فى عام 1942 صدرت فى باريس رواية لشاب فى التاسعة والعشرين اسمه ألبير كامى، وأثارت ضجة تكررت عند صدور ترجماتها إلى اللغات الأوروبية، وإلى العربية صدرت عدة طبعات، منها ترجمة د. محمد غطاس عن الدار المصرية اللبنانية (2004)، وترجمة أخرى لإيلى مهنا عن دار الفكر العربى (2006)، وترجمة ثالثة لعايدة ادريس عن دار الآداب (2013)، وأخيرا أصدرت سلسلة "آفاق عالمية" عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ترجمة جميلة للأستاذ عاصم عبد ربه، قام بها خصيصا لتصدر ضمن السلسلة، وهى أحدث ترجمة للعمل (2013 أيضا). هذه مقدمة لابد منها للحديث عن عمل فريد من حيث رؤيته الفلسفية للوجود والإنسان, والفرد والمجتمع. ورغم أن كامى كان يرفض أن يحسب على الفلاسفة الوجوديين، حيث كانت فرنسا عاصمة الوجودية، فإن السياق الثقافى الذى ولد فيه العمل (أوروبا وبالذات فرنسا 1942) موجود بشدة فى الرواية: الإحساس بعبث الوجود واست3طئ+51غلاقه على الفهم وغربة الإنسان فى مجهول بلا حدود. ولا ننس أن باريس كانت أيضا عاصمة مسرح العبث أو اللامعقول، خاصة بعد مجزرة الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945). هذا مجرد إطار فلسفى وخلفية فكرية للأحداث. أما العمل نفسه، الحكاية والبطل، فتغلب عليه التجربة الشخصية للكاتب. تدور الأحداث فى الجزائر، حيث ولد كامى وعاش صباه الأول (1913- 1936)، ثم استقر بعد ذلك فى فرنسا. ومعالم مدينة الجزائر، ووهران حيث ولد، حاضرة ومرسومة بعشق: البحر، والسماء، خاصة عند دخول المساء، ضجة المدينة وصليل الترام، ومارى ورحلات الاستحمام فى البحر.. ميرسول –بطل الرواية– عاشق للحياة، لا يبالى بشكليات المجتمع، صادق لا يكذب، لكن فرديته صادمة. وهو يتعرض لموقف عبثى يقتل فيه أحد الناس دون أن يقصد، بل كان القتل وليد لحظة جنون اختلط فيها وهج الشمس الجبار ببريق سكين فى يد الضحية، فى ملابسات شجار لم يكن لميرسول فيه ناقة ولا جمل، لكنه العمى المؤقت تحت سياط الشمس والعرق الحارق فى العينين. إلا أن المجتمع الذى لم يعبأ به ميرسول فى يوم من الأيام، ممثلا فى مؤسسة العدالة، وفى الصحف التى تعيش على ما تتسقطه من إثارة قصص المحاكمات، أقول ينتهز المجتمع الفرصة لينتقم ممن جرؤ أن يتمرد على أعرافه وتقاليده، فكانت المحاكمة الهزلية التى استند فيها القضاة على أن المتهم مجرم بالفطرة لأنه لم يبك يوم ماتت أمه، بل ذهب إلى السينما فى اليوم التالى، ودخن سيجارة واحتسى فنجان قهوة بالحليب يوم الجنازة. وبالتالى –والأمر كذلك– فإن قتله لغريب تعثر به لم يأت بالصدفة، بل مع سبق الإصرار والترصد. فتكتفى الرواية بصدور الحكم أن تطير رأسه بالمقصلة فى ميدان عام. فى هذه الرواية القصيرة المكثفة، حوالى 130 صفحة (وهو شكل نفتقده الآن حيث يتنافس الروائيون فى الضخامة), تميل اللغة للتقشف, وتكتفى بالبرقية بديلا للرسالة المطولة، فتزيد بهذا جمالا لأنها تتخلص من الترهل والعاطفية. ورسم الشخصيات يأتى بضربات سريعة من الفرشاة، إلا فى المشاهد الكبرى مثل مشهد المحاكمة. وهناك شخصيات لا تُنسى مثل العجوز وكلبه وقاضى التحقيق، ولكنى لن أسهب أكثر من هذا، فالعمل نفسه هو الأجدر أن يتكلم عن نفسه. لقد مات كامى فى حادث عبثى: اصطدم بسيارته بشجرة وفى جيبه تذكرة السفر بالقطار، حيث غير رأيه فى آخر لحظة وسافر بالسيارة بدلا من القطار (1960)، وكان قد حصل قبلها على جائزة نوبل فى الآداب (1958)، لكنه مات فجأة, فى مشهد يتفوق عبثه على عبث روايته. ومن أشهر روايات كامى الأخرى "الطاعون" (1947) وتدور أحداثها أيضا فى مدينة وهرانالجزائرية، وله مسرحيات شهيرة منها "كاليجولا" (1958) و"العادلون" (1950)، ويتضح تأثره بفكرة العبث، التى تقاسمها الوجوديون والعدميون فى عصره واستخلصوا منها نتائج مختلفة، فى مجموعة مقالات بعنوان "أسطورة سيزيف" صدرت 1938. يهمنى فى النهاية أن أشكر الهيئة العامة لقصور الثقافة على تكليفها لمترجم مبدع هو الأستاذ عاصم عبد ربه بانجاز ترجمة جديدة ل "الغريب"، جاءت درة فى بساطتها ودقتها ورهافتها، وإن لم تخل من بعض الهنات النحوية والأسلوبية القليلة، التى أذكر منها الالتزام بالفعل الماضى فى بعض الحالات الخاصة التى تلتزم به فيها الفرنسية والانجليزية، بينما يحسن فى العربية فى تلك الحالات الخاصة والنادرة استخدام الفعل المضارع .