ما بين حرية الإبداع وحماية ثوابت المجتمع، تدور المعركة الأخيرة حول جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، خصوصا بعد قرار المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء بوقف عرض فيلم «حلاوة روح» مؤقتا، وتشكيل لجنة لإعادة هيكلة هذا الجهاز، ومراجعة القوانين الخاصة به، لأن اللائحة التى تحكم عمل هذا الجهاز عبارة عن جمل مطاطية، لا تتعامل مع المحظورات بدقة.. وللرقابة فى مصر قصة طويلة. بدأت الرقابة عام 1927 على يدى الاحتلال الإنجليزي، وكانت إدارة تابعة لوزارة الداخلية، مهمتها مشاهدة الأفلام التى تنتج فى مصر، ومن ثم التصريح بعرضها أو منعها، وكان الهدف هو خدمة المستعمر، بالتركيز على ما هو أمنى وعسكري. وبقيام ثورة يوليو ألحقت هذه الإدارة بوزارة الثقافة، وضمت فى البداية مجموعة من الرقباء الأجانب، إلى أن تم تمصيرها، وفى عام 1955 تم وضع الضوابط التى يتحرك من خلالها الرقيب، لكن السيدة «نعيمة حمدي» حين تولت منصب مدير الرقابة بعد ذلك، كانت تشرك رجال الدين فى قراراتها، حيث استدعت الدكتور عبد المنعم النمر لمشاهدة فيلم «الإنس والجن» وطالب بحذف بعض المشاهد، وبالطبع كانت تشرك مسئولين من وزارة الداخلية، إذا ما اشتمت حواسها أى أعمال لها علاقة بالأمن. الفنانون أنفسهم تتراوح آراؤهم بين المطالبة بإلغاء هذا الجهاز، والمطالبة بتقنين عمله، فلا يسمح له برؤية السيناريو، وبعد الانتهاء من التصوير يأتى دوره بتصنيف العمل، تبعا للفئات العمرية، وقد تزايدت مطالب الإلغاء بعد ثورة يناير 2011، فطالب البعض بأن يقتصر دور الجهاز على تسجيل حقوق الملكية الفكرية، والتحديد العمرى للعروض. سيد خطاب أحد الذين تولوا إدارة هذا الجهاز الرقابى لثلاث سنوات، قدم دراسة عن الرقابة فى مختلف دول العالم، واقترح إنشاء مؤسسة بديلة تقوم بدورين: الأول الرقابة البعدية، وتصنيف العمل عمريا، لتحديد عرضه على الجمهور العام، أو وضع لافتة للكبار فقط على الأفيش، ودعا خطاب إلى صياغة قانون لإنشاء تلك المؤسسة. من بين الرقباء الذين تولوا الموقع الأول فى الجهاز، من كان يتمتع بدرجة من المرونة فى التعامل مع المنتج الفني، المعروض على الرقابة، وهناك من كان مقص الرقيب هو الأقرب إلى يديه، الناقد «على أبو شادي» على سبيل المثال يرى أن هدف الرقابة هو «العمل على خلق مواءمة بين المجتمع وبين ما يقدم فى الفن بكافة أنواعه» كما أن «عبد الستار فتحي» الذى أثيرت فى عهده أزمة فيلم عنوانه «تقرير» يقال إن جماعة الإخوان كانت وراءه، يرى أن «الرقابة تحافظ على ثقافة الشعب وهويته، إنها مجرد ضوابط ينبغى احترامها لأجل الابتعاد عن المشاهد التى تخدش الحياء» لكن الناقد السينمائى مدكور ثابت أحد من تولوا مسئولية هذا الجهاز يكشف عن مشكلة فى البنية، حين يؤكد أن «من يقومون بالرقابة غير مؤهلين لهذه الوظيفة». شهادة شادى عبد الله، أحد من تم تعيينهم فى هذا الجهاز، تؤكد صحة ما قاله مدكور ثابت، فهو يحكى عن أنه «فوجئ بطريقة العمل العشوائية التى يقوم عليها عاملون ليس لهم علاقة من قريب أو بعيد بالعمل الفني، فمن يراقبون الأفلام لمنحها إجازة دخول مرحلة التنفيذ من عدمه، لا يعرفون الفارق بين الفكرة والمعالجة والملخص، أو بين الفيلم التسجيلى والروائي، ومعظم العاملين فى الرقابة الفنية يرون أن السينما حرام». ومن المفارقات المدهشة فى هذا الشأن أن نجيب محفوظ تولى إدارة جهاز الرقابة على المصنفات الفنية لمدة خمس سنوات، بدءا من العام 1959، وفى أحد الحوارات التى أجراها محمد سلماوى معه، ونشر بجريدة الأهرام، أشار الكاتب الكبير إلى أنه وضع نظاما فى الرقابة، يقضى بتشكيل لجنة من كبار المثقفين، للنظر فى تظلمات أصحاب الأعمال التى ترفضها الرقابة، ولم يتم حظر أى فيلم أو مسرحية، طوال وقت ولايته على الرقابة، ولم تجتمع هذه اللجنة إلا مرة واحدة للنظر فى فيلم لعز الدين ذو الفقار، أوصت خلالها بحذف مشهد لرقصة، رأت اللجنة أنها خليعة. كان محفوظ أمينا مع نفسه وموقعه، فاتخذ قرارا بوقف تعاملاته مع السينما طوال فترة رئاسته للرقابة، وينبغى الإشارة إلى أن الأفلام التى كتبها، تعرضت للحذف بأيدى الرقابة، ففيلم الناصر صلاح الدين الذى شارك محفوظ فى كتابته، رفض رقابيا، فى عهد «محمد ناصف» ووصف السيناريو بأنه «مترهل وضعيف ولم يظهر الجوانب المضيئة فى حياة صلاح الدين كرجل سياسي». الرقيب نفسه محمد ناصف رفض أيضا سيناريو «اللص والكلاب» قبل أن يكتب محفوظ الرواية، وكان يتناول حياة المجرم الشهير محمود أمين سليمان، لكن الفيلم عرض فيما بعد فى أعقاب حذف بعض الجمل منه، كما أن الرقابة اعترضت أيضا على شخصية محجوب عبد الدايم فى «القاهرة 30» ووصلت الصورة إلى منتهاها حين وقع محفوظ على البيان المعروف باسم «بيان توفيق الحكيم» الذى كان يطالب السادات بإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب التى كانت سائدة قبل 1973 وكانت النتيجة أن منعت أعماله من العرض بالتليفزيون. فى كل الأحوال، وأيا من كان على رأس الجهاز الرقابي، ظلت النصوص التى تحكم عمل الرقباء جامدة، وكان الرقباء يتعاطون مع الحرية تبعا للهامش الذى تسمح به السلطات، لكن ضغوطا أخرى تظهر حين ننظر إلى استقالة «درية شرف الدين» التى مرت مرورا عابرا على هذا الجهاز فى عام 1995، فقد قدمت استقالتها، بعد ضغوط مورست عليها من قبل فاروق حسنى وزير الثقافة آنذاك، وجابر عصفور أمين المجلس الأعلى للثقافة آنذاك أيضا لعرض مسرحيات، لم تلتزم بالنص المجاز من الرقابة.