فى 14 سبتمبر 1882 أصبحت مصر تحت الإحتلال البريطانى بعد هزيمة الجيش المصرى أمام القوات البريطانية التى جاءت بحجة حماية عرش الخديو توفيق من الثورة الشعبيةالتى قادها الأميرلاى احمد عرابي. ومنذ ذلك التاريخ أصبح جلاء الإنجليز عن البلاد مطلبا وطنيا تصدت له كافة القوى الوطنية التى ظهرت على مسرح الحياة السياسية. وكانت البداية بقيادة مصطفى كامل الذى كان قد التقى بالخديو عباس حلمى الثانى فى 1898 فأصبح لمطلب الجلاء سند من السلطة الشرعية. وفى الوقت نفسه أخذ عباس يتقرب الى الشعب فأفرج عن بعض مسجونى الثورة العرابية، وعين بعضهم فى وظائف خارج الجيش، وأعاد إليهم نياشينهم التى جردوا منها، وعفا عن عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية. وحين شعر المصريون بوطنية الخديو جرت فى عروقهم دماء المقاومة التى كانت قد جفت منذ الاحتلال. فلما لاحظ الإنجليز ذلك التقارب عملوا على احتواء عباس وإبعاده عن الحركة الوطنية حتى لقد قام بزيارة إلى لندن عام 1900 استقبل فيها استقبال الملوك، ومن ثم تهادن مع الإنجليز. أما مصطفى كامل فلم يتراجع وينهزم ولم ييأس وهو صاحب القول المأثور "لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس"، ولكنه أدرك استحالة الاعتماد على الخديو عباس فى مناوءة الانجليز وتحقيق الجلاء. وبدأ فى تكثيف نشاطه من أجل إيقاظ الوعى، وتنمية العاطفة الوطنية، وتبصير الناس بخطورة الاحتلال، وجريمة التعامل معه والاستسلام له. وعلى هذا قام بتأسيس جريدة "اللواء" عام 1900 لتنطق باسم الجلاء. وأخذ يندد بالاحتلال فى مصر وأوروبا، وعمل على تنظيم الجهود الوطنية فأنشأ نادى المدارس العليا، والحزب الوطنى (ديسمبر 1907). ولما توفى فى ريعان شبابه (10 فبراير 1908) خلفه فى الزعامة محمد فريد الذى عمل على توسيع دائرة الحزب بحيث لا تقتصر عضويته على الأفندية من أبناء المدن، وضم العمال، وأسهم فى تكوين نقابة عمال الصنائع اليدوية (1909). ثم حدث أن كتب محمد فريد مقدمة لديوان شعر "وطنيتى" للشيخ على الغاياتى فتقررت محاكمته بسبب العبارات الوطنية الحماسية الواردة فى المقدمة، وتم سجنه لمدة ستة أشهر، وأخذت السلطات الإنجليزية تتعقب نشاطه حتى قررت اعتقاله مرة أخرى فى مطلع عام 1912. وهنا آثر أن يترك مصر اختيارياً فغادرها فى 26 مارس 1912 ليواصل نضاله ضد الاحتلال البريطانى فى المحافل الأوروبية. ...................... ثم اندلعت الحرب العالمية الأولى فى صيف 1914 ولما انضمت الدولة العثمانية (تركيا) صاحبة الولاية على مصر، إلى النمسا والمانيا أعداء إنجلترا وحلفائها، أعلنت إنجلترا الحماية على مصر (ديسمبر 1914)، وعزلت الخديو عباس حلمى الثانى ومنعته من العودة إلى مصر وكان يقضى أجازة فى اسطنبول وعينت بدلا منه حسين كامل باسم السلطان, وفرضت الأحكام العرفية، وخفت صوت الحركة الوطنية، وأخذ المصريون يتابعون أخبار الحرب. ثم حدث ما جدد دماء الحركة الوطنية حين أعلن الرئيس الأمريكى فى يناير 1918 المبادئ الأربعة عشرة الشهيرة لتكون أساس التسوية السياسية لنتائج الحرب ومن ضمنها "حق تقرير المصير للشعوب المغلوبة على أمرها". وهذا هو المنعطف الذى تشكل فيه "الوفد المصري" بزعامة سعد زغلول (وكيل الجمعية التشريعية 1913) التى توقفت أعمالها عند إندلاع الحرب. وبعد توقيع الهدنة فى 11 نوفمبر 1918 قابل سعد زغلول المندوب السامى البريطانى وطلب منه السماح له بالسفر إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح المزمع عقده هناك. ولم يوافق المندوب السامي، بل لقد اعتقل سعد زغلول ورفاقه (8 مارس 1919) وأبعدهم إلى جزيرة مالطة، فاندلعت الثورة فى اليوم التالى (9 مارس) وشعارها "الاستقلال التام أو الموت الزؤام". وأخذ الإنجليز يتلاعبون بالثورة والثوار ونجحوا فى شق صفوف الأمة إلى فريقين: فريق مع سعد زغلول وآخر مع عدلى يكن. ثم أعلنت بريطانيا فى 28 فبراير 1922 تصريحا بأن مصر دولة مستقلة. لكنه كان استقلالا عن الدولة العثمانية (تركيا) تحت الحماية البريطانية، إذا لم يصبح المندوب السامى البريطانى سفيرا ولم تكن لمصر سفارة فى لندن ولم تنضم إلى عصبة الأمم التى تشكلت فى آخر سنة 1919 لأنها منظمة تضم الدول المستقلة. ومن المعروف أن هذا الاستقلال كان معلقا بتحفظات أربعة تصبح محل مفاوضات بين الطرفين وأهمها فى موضوعنا: حق بريطانيا فى حماية قناة السويس والدفاع عنها حتى يصبح الجيش المصرى قادرا على الدفاع عن القناة. وتلك كانت بداية رحلة طويلة من المفاوضات لإجلاء الإنجليز دون جدوى، لأن المفاوض المصرى لم يكن يملك أوراق قوة وضغط يفرض بها شروطه على الإنجليز، بل لقد حالت إنجلترا دون تقوية الجيش المصرى حتى تظل صاحبة الحق فى الدفاع عن قناة السويس، ومن ثم كانت المفاوضات نوعا من العبث وإضاعة الوقت، حتى تم عقد معاهدة 1936، والتى نصت على أن مدتها عشرين سنة مع جواز الدخول فى مفاوضات من اجل التعديل أو الحذف فى أى يوم بعد انقضاء العشر سنوات الأولى وبموافقة الطرفين. لكن الحكومة البريطانية رفضت إعادة النظر فى نصوص المعاهدة بما يسمح بالجلاء ومن هنا أقدم مصطفى النحاس على إلغاء المعاهدة فى 8 أكتوبر 1951 من طرف واحد، واحتجت بريطانيا واعتبرت أن الإلغاء غير قانونى لأنه لم يتم بموافقة الطرفين كما اشترطت المعاهدة. وبناء على إلغاء المعاهدة وقعت المواجهات مع الإنجليز (معارك الفدائيين) حتى قامت الثورة ليلة 23 يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر واستولت على الحكم. وكان أول أهداف الثورة تحقيق الجلاء وتولى عبد الناصر هذا الملف حيث قرأ ملفات المفاوضات السابقة استعدادا للتفاوض. ولقد بدأت المفاوضات فى 27 أبريل 1953 لمدة خمسة عشر شهر بشكل متقطع انتهت فى 27 يوليو 1954. ولقد دخلها عبد الناصر مستندا إلى قوة العمل الفدائى الذى استمر ضد معسكرات الإنجليز فى منطقة قناة السويس. ولم تكن المفاوضات أمرا سهلا، وانتهت بالتوقيع على اتفاقية الجلاء بالأحرف الأولى (27 يولية 1954)، وبهذه المناسبة أصدر جمال عبد الناصر بيانا جاء فيه ".. وقعنا الآن بالأحرف الأولى اتفاقا ينهى الاحتلال وينظم عملية جلاء القوات البريطانية عن أرض مصر الخالدة وبذلك خلصت أرض الوطن لأبنائه شريفة عزيزة منيعة ..". وفى 19 أكتوبر 1954 أذاع بيانا بمناسبة التصديق على الإتفاقية جاء فيه " .. لعل أجدادنا يتطلعون إلينا من المثوى الأبدى الذى تسكنه أرواحهم فى هذا اليوم برضى وفخر .. ولعل أحفادنا الذين ما زالوا فى مجاهل المستقبل سوف يعودون بعد مئات السنين إلى ذكرى هذا اليوم باعتزاز وتقدير .. أيها المواطنون تعالوا نبنى وطننا من جديد بالحب والتسامح والفهم المتبادل .." وفى صبيحة يوم 13 يونيو 1956 غادرت بورسعيد الباخرة البريطانية "إيفان جب" وعلى ظهرها آخر فوج من العساكر الإنجليز الذين كانوا فى مبنى البحرية فى بورسعيد، لكن عبد الناصر آثر أن يرفع علم مصر على المبنى وعيناه تدمعان يوم 18 يونيو حتى يتوافق مع يوم إعلان الجمهورية فى 18 يونيو 1953 فأصبح هذا اليوم فى تاريخ مصر عيدين: عيد الجمهورية وعيد الجلاء.