هذا العنوان الذي قرأته توا عزيزي القارئ إنما هو إحدي العبارات الواردة في كتاب الحرية للفيلسوف الإنجليزي الشهير "جون ستيوارت مل" الذي دافع فيه دفاعا شديدا عن حريات البشر بجميع صورها وخاصة حرية الفكر والمناقشة لدرجة القول إنه لو كان الجنس البشري كله باستثناء شخص واحد مجمعا علي رأي, وشخص واحد فقط مخالفا لهذا الرأي ما كان الجنس البشري محقا في إسكات هذا الشخص الواحد أكثر مما لهذا الشخص الواحد من حق في إسكات الجنس البشري إذا كانت لديه القوة.إن كلا منا لو اقتنع بهذه المقولة فإن ذلك يعني أنه قد بدأ يعي معني حرية الفكر وحرية الرأي والمناقشة, فمهما أوتي أحدنا من قوة في الحجة وقدرة علي الإقناع فإنه لا يستطيع بهما أن يؤكد أو ينفي صحة رأي وخطأ آخر, لأننا في النهاية خلقنا أفرادا, لكل منا عقل متميز ورؤية مختلفة لأي أمر من الأمور, ولا يستطيع أحد مهما أوتي من حكمة ولا سلطة مهما أوتيت من قوة أن يدعي أو تدعي أنها امتلكت اليقين, ومن ثم فعلينا أن نكون مقتنعين بأن كل رأي انما هو رأي صائب بالنسبة لصاحبه وأننا إذ نناقشه فيه لا نفترض بداية أنه خطأ ينبغي العدول عنه, بل هو رأي مختلف ينبغي مناقشته للاستفادة منه وليس لإثبات خطأه وإخماده. وهنا فقط سيتأكد لصاحب هذا الرأي أننا نحترمه ونقدر له اجتهاده برغم اختلافنا معه. تلك هي الصورة الصحيحة التي ينبغي أن يتعامل بها بعضنا مع البعض الآخر دون تعال ودون إدعاء امتلاك اليقين, إذ أننا كما قلت وأؤكد مرة أخري لا نستطيع مهما أوتينا من قوة الحجة والإقناع الجزم بأن الرأي الذي نحاول إخماده واسكات صاحبه رأي خاطئ, وحتي إذا كنا متأكدين أنه رأي خاطئ فإن إخماده وإسكات صاحبه يظل مع ذلك شرا لا ينبغي أن نقترفه, إذ أننا في هذه الحالة نفقد عضوا فاعلا في المجتمع وعقلا يفكر لصالحه, ولعل أحدنا الآن يصيح قائلا: يا أخي من قال لك أننا ننكر حق الجميع في إبداء الرأي والمناقشة؟! إننا نؤمن بحرية الفكر والمناقشة ولا ندعي عصمة لرأينا ولا نفرضه علي الآخرين! فما بالك تتهمنا بما ليس فينا!! ولهذا المحتج أقول ما قاله جون ستيوارت مل في نفس الكتاب إنه من الغريب أن يعترف الناس بسلامة الحجج التي تدعو الي حرية المناقشة, ولكنهم يعترضون علي التطرف فيها وهم لا يرون أنه اذا لم تكن هذه الحجج صالحة في الحالات المتطرفة فهي غير صالحة لأية حالة, وغريب أن يتصوروا أنهم لا يدعون العصمة عندما يعترفون بوجوب حرية المناقشة في جميع الموضوعات التي يمكن أن تكون محل شك ولكن يعتقدون أن مذهبا أو مبدأ معينا يجب تحريم مناقشته لأنه يقين أي أنهم متيقنون أنه يقين, إن القول بأن أية قضية يقين في حين أن هناك أي شخص ينكر يقينه إذا سمح له, ولكن لا يسمح له بذلك هو بمثابة الافتراض بأننا ومن يتفقون معنا وهم قضاة اليقين, قضاة لا يستمعون الي الجانب الآخر. إن هذا بالضبط هو ما ينطبق علينا وعلي مجتمعنا الآن وخاصة بعد الثورة التي أتاحت لكل صاحب رأي أن يخرج علينا معلنا رأيه في صراحة ووضوح دون خشية أي عقاب أو مطاردة من أي سلطة, لكن ونحن في غمرة الفرح بتمتع الجميع بحرية الرأي والمناقشة أيا كانت انتماءاتهم ومعتقداتهم, جاء من يحاول أن يفرض سلطته وسطوته علي الآخرين بالصوت العالي مرة وبإدعاء أنه صاحب الثورة والوحيد الذي له حق ابداء الرأي وتوجيه دفة الأمور تارة أخري, أو بالتخويف والوعيد تارة ثالثة, أو بإدعاء أنه من يملك اليقين تارة رابعة!! وبرغم خطورة كل هذه الأصوات التي تدعي أنها صاحبة الحق في الرأي وفرض السلطة علي الآخرين إلا أن الفريق الرابع هو أخطرهم جميعا لأن اصحابه يسندون يقين رأيهم علي الشريعة الإسلامية سواء كانوا من السلفيين أو من الإخوان أو غير هؤلاء وأولئك من التيارات الدينية, وتناسوا أنهم هم أنفسهم قد اختلفوا في أرائهم وقناعاتهم وتفرقوا شيعا, أيها السادة لقد نجحتم في أن تفرضوا سلطتكم علي الآخرين وتوجهونهم وجهة خاطئة فيما يتعلق بقضية الانتخابات أولا وجاءت نتيجة الاستفتاء معبرة عن ذلك, وبذلك أصبحت العربة أمام الحصان! لقد تنادت بعض الأصوات العاقلة باحترام إرادة الشعب الذي وجهناه خطأ الي الاستفتاء علي ما كان لا يصح أن يستفتي فيه, ولتكن الانتخابات أولا, لكن علينا في ذات الوقت أن نضع كمجتمع مبادئ عامة نتوافق عليها للدستور الجديد الذي نزمع وضعه ليؤسس للجمهورية الثانية, حتي لا تفرض علينا مرة أخري إرادة فئة معينة تحت دعوي الأغلبية النيابية فتضع الدستور الجديد علي هواها ووفق تصوراتها, فإذا بكم يا أصحاب الصوت العالي ومدعي العصمة ترفضون المشاركة وتعلنون المقاطعة!! فهل أنتم حقا معصومون؟ وهل أنتم حقا تستهدفون مصلحة المجتمع؟ وهل أنتم حقا جديرون بالثقة التي تتمنون نيلها من الناخبين المخدوعين في إدعائكم العصمة وامتلاك اليقين؟! أتمني عليكم إذا كنتم بالفعل أهلا للثقة ورجاحة العقل والرأي أن تراجعوا موقفكم, وأن تؤمنوا بأن العودة الي جادة الصواب فضيلة لا يفوقها فضيلة, فوضع الدستور أو علي الأقل مبادئه الحاكمة أولا هو الضمان الحقيقي لبناء نظامنا السياسي الجديد علي أسس سليمة تحقق العدالة والكرامة للجميع, والمساواة بين الجميع, وتؤمن الحريات الأساسية للجميع, إن وضع الدستور أولا يعني أننا بنينا قاعدة الانطلاق الصحيحة لطريق طويل يستهدف بناء الدولة العصرية التي نطمح إليها جميعا. المزيد من مقالات د. مصطفي النشار