوادعين، الذين تفيض قلوبهم عطفا، ورحمة.. لم ينافسوا قومهم في مغنم، أو غرض، أو مطمح.. ولم تكن لهم من جريرة سوى أنهم "آمنوا بالله"، وبرغم ذلك قتلوهم حرقا.. قال تعالى: "وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ". (البروج: 8). وقريبا من "أصحاب الأخدود".. تعرض أهل الكهف، من المؤمنين الموحدين، للتهديد بالقتل بالرجم، وإلا فلابد من الإعادة إلى الملة.. ففي سورة "الكهف": "إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا".(20). ودوما كان الأنبياء والمصلحون مستهدفين بالعنف، والإيذاء، وحتى الرجم، والنفي، والقتل. فهذا نوح -عليه السلام- يتعرض للتهديد: "قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ". (116). وهذا شعيب -عليه السلام- يتعرض للتهديد نفسه: "قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ". (هود: 91). وهذا موسى -عليه السلام- يستعيذ بالله من تهديد قومه له بالرجم، كأنهم توعدوه بالقتل، فكانت هذه الاستعاذة حامية له، كما جاء في سورة "الدخان": "وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ"(20). وهُدد شعيب عليه السلام بالنفي، وكانت تلك -فيما يبدو أيضا- سنة ماضية في الأنبياء كافة. جاء في سورة "الأعراف": "قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ."(88). وحتى القتل لم يكن الأنبياء في منجاة منه.. فقد قال تعالى: "وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ".(لأنفال30). وحدثنا القرآن الكريم عن بني إسرائيل، وأماط اللثام عن صفة خسيسة فيهم، ألا وهي الجنوح نحو العنف، فقال تعالى: "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ".(آل عمران: 112). أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمة دوماً بلزوم الرفق، وذلك في الشأن كله، فقال: "إن الله رفيق يحب الرفق، وإن الله يعطي على الرفق مالا يعطي على العنف". (صحيح الجامع). [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد