رئيس الأساقفة جاستين بادي نشكر مصر بلد الحضارة والتاريخ على استضافتها    أوروبا تعتزم تأجيل تطبيق أجزاء من القواعد الدولية الجديدة لرسملة البنوك    رؤساء مؤتمر الاستجابة الطارئة في غزة يدينون عمليات قتل واستهداف المدنيين    بينهم طالب عبد الله.. إسرائيل تغتال 4 من قادة حزب الله في لبنان (تفاصيل)    أورسولا فون دير لاين تحصل على دعم ممثلين بارزين بالبرلمان الأوروبي    رئيس لجنة المنشطات يفجر مفاجأة صادمة عن رمضان صبحي    أيمن يونس: أحلم بإنشاء شركة لكرة القدم في الزمالك    عاجل.. تريزيجيه يكشف كواليس حديثه مع ساديو ماني في نهائي كأس الأمم الإفريقية 2021    مشاجرة بين رضا البحراوي وشقيق "كهربا" والأخير يهشم سيارة المطرب    مفاجآت بالقضية.. «سفاح التجمع» أمام المحكمة اليوم    العثور على جثة شخص مشنوق بالطريق الصحراوي بالكيلو 17 العامرية بالإسكندرية    شيرين عبد الوهاب تتصدر "إكس" بخبر خطبتها، ولطيفة: يا رب ترجعي زي الأول ويكون اختيار صائب    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    عيد الأضحى 2024.. الشروط الواجب توافرها في الأضحية والمضحي    هذا ما يحدث لجسمك عند تناول طبق من الفول بالطماطم    واشنطن بوست: عملية النصيرات تجدد التساؤلات حول اتخاذ إسرائيل التدابير الكافية لحماية المدنيين    نقيب الصحفيين الفلسطينيين: شكوى للجنائية الدولية لمحاسبة الاحتلال على جرائمه    النمسا وقيرغيزستان تبحثان تعزيز التعاون في مجال الطاقة    الكويت: ملتزمون بتعزيز وحماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وتنفيذ الدمج الشامل لتمكينهم في المجتمع    بيمكو تحذر من انهيار المزيد من البنوك الإقليمية في أمريكا    أدنوك تقترب من الفحص النافي للجهالة لشركة كوفيسترو الألمانية للكيماويات    ترقي الممتاز.. سبورتنج يتحدى الترسانة في مباراة ثأرية بالدورة الرباعية    رئيس شركة مياه مطروح يكشف موعد انتهاء أزمة المياه بالمحافظة    عيار 21 الآن بالمصنعية.. أسعار الذهب اليوم الأربعاء 12 يونيو 2024 بالصاغة بعد الارتفاع الأخير    ليست الأولى .. حملات المقاطعة توقف استثمارات ب25 مليار استرليني ل" انتل" في الكيان    البنك المركزي المصري يحسم إجازة عيد الأضحى للبنوك.. كم يوم؟    طقس عيد الأضحى.. تحذير شديد اللهجة من الأرصاد: موجة شديدة الحرارة    ظهور حيوانات نافقة بمحمية "أبو نحاس" : تهدد بقروش مفترسة بالغردقة والبحر الأحمر    والد طالب الثانوية العامة المنتحر يروي تفاصيل الواقعة: نظرات الناس قاتلة    السيطرة على حريق نشب داخل شقة سكنية بشارع الدكتور في العمرانية.. صور    البنك الدولي يرفع توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي في 2024    رسميًا.. تنسيق الثانوية العامة 2024 في 5 محافظات    خلال 3 أشهر.. إجراء عاجل ينتظر المنصات التي تعمل بدون ترخيص    الفرق بين الأضحية والعقيقة والهدي.. ومتى لا يجوز الأكل منها؟    هل الأضحية فرض أم سنة؟ دار الإفتاء تحسم الأمر    الرئيس السيسي يهنئ مسلمي مصر بالخارج ب عيد الأضحى: كل عام وأنتم بخير    الحق في الدواء: إغلاق أكثر من 1500 صيدلية منذ بداية 2024    تريزيجية: "كل مباراة لمنتخب مصر حياة أو موت"    بالفيديو.. عمرو دياب يطرح برومو أغنيته الجديدة "الطعامة" (فيديو)    أحمد عز: "أنا زملكاوي وعايزين نقلل حدة التعصب عشان ننتج ونبدع أكتر"    نقيب الصحفيين الفلسطينيين ل قصواء الخلالى: موقف الرئيس السيسي تاريخى    عصام السيد يروى ل"الشاهد" كواليس مسيرة المثقفين ب"القباقيب" ضد الإخوان    يوسف الحسيني: القاهرة تبذل جهودا متواصلة لوقف العدوان على غزة    حازم إمام: نسخة إمام عاشور فى الزمالك أفضل من الأهلي.. وزيزو أفيد للفريق    مصدر فى بيراميدز يكشف حقيقة منع النادى من المشاركة فى البطولات القارية بسبب شكوى النجوم    رئيس جامعة الأقصر يشارك لجنة اختيار القيادات الجامعية ب«جنوب الوادي»    63.9 مليار جنيه إجمالي قيمة التداول بالبورصة خلال جلسة منتصف الأسبوع    رمضان السيد: ناصر ماهر موهبة كان يستحق البقاء في الأهلي.. وتصريحات حسام حسن غير مناسبة    حظك اليوم| الاربعاء 12 يونيو لمواليد برج الميزان    وزير الخارجية الجزائري يبحث مع أردوغان تطورات الأوضاع الفلسطينية    رويترز عن مسئول إسرائيلي: حماس رفضت المقترح وغيّرت بنوده الرئيسية    اليوم.. «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية بلة المستجدة ببني مزار    فضل صيام يوم عرفة 2024.. وأبرز الأدعية المأثورة    شيخ الأزهر لطلاب غزة: علّمتم العالم الصمود والمثابرة    يوافق أول أيام عيد الأضحى.. ما حكم صيام اليوم العاشر من ذي الحجة؟    نقابة الصيادلة: الدواء المصري هو الأرخص على مستوى العالم.. لازم نخلص من عقدة الخواجة    وكيل «صحة الشرقية» يناقش خطة اعتماد مستشفى الصدر ضمن التأمين الصحي الشامل    قافلة مجمع البحوث الإسلامية بكفر الشيخ لتصحيح المفاهيم الخاطئة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سميح القاسم..العاشق الملهوف يرحل

رحل العاشق الملهوف، بعدما طال به النوى وطوح به الطواف..قدح الشاعر الفلسطينى سميح القاسم حجر الصوان، فأشعل نار الكلمات، تخمر جمرها طويلا، صارت جحيما يلهب ظهر الغاصب الإسرائيلى، ويكوى جرحا نازفا بطول البلاد وعرضها، خاض معارك بلا هوادة على جبهتين: عدو مغتصب يحتل تراب وطنه، ومرض داخلى يمزق جسده، سلاحه الشعر والإبداع، لغة الشعر بارقة صافية ملعونة، معجونة بالحنين والألم والوجع، الوجع واصل حتى النخاع، يبحث عن شظايا وطن متناثرة، وسط الخراب والتدمير والخيانة، يحفر دربا لضوء النهار، وسط العتمة، نهار الأمل والحرية والعدل. ولما أحس أن مواجهته مع الموت قد دنت، صرخ فى وجهه: "أنا لا أحبك يا موت/ لكننى لا أخافك/ أعلمُ أنّى تضيق عليّ ضفافك/ وأعلمُ أن سريرك جسمي/ وروحى لحافك/ أنا لا أحبك يا موت/ لكننى لا أخافك"..!.
أمس الأول مات سميح القاسم شاعر المقاومة الفلسطينية ورئة الكلمة الصامدة، دون أن يتخلى عن عادته فى السخرية المريرة.. فى أحد الأيام أصابته وعكة صحية، أخبره الطبيب أنه مصاب بسرطان الكبد، وأن عليه الخضوع لعلاج كيماوى، ضحك الشاعر بشدة، اندهش الطبيب، فقال له :"لقد أوقعتنى فى ورطة، الناس يعرفون على الكيماوى (مسئول الأسلحة الكيميائية بالعراق، فى عهد صدام حسين) ومنذ اليوم، عليهم التعرّف إلى سميح الكيماوي"..!.
(1)
من السياسة إلى الأدب ومن الحياة إلى الممات كان صاحب "دمى على كفى"، تعبيرا ملهما، شعرا ونثرا، عن روح فلسطينية معذبة باحثة عن خلاص فردى جماعى، من وطأة التاريخ وثقل الجغرافيا، خاض صراعات كثيرة قى ميادين مختلفة، لكن الشعر كان ميدانه الأثير، بإبداع متنوع غزير، صنع فى ساحته "مصالحة" بين التراث والمعاصرة، وأذاب الحدود العازلة بين الشعرى والنثرى، بحماس لحد التطرف وشغف لدرجة النزق.. قذف جبل "هيكل" الشعر التقليدى بعقل محموم ويدين غاضبتين، فاخترق الجدران المتلاصقة، صاعدا إلى ذروة الشعرية والألم، حيث يشتبك السياسى بالوجداني، بالمجرد بالمطلق، والشك باليقين.. هاجسه المسيطر فى ذلك، هو هاجس الحرية والعدل الإنساني. كانت عينه طوال الوقت على الواقع العربى من المحيط إلى الخليج، تحدث كثيرا وعميقا عن التردى الذى أحاط به، كإنسان ينتمى لفلسطين وللأمة العربية، وكان فى حديثه عن الجرح المفتوح النازف محاولة لسحب مسمار الأمان ليفجر العبوة، بطريقة سرية، طريقة أطفال الحجارة فى دبابات العدو، عبوة الوعى العربى الغائب أو المغيب، على إيقاع قنابل الغاز والرصاص المطاطى والشظايا التى كانت تتطاير من حوله فى الأراضى المحتلة، وهو يصرخ، بقصيدته "رسالة إلى غزاة لا يقرأون":
تقدموا.. تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل أرض تحتكم جهنم
تقدموا..
يموت منا الشيخ والطفل
ولايستسلم
وتسقط الأم على أبنائها القتلى
ولاتستسلم..
تقدموا..
بناقلات جندكم..
وراجمات حقدكم
وهددوا..
وشردوا..
ويتموا..
وهدموا..
لن تكسروا أعماقنا
لن تهزموا أشواقنا
نحن قضاء مبرم
(2)
الفعل النضالى هو المحرك الأساسى لطاقة الحروف والكلمات، عند سميح القاسم لأن "القصيدة لا تسقط الطائرات، بل تسقط أكاذيب وأوهام الاحتلال"، لذلك وصفه يحيى يخلف وزير الثقافة الفلسطينى السابق، بأنه"شاعر فلسطين وتاريخها ومقاومتها وكرامتها وعنفوانها وألقها"، ولم لا؟.. ألم يقل الأديب الأمريكى سومرست موم: إن "الشعر هو تاج الأدب، هو غايته ومنتهاه، إنه أرقى فعل يقوم به العقل البشري"، إذن كانت القصيدة بمثابة سلاح دمار شامل فى يد القاسم، رفض دائما القول إن المقاومة لم تعد مبررة، مؤكدا أنه "خيانة فكرية وسياسية". صاغ القاسم خطابه بحس ثوري، حرص على أن يكون بنفس حرارة الانتفاضة، من حيث قوة الموقف وسرعة الحركة وسعة التأثير، يقول فى قصيدته "بطاقات معايدة إلى الجهات الست":
ظِلُّ نفاثةٍ قابعَهْ
خلفَ نفّاثةٍ طالعَهْ
بعدَ نفّاثةٍ ضائعَهْ
خلفَ نفّاثةٍ راجعَهْ
لم تجدْ غير دوّامةٍ من دُوارْ
أُسْوَةً بغيومِ الشتاءِ على موتها مُطبِقَهْ
بالبراكينِ فى آخرِ العمرِ.. مُرهَقةً مُرهِقَهْ
بالرياحِ التى نصبتْ نفسها مشنقَهْ
وتدلَّتْ إلى قبرِهَا
بين قيعانِ وديانها الضيّقَهْ
أُسْوَةً بالشعوبِ التى فقدتْ أرضَها
بضحايا الزلازلِ والإيدز والجوعِ والأوبئَهْ
أُسْوَةً بالبلادِ التى خسرتْ عِرضَها
ومواعيدَ تاريخها المُرجأهْ
فى سُدى هيئةِ الأُمم المطفَأَهْ
أُسْوَةً بى أنا
نازفاً جارحا
غامضاً واضِحا
غاضباً جامحا
أُسْوَةً بى أنا
أرتدى كفني
صارخاً: آخ يا جبلى المُنحني
آخ يا وطني
آخ يا وطني
آخ يا وطني
فى عام 1988 أرسل إليه، نزار قبانى رسالة:" الحبيب الغالى سميح، هزتنى رسالتُك الرائعة.. القادمة من هناك، حيث تُعلمُنا الأيدى الصغيرة مبادئ القراءة والكتابة بعدما تحوّلنا جميعاً إلى أمّيين..
وا خجلة الشعر يا سميح، من هؤلاء الأنبياء الذين كسروا بحجارتهم زُجاج أبجدياتنا.. وحوّلوا دواويننا إلى أحذية عتيقة.. صدّقنى يا سميح، إننى أشعر بالخجل أمام هؤلاء المبدعين الذين أقالونا جميعاً، كتَّاباً، وشعراء، ومفكرين، ومنظرين، ومنافقين، ومنجّرين، واستلموا السلطة، نحن ملوك مخلوعون.. والملوك الحقيقيون هم هذه السلالة الفلسطينية الطالعة من رحم الحجر..
نحن ملوك "الكُوتشينة"..نحن ملوك بنى عثمان الذين دخلوا الحروب بالطرابيش الحمراء..حتى غرقوا جميعاً فى مياه الدردنيل..نحن "الأنتينات" المرفوعة.. لا السيوف المرفوعة.. من المحيط إلى الخليج..نتوضأ بالأكاذيب..ونمتطى خيولنا الإعلامية والديماغوجية والإيديولوجية.. على جميع الموجات الطويلة..والقصيرة.. أنا لم أكتب فى الحقيقة شيئاً..فقصيدتى "أطفال الحجارة" ليست سوى محاولة صغيرة لملامسة قامات هؤلاء الأنبياء..فليعذروني، إذا لم أكن على مستوى بنوّتهم..".
هنا يستنشق سميح القاسم الرمز العربى الفلسطينى غبار أرض المعركة، ويجلجل: عبثا تحفر الرياح جبيني
عبثاً ينهشُ اللهيب نخاعي
هذه نبرتى وهذى ذراعي
وثيابي.. وأحرفي.. ومتاعي
أنا باق.. باق أنا حيث أمضي
لم أبدل ملامحى بقناعَ
(3)
إنها مسألة وطن وهوية، إذ ولد سميح القاسم 11 مايو 1939 ببلدة الزرقاء الأردنية عام 1939، لعائلة فلسطينية درزية، كان يمازح أصدقاءه: "لا تنسوا أننى وأبا مصعب الزرقاوى (قائد تنظيم القاعدة بالعراق، سابقا) من مدينة واحدة"!..درس فى الرامة والناصرة..حكى أنه وقت النكبة كان فى الثامنة من عمره: "أنا أذكر كل شيء وأزعم أننى المصدر الأكثر مصداقية فى تاريخ هذه النكبة، لأننى عشتها على جلدى ورأيت وسمعت واستوعبت كل ما يحدث، ليس فى الرام فحسب بل فى القدس أيضا وفى بئر السبع وفى العواصم العربية". وعندما انقضت العصابات الصهيونية على أرضه وأهله، وراحوا يجمعون ما خف حمله بغية الرحيل، استوقفهم شيخ كبير يمسك بمفتاح منزله وبحفنة من تراب، وقال لهم، لن يستطيع أحد أن يزحزحنا من فوق أرضنا ويخرجنا من ديارنا، ولو أراد لنا الله البقاء سنحيا بين ربوعها ولو متنا سنموت فوقها..
لأجل ذلك، بقيت الأرض حاضرة فى شعره، والنضال نبراسا والصمود شمسا، ولم يتوان القاسم فى قيادة أول تمرد ضد تجنيد أبناء طائفته الدرزية – من عرب 48- فى الجيش الإسرائيلى فكان نصيبه السجن مرات عديدة، وطرد من عمله عدة مرات بسبب نشاطه الشعرى والسياسي..عمل معلما وعاملا وصحفيا..أسس عدة صحف، كان أهمها "كل العرب"، وتنوعت أعماله بين الشعر والنثر والمسرحية، وتجاوز عددها السبعين، ترجم عدد كبير من قصائده إلى معظم لغات العالم، وحاز على عديد الجوائز الأدبية من مختلف أقطار الأرض، تشبث بأرضه ولم يغادر فلسطين وقبل بجواز سفر "إسرائيلى"، وساند المقاومة والانتفاضة ودعا إليها، على أمل العودة، يقول فى "بوابة الدموع":
أحبابنا.. خلف الحدود
ينتظرون حبةً من قمحهم
وقطرةً من زيتهم.. ويسألون:
كيف حال بيتنا التريك
وكيف وجه الأرض.. هل يعرفنا إذا نعود؟!
يا ويلنا..أمَ شعب لاجىء شريد
يا ويلنا.. من عيشةِ العبيد
فهل نعود؟ هل نعود؟
(4)
يوما ما، قال أديب فرنسا جان كوكتو: "الشعر ضرورة، وياليتنى أستطيع أن أعرف لماذا"..فى ظنى، أن الإجابة على تساؤل "كوكتو" هى ما فعلته أشعار سميح القاسم ومحمود درويش – كتبا معا (الرسائل)- ومعين بسيسو وفدوى طوقان وتوفيق زيادة وإبداع غسان كنفانى وإميل حبيبى وإدوارد سعيد..إبداعات أثبتت أن الاحتلال والحرب معا لا يستطيعان محو وجدان شعب وذاكرته. إنها أطروحة شعرية عن الثورة. استند فيها سميح إلى فكرة القومية العربية، تحرك من قاعدتها وعلى ضوئها، برغم تبدل الصور بتوالى الزمان، مشددا على دور المثقف فى التنوير والتثوير من أجل التغيير، محذرا فى الوقت نفسه من "المرتزقة على أبواب السلطة"، منبها الفنان عموما، والشاعر خصوصا، إلى ثلاثة أصدقاء: هى الموهبة والثقافة والتجربة، وثلاثة أعداء هى التطفل والمحدودية والتقليد، ووسط هذا الصراع بين "أبناء العمومة" من العرب واليهود، نسى سميح نفسه، وتكلم عن وطنه المغلوب على أمره، وترك سجلاً حافلاً بالانفعالات السائدة فى زمن متقلب، قال مرارا إن "العرب حكم عليهم أن يكونوا مخيرين بين أمرين: إما الطغاة أو الغزاة! أنا أرفض هذه المعادلة، أرفض هذا الخيار، الأمة العربية لا تريد الطغاة ولا تريد الغزاة.."..
حلم القاسم بدا أكبر مما يحتمل الزمن العربى، منذ خمسة وثلاثين عاما، اعتبر الرئيس الراحل أنور السادات أنه ليس بين العرب وإسرائيل غير "حاجز نفسى"، يمكن اجتيازه بجهد صادق من الطرفين، اليوم أصبح الحاجز جدارا خرسانيا عازلا، يتمترس خلفه الإسرائيليون ويرسم عليه أطفال فلسطين طيورا تحلم بحرية الطيران، تحت بصر العالم ورطانته و"رغيه" عن حق الفلسطينيين فى "دولة قابلة للحياة"..!
ومع هذه الأجواء الكافكاوية، ظل صاحب "مواكب الشمس" مستمسكا بمعشوقته فلسطين، بحلمه ويقينه، أن عقدة "التدمير الذاتى" لدى أبناء عمومتنا الإسرائيليين ستفى بالغرض يوما، فلو لم يأت صلاح الدين العربى، سيأتى صلاح الدين الإسرائيلى لكى ينزل علم الصهيونية، من على قلاع القدس وحصونها، داعيا إلى عدم التخاذل:
آنذا الفلسطينيّ. شَدَّ جراحَهُ
وطَناً يُضوّيءُ عتمةَ الأوطانِ
وأنا شاميٌّ. ومصريٌّ. ومِن
شَغَفٍ وصلتُ جزائرى بعُماني
وغسلْتُ فى طُهرِ الفراتِ خطيئتي
وجعلْتُ روحَ النّيلِ من كُهّاني
كأن سميح القاسم بحار حائر يسبح فى بحار كثيرة، بعدما أخذت مأساة وطنه بمجامع قلبه، يحكى فى "إنها مجرد منفضة" سيرته، فتى وشاعرا، يعارك الواقع فى فلسطين المحتلة، ويمتطى شهرته الأدبية إلى عواصم العالم، وإقامته بموسكو وطرائف الزمن السوفيتى.. حياة عاشها صاحبها بالطول والعرض، دعوة غداء فى بيت القائد الجزائرى أحمد بن بيلا فى باريس، مرورا بإسحق رابين الذى جمعته به المصادفة فى أحد الأسفار، إلى تفكيره بقتل ديفيد بن جوريون بأحد الوديان، ودخوله "الحزب الشيوعى الإسرائيلي" وخروجه منه، بعد اتهامه ب"بالتعصب القومى"، وفظائع للاحتلال، ومعاركه وهو يقاوم بالكلمة.. يجمعه برنامج تليفزيونى عبرى بإيهود أولمرت قبل رئاسته الوزراء فى إسرائيل، فيقدم أدلة دامغة على عروبة القدس و بطلان خرافة الهيكل اليهودي، فما كان من أولمرت إلا أن هدّد بترك الحوار ومغادرة الأستوديو.. وفى إحدى المناسبات ألقى كلمة بالعربية والعبرية، فى حضور شيمون بيريز وإيهود باراك، مطالبا فيها بالسلام والمساواة، وما إن فرغ من كلمته، حتّى هبّ باراك من مقعده ليصافحه بحرارة، قائلاً: موافق على كلّ كلمة قلتها، وإذا أصبحتُ رئيساً للوزراء، فسأفاجئكم بالإصلاحات الواسعة والشاملة. ثم أصبح باراك رئيسا للوزراء وفاجأنا، لكن بالاتجاه العكسى لوعوده"!.
(5)
الشاعر المقاوم لا يناور يضع عينه على الهدف مباشرة، فى أثناء تسلمه "جائزة فلسطين للإبداع الشعرى" من الزعيم ياسر عرفات، خاطبه: "والله يا أبا عمر لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بأقلامنا" مستفيدا من الموقف التاريخى مع عمر بن الخطاب، لحظتها أخذ عرفات المسدس من حارسه الشخصي، وتوجه به صوب سميح: - بعض الحضور اعتقد أنه سيطلق النار عليه- هذا مسدسى قومنى به إذا أخطأت يا سميح. صفق الجمهور، فرد عليه: المسدس لمواجهة الاحتلال، أنت أواجهك بقلمي. وعاد الجمهور يصفق مرة أخرى.
حصل القاسم على جوائز كثيرة، وكرمته مصر والعرب، لكن أهم تكريم فى نظره جاءه من عامل بوفيه سورى كسر الفنجان الذى شرب فيه، وكأنه يقول إنه ما من أحد يستحق أن يشرب من فنجانك بعدك. أما أشد ما يؤلمه فهو تفتت الأمة العربية وتشرذمها فى وقت تحتاج إلى الوحدة والتكافل والتساند، يوضح:" نحن لا نستحق شيئا أكثر من الخجل لأننا فى حالة مشينة، من النكبة إلى النكسة، إلى ما هو أسوأ.."، لكنه حذر من الإفراط بالشعور بالهزيمة، لأن الخسارة قد حدثت فى موازين القوى، ولم تصب مكونات الجسم العربي. واذا كانت الهزيمة قد سلبت الكثير من الواقع، فانها فى المقابل خلقت الإرادة الثورية داخل الانسان، والتى يمكن ان تحرك الاجزاء المتبقية عنده، والمتوزعة على التاريخ والارض والهوية، بفضل القومية العربية التى كان من دعاتها، وصولا إلى المقاومة وتحرير الأرض والإرادة، من الاستعمار وكل "أعداء الشمس" والأنظمة العميلة والمرتزقة:
منتصب القامة أمشى ..
مرفوع الهامة أمشى ..
فى كفى قصفة زيتون..
وعلى كتفى نعشي..
وأنا أمشى
وأنا أمشي
لم يخش سميح القاسم الموت، وهو يقطع "رحلة السراديب الموحشة"، لم يدع العصمة أو الكمال، إنما تمنى أن يكون شمعة فى الظلام تضيء لمن فقدوا حقهم فى الكلام، لينهى سطور سيرته "إنها مجرد منفضة" /حياته، بتواضع وسخرية، فاتحا باب الأمل للعدل والحرية، للشعب والأرض، قائلا:"وها أنت منهمك بضرورة الاستعداد للحياة وضرورة الاستعداد للموت، لكنّك مؤمن بأنّه لا بُدّ من فرج قريب بقدر إيمانك بأنّك من حياة إلى موت ومن موت إلى حياة، ومن رمل إلى رمل، ومن تراب إلى تراب، ومن ماء إلى ماء، ومن رماد إلى رماد، ومن قمح إلى ورد. ومن كلّ شيء وأيّ شيء إليها، إلى المنفضة، فما هى إلّا منفضة. إنّها منفضة. إنّها مجرّد منفضة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.