كيف عبرت في سيرتك الذاتية الأولي "أحلام في زمن الحرب: مذكرات طفل"، والثانية "في بيت المترجم" عن الرعب الذي عشته في كينيا تحت الاحتلال البريطاني؟ تبنيت منظور صبي في "أحلام زمن الحرب"، فذكريات الانطباع الأول لا تخبو، وتظل واضحة كأنها مجموعة صور. كما اعتمدت إلي حد ما علي تيار الوعي، كما لو كنت أعايش أحداث الماضي في اللحظة الراهنة. بينما اعتمدت في مذكراتي الثانية علي أبعاد الماضي لكشف الحاضر. وفي الحالتين كنت أكتب عن نفسي، أو بالأحري، كنت أكتب عن تاريخ كينيا اليومي. وهل تعتبر مذكراتك نوعاً من التعبير عن الحزن لابتعادك عن وطنك؟ أفضل أن أصف هذه الحالة بالحنين، الحنين إلي الوطن. السعي للتواصل معه. أفترض أن وطني سيتحول إلي أرض مثالية مع الوقت. أحاول يومياً أن أتواصل مع وطني، لكن محاولاتي تُخفق، فأحاول مرة أخري. لماذا تكتب بلغتك الأصلية ثم تترجم ما كتبت إلي الانجليزية؟ حاول الاستعمار أن يدمج ضحاياه مع عالم ليس بعالمهم. وفيما يتعلق باللغة، يحاول الاستعمار حتي الآن، أن يجعلك تتعلم لغته وتنسي لغتك الأصلية. وأنا أرفض تلك السطوة اللغوية والثقافية، وأكافح كي أحرر اللغات الأفريقية من تلك السطوة اللغوية والثقافية. علي دول أفريقيا أن تتقارب لغوياً وتتحاور ثقافياً مع العالم علي أسس من الديمقراطية والمساواة، وأن تتمسك بهويتها اللغوية. وإن كتبت بلغة ما فأنت تحاول بشكل ما أن تستهدف القارئ بتلك اللغة. اللغة إطار للتفكير وإدراك العالم، فهل تختلف الطريقة التي تري بها العالم حين تستخدم الانجليزية أو لغة "الكيكويو"؟ نحن نري نفس العالم، رغم اختلاف اللغات وتفردها. أناضل حتي أعثر علي الكلمات المُعبرة سواء كنت أكتب بالانجليزية أو "الكيكويو" أو "السواحيلي". وبأي لغة تفكر معظم الوقت؟ يعتمد هذا علي الموقف. لكني أفكر بالانجليزية معظم الوقت، فأنا أعمل أستاذاً للأدب الانجليزي والأدب المقارن في الوقت الراهن، وهذا هو عملي طوال حياتي. أغلب الكتب التي أقراها باللغة الانجليزية. لديك اهتمامات أدبية وسياسية واجتماعية، وتشغل عدة مناصب، ألا يؤثر هذا علي إبداعك؟ أنا كاتب في المقام الأول، لكن الكاتب ليس كائناً مُجرداً، إنه نتاج مجتمع ما، وتاريخ ما. إنه مُنتج وفي نفس الوقت انعكاس لظروفه الاجتماعية. لذلك لا ينبغي أن يكون لعمل الكاتب حدود أو محددات، فعليه أن يعبر عن كافة الجوانب الإنسانية ذات التأثير علي العلاقات الإنسانية داخل المجتمع. يمكن أن يبدأ الكاتب برغبة في تغيير الأنماط السائدة للعلاقات الإنسانية ويسعي إلي تغييرها. ولكن عليه أن يسأل نفسه: ما العقبات التي تمنع تغيير طبيعة العلاقات الإنسانية داخل المجتمع؟ ولن يجد إجابة علي هذا السؤال في مكان واحد أو مجال واحد. سيكتشف أنها عملية معقدة تحتاج إلي الغوص في أحشاء المجتمع. أنت تعيش وتكتب في دولة "نامية"، ألا يفرض المجتمع في تلك الدولة حدوداً لا ينبغي تجاوزها علي الكاتب؟ وهل ينبغي علي الكاتب أن يتجاهل هذه الحدود أثناء عملية الكتابة؟ يمكن فرض الحدود دائماً في كل مكان، ولا يقتصر هذا علي الدول النامية وحدها وإن تواجد فيها بشكل أكثر بسبب الأنظمة السياسية القمعية. في الواقع، تحاول الطبقة الحاكمة، في أي مكان، أن تحد من عملية الإبداع وأن تحاصر خيال الكاتب. الأخطر من هذا أن يتبني الكاتب ما قام النظام بتقديمه علي اعتباره الحقيقة، وأن يري العالم بمنظور ليس منظوره الشخصي، أو يقع فريسة الترهيب والترغيب. لكل مجتمع تناقضاه ومحاذيره الدينية أو العرقية أو اللغوية.. هناك قيود دائماً، لها أشكال متعددة، لكن الكاتب ليس مجبراً علي قبولها، وعليه العمل علي تجاوزها طوال الوقت. كيف تفسر تزايد الدعوة إلي تحرير المرأة في أعمالك؟ كان للمرأة حضور قوي في أعمالي علي الدوام، كانعكاس للدور المهيمن للمرأة الكينية، خاصة الريفية، في نضالها ضد الاحتلال. وفي الواقع، يحفل تاريخنا بالأعمال العظيمة التي قامت بها النساء. ولقد حاولت في كتابي "المُحتجز: مذكرات كاتب في السجن"، أن أصف هذا الدور للمرأة الكينية. وأنا أري أن المرأة في أفريقيا تتعرض لاستغلال وظلم مزدوج لأنها جزء من الطبقة العاملة الزراعية التي يستغلها أصحاب الأراضي المحليون، وتستغلها البرجوازية العالمية. كما أنها تعاني من تبعات الفقر والجهل والتخلف أكثر من الرجل. ومازال الإقطاع يعشش في أفريقيا من أيام الاستعمار حتي الآن، ومن ثم فإن المرأة بمثابة خادمة لزوجها. علي المرأة أن تعي الظلم المزدوج الذي تعاني منه، وأحاول أن أساهم بكتاباتي في هذا السياق. ما علاقتك بالمسرح؟ دعني أشرح لك أولاً علاقتي بالمسرح في كينيا وشرق أفريقيا. أثناء الدراسة في كينيا، لم نكن نشاهد سوي مسرحيات شكسبير كل عام. وظن بعضنا أن شكسبير هو الكاتب المسرحي الوحيد في العالم. وكانت أولي محاولات كتاباتي المسرحية في أوغندا، وبدأت أكتب اسكتشات مسرحية قصيرة لتشترك في مسابقات مدرسية. وفي عام 1962 طلب مني الطلاب في جامعة "ماكرر" بأوغندا أن أكتب مسرحية تحتفل باستقلال أوغندا. كتبت حينها مسرحية "الراهب السود"، وكانت أول مسرحية تعرض علي مسرح أوغندا الوطني. ومنذ ذلك الحين توقفت عن كتابة المسرح، عدا بعض مسرحيات قصيرة لإذاعة "بي بي سي". وكنت في ذلك الوقت أصب اهتمامي علي الرواية باعتبارها عشقي الأول. وفي عام 1976، طلب مني مجموعة من العمال والفلاحين يعيشون في قرية قرب نيروبي أن أكتب لهم مسرحية، ساعتها قررت أن أكتب بلغتهم لا بالإنجليزية وأن أهتم بالمسرح إلي جانب الرواية. وما الفارق بين التقاليد المسرحية الاستعمارية والأفريقية؟ لقد كانت وجهة نظري دائماً أن الكثير من التعليم الاستعماري كان النزوع إلي الغموض، حتي لا يُدرك الناس علاقتهم بالطبيعة، وبالمهام المنوطة بهم، والثروة التي تنجم عن عملهم. وأعني بهذا أن كثيراً من التعليم الاستعماري الذي يتلقاه الطالب يسبغ ملامح صوفية علي الواقع. أما الآن، وفيما يخص المسرح، لم نعد نرغب في اتباع تلك التقاليد التي تهدف إلي امتاع المشاهد، لكنه يشعر بالعجز عن الفعل حين يعود إلي منزله. وفي حالتنا (ويجب أن أعترف أنها مفروضة علينا بحكم الضرورة)، فليس لدينا مسرح مُغلق.. كل التدريبات علي المسرحية تتم في مكان مكشوف؛ويتم قراءة النص أمام الجمهور الذي يشارك بالتعليق علي النص، وأحياناً يضع بعض التغييرات او الإضافات، يمكنك القول أن هناك أكثر من مخرج، ومن يري الأمر من بعيد يعتقد أنها فوضي. سبب هذا الإحساس هو حرية الحاضرين في التعليق علي الأحداث وعلي أداء الممثلين. وأحياناً ما ينبري أحد المتفرجين ويقوم بأداء المشهد بطريقة يري أنها فعالة. يألف الممثلون أدوارهم، ويشعر الجمهور أنهم جزء من العمل، وهذا ما أسميه تبديد الغموض الذي يكتنف العملية المسرحية. ما الأعمال الأدبية التي تأثرت بها؟ لقد سمعت قصص أمي منذ طفولتي الأولي، قصص تؤهلني لكي أكون حكاياً. وعندما ذهبت إلي المدرسة، تعرفت علي عالم المستعمرين ومناهجهم: درست الإنجيل والأدب الانجليزي: "استفينسون" و"ديكنز"، وغيرهم. وعندما ذهبت إلي المدرسة الثانوية، قرأت الأدب المترجم إلي اللغات الأفريقية، لهذا فقد تعرفت علي الأدب الانجليزي بداية من "شوسر"، حتي "إليوت". وفي العام الأخير لي في الجامعة، قرأت أدب القارة الأوربية مثل: بلزاك، وزولا، وفلوبير، وبودلير، وتولوستوي، وديستوفسكي، وغيرهم. ثم تعرفت علي الأدب الأمريكي، والأدب الأفروأمريكي. يمكنك القول أنني نتاج الثقافة الكينية الشفهية، والثقافة العالمية المكتوبة. كيف تري الأصوات الأدبية الجديدة القادمة من أفريقيا؟ يحاول الجيل الجديد مواكبة العالم الذي يعيش فيه، الذي نشأ ليجد نفسه يعيش فيه: حقبة ما بعد الاستقلال، أفريقيا الخاصة بهم في العالم الحديث. أما نحن، أبناء الجيل الأكبر سناً، نحاول أن نستوعب أفريقيا التي عايشناها: أفريقيا لحظة سعيها للتحرر من الحقبة الاستعمارية. نحن عاصرنا مرحلتين، ولم يمر الجيل الجديد بالتجربة، إلا أن عليه إلقاء نظرة علي الماضي،ربما ساهمت في زيادة وعيه بالمستقبل. ما تعقيبك علي تجارب أبنائك الإبداعية؟ أنا سعيد بتجربة أبنائي الإبداعية، وأترقب صدور أعمالهم قريباً. لقد أصدر ابني "موكوما" روايته الأولي بعنوان "حرارة نيروبي"، وروايته الثانية علي وشك الصدور. وسوف تنشر ابنتي "وانجيكو" روايتها الأولي في غضون عدة أشهر. كما أن ابني "نودوكو" علي وشك إصدار رواية جديدة. وكما تري فأنا أنتظر الكثير من إبداعات العائلة. وفي الحقيقة، أسعد جداً بالتجارب الجديدة للشباب، وأرحب بها علي عدة مستويات: كأب، وقارئ، ومعلم، وبالطبع، كزميل. كيف كانت تجربتك في كتابة مسرحية مشتركة مع "جيثاي موجو"؟ وهل تود أن تكرر التجربة؟ لقد كانت تجربة عظيمة حقاً، جعلتنا نشعر بالفخر لأننا أنقذنا ذكر "ديدان كيماثي" وحركة "ماو ماو" المقاومة من المحاولات الرسمية لطمس تاريخها، من خلال التعتيم عليها بالصمت والتجاهل. لماذا تركز كل أعمالك للعلاقة بين الفرد والمجتمع؟ مثل كل الفنانين، أهتم للغاية بالعلاقات البشرية بأنماطها المختلفة. وأحاول أن أستكشف هذه العلاقات وبتنويعاتها المختلفة في أعمالي. فالعلاقات البشرية لا تنتج من فراغ، ولا تحدث في الفراغ. إنها تتطور في سياقات معرفية وثقافية واقتصادية ونفسية وسياسية. تؤثر كافة جوانب المجتمع علي البشر تأثيرا مباشراً وعميقاً، ولا ينفصل هذه الجوانب أحدها عن الآخر، إنها مترابطة. والأكثر حميمية فيها هو الأقرب للأرض. ويسعي أي فنان للكشف عن العلاقات المتداخلة من أجل النفاذ إلي الروح البشرية. فالحياة المادية هي المدخل الطبيعي للحياة الروحية، وهي التي تؤدي إلي فهمها. لقد احتلت "الشيطان فوق الصليب" مكانة بارزة ومركزية في كتاباتك، لأنها كانت البداية لقيامك بالكتابة بلغتك الأم. كيف كانت التغييرات الجمالية التي حدثت عندما هجرت اللغة الانجليزية كأداة تعبير؟ "الشيطان فوق الصليب" مركزية للغاية في سيرتي الأدبية، بلا جدال. إلا أنها ليست أول عمل لي بلغة الجيكويو. لقد كان العمل الأول هو "سوف أتزوج حين أريد"، وكنت قد كتبتها مع نغوجي وا ميري. إلا أنها تطورت علي يد مساهمين من أهالي قرية كاميريثيو في كينيا. العمل المجتمعي هو ما دفعني للكتابة بلغتي الأم، بعد سنوات من الاغتراب الثقافي. كما أدت أعمالي تلك بي إلي الاعتقال لمدة عام، دون محاكمة. وبينما كنت في المعتقل، فكرت في علاقتي باللغة الانجليزية، وفكرت فيها لغة استعمارية، ولغة الهيمنة في الحقبة ما بعد الاستعمارية. وقررت ساعتها ألا أكتب أعمالاً أدبية، سواء روايات أو دراما باللغة الانجليزية. وكانت "الشيطان فوق الصليب" هي النتاج الأول لهذا القرار، وكنت قد كتبتها في المعتقل. ولكن كيف تري العلاقة بين الكتابة بلغة مجهولة، وبين الانتشار، ونسبة المبيعات من المطبوعات؟ المهتمون باللغات والترجمة يسمون تلك اللغات المجهولة باسم اللغات المُهمشة، ليس الهامشية، وعلينا أن ندرك أن الجمهور المحب للأدب يقرأ في النهاية ما يقدم له. ويرجع الأمر فقط إلي من يُهيمن علي سوق الطباعة والترجمة، ولا يسمح بوصول هذه اللغات إلي القارئ خارج مجتمعه المحلي. وفي النهاية، العمل الأدبي الجيد، قابل للتسويق في كل مكان. منذ أن بدأت الكتابة بلغة الجيكويو، هل لاحظت تغيراً في مواقف القراء، ولو حتي علي المستوي القريب منك؟ ج منذ أن أعلنت موقفي من اللغة الإنجليزية في كتابي "تحرير العقل من الاستعمار"، عام 1986، وأنا أقابل سخرية وعدائية. إلا أنني ألاحظ تغيراً في هذا الموقف الآن. ربما لا تقبل الأغلبية موقفي من اللغة الانجليزية، ولكن الاهتمام الذي أثاره هذا الموقف جذب انتباه الكثيرين إلي هذه القضية، وأثار جدلاً حولها، وأصبح الكتاب من أشهر الكتب النظرية التي أصدرتها. هل تحتاج إلي الانفصال عن القضايا التي تدافع عنها أحياناً؟ بالطبع، وكان عليّ ككاتب أن أنفصل حتي أحظي برؤية أفضل للأشياء. إنه انفصال ينبع من الارتباط. علي الإنسان أن يتوقف عن السباحة ويجلس علي الشاطئ ليري العالم بمنظور أفضل. أنا ابن هذا المجتمع، وكل ما أقوم به هو من أجله. وهل يشبه هذا الانفصال، ما يقوم به الفنانون في الغرب جراء النزعة التشاؤمية التي تنتابهم؟ الانفصال والابتعاد من أجل رؤية أفضل، يختلف عن ذلك الناجم عن التشاؤم. ولقد تحدثت كل الديانات عن الأنبياء الذين اعتزلوا الناس لفترة، وذهبوا إلي البرية أو إلي الجبال لكي يتأملوا في أمر مجتمعاتهم. والكاتب عراف بشكل ما، وعلي نحو خاص. أما الانعزال عن المجتمع تماماً فهو لا يعدو كونه فكرة برجوازية. هل تعتقد أن علم الجمال يمكن أن يكون دليلاً علي ما يناسب القارئ، وهل للجمال قدرة علي ربط الفرد بالمجتمع؟ علم الجمال لم يتطور في الفراغ، وهو انعكاس لما أنتجته الحياة. الزهرة جميلة، وهي من إنتاج الشجرة بكامل مكوناتها. ولكن الزهرة مؤشر هام علي هوية النبات الفرد أو النباتات عموماً. كما أن الزهرة الرقيقة، تحتوي علي البذور التي تضمن استمرار النبات. ما أنتجه النبات في الماضي، يصبح مستقبله. قرأت تعبيراً لماركس عن الحياة في المشاع كما طبقه الهنود. ورأي ماركس أنه لا يناسب الطريقة الأوربية في الحياة، لأنهم كانوا يتشاركون الأرض والموارد بالتساوي، وأسماه المشاع البدائي، ولكنه جانب هام من جوانب نظريته. أحياناً أتساءل لماذا لا يتشارك العالم الأول والعالم الثالث الموارد، بدلاً من الصراع؟. لا أري الأمر علي هذا النحو. فالغرب ليس وحدة منسجمة، والعالم الثالث أيضاً ليس وحدة منسجمة. فطالما هناك طبقات، سيندلع صراع طبقي. والعالم الآن مُقسم بين طبقة حاكمة واحدة من ناحية، وشعوب محكومة من ناحية أخري. علينا أن نري الأمر بمنظور مختلف، في داخل الأمم ذاتها، في ظل صراع عالمي. هل أنت من الذين يعتقدون بوجود صراع بين المركز والهامش، وكيف تري حل هذا الصراع؟ لقد تحدث "أيما سيزاري" ببلاغة رائعة عن التبادل باعتباره أكسوجين الحضارة، ووصف عدم التبادل بأنه ثاني أكسيد الكربون. والتبادل يعتمد علي المساواة. يشبه الأمر رقصة يتبادل فيها الراقصون المواقع، من المتن إلي الهامش، ومن الهامش إلي المتن. علاقة قوية ومترابطة، تشبه أسلاك عجلة الدراجة، لكل سلك نفس الطول والأهمية، الفارق الوحيد أن الأسلاك البشرية يجب أن تقترض من بعضها البعض، فيختل هذا التوازن التبادلي. كيف تري مشاكل الهوية الثقافية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث يري الكثيرون أنهم يعانون من انقسام في الهوية بين ثقافاتهم وبين الثقافة الأمريكية؟ إنني أري مشهداً رائعاً في الولاياتالمتحدة، فهناك تمثيل لكل الديانات والثقافات، واللغات هنا. إلا أن هنا محاولات لطمس هذا أو التستر عليه باسم فكرة البوتقة الحضارية. يجب أن يتم اعتبار تعدد الهويات في إطار هوية أمريكية واحدة، بمثابة مصدر للقوة، وليس مصدراً للضعف. وهذا ما يجب أن تصدره الولاياتالمتحدة إلي العالم بدلاً من القنابل والأسلحة. لقد تناولت قضية أقسام تدريس اللغة الانجليزية في الجامعات الأفريقية، في "العودة إلي الديار"، ما الحل في رأيك؟ لأن الانجليزية لغة عالمية، ولأن المنتج الفكري لها يصل إلي جميع أنحاء الأرض، فيجب أن تعبر عن هذا التنوع وتعكسه في مناهجها. وبالطبع تحتاج المزيد من أقسام تدريس اللغات الأخري في الجامعات الأفريقية. ما تقييمك للأدب الكيني المعاصر؟ وهل صدرت أعمال أدبية مؤخراً بلغة الجيكويو بفضل تأثيرك؟ هناك العديد من الكتاب الذين يكتبون بلغة الجيكويو في كينيا الآن. أشهرهم هي السيدة وايثاريا مبوثيا. وهناك أيضاً "جيتاهي جيتيني"، وهو الآن أستاذ للأدب الانجليزي، إلا أنه يكتب بالجيكويو. وهناك أيضاً "موانجي موتاهي" ولقد قام بنشر ثلاث روايات حتي الآن بلغة الجيكويو. وهناك "جاتاوا مبوجوا"، وهو شاعر وعالم. ولقد أنجز نظرية علمية كتبها بلغة الجيكويو. وهناك أمثلة كثيرة غيرهم. ما الجديد الذي دفعك إلي اعتبار المقالات التي كتبتها في الأعوام الخمسة السابقة تصلح لصياغة مواقف سياسية وجمالية في كتابك: "نحو نظرية نقدية للفن والدولة في أفريقيا"؟ رغم أنني أسميت الكتاب "نحو نظرية نقدية للفن والدولة في أفريقيا"، إلا أن عنوانه الأفضل والأكثر دقة ربما كان "نظرية أداء الفن والدولة في أفريقيا"؛ فسؤال الأداء هو الأهم هنا، أكثر من أعمالي السابقة. وأهتم في هذا الكتاب بطبيعة الفن وطبيعة الدولة، والعلاقة القائمة بينهما، وهو ما لم أقم به من قبل. لقد تناولت الموضوع دون تعمق هنا وهناك، دون إطار منطقي متماسك. إن المعركة بين الفن وبين الدولة هي أحد الأساسيات في طبيعة الفن، وطبيعة الدولة؛ أي دولة كانت. كانت إمكانية دائماً لاحتدام الصراع بينهما. تستخدم مفهوم "الأداء" كثيراً في كتاباتك هذه الأيام، هل لعلاقتك بالمسرح صلة بهذا المفهوم؟ أجل، لقد عشت مع المسرح طوال حياتي، واستخدمت الكثير من مفاهيمه. وهناك الكثير من الأمور المجتمعية التي تعتمد علي الأداء. إن هذا المفهوم يوفر رؤية أوضح لسلوكيات بعينها. علي سبيل المثال، ليس هناك دين دون أداء: أداء يومي وأسبوعي، إلخ.. وفكر في الأداء بمعناه الأوسع. الأداء يمكن الناس من العثور علي طريقهم من خلال عدة صيغ للوجود. وهو وسيلة يدرك بها الناس المجهول، حتي وإن كان في خيالهم. إنه مفهوم هام للغاية، لقد تعلمت منه وتورطت فيه. وماذا عن مفهوم الشفاهية الذي استخدمته بنفس القدر في هذا الكتاب؟ إذا نظرت إلي الشفاهية في كل المجتمعات، القديمة والحديثة، ستجد أنها ترفض رسم حدود واضحة بين الأشكال والأنماط والأجناس. في كل سرد شفاهي؛ هناك الرقص والموسيقي علي سبيل المثال. ويمكن أن يتطلب الأمر تدخل الكورس، والجمهور، أو استخدام الجمهور للقيام بدور الكورس. كما يحتوي السرد الشفاهي علي الأغاني والحكم والأمثال، لذلك تمثل الشفاهية شكلاً قائماً بذاته. كما أن الأداء عنصر هام من عناصر الشفاهية وهو الذي يعمل علي توحيد كافة العناصر الأخري. الشفاهية والأداء يعملان معاً إذاً؟ أجل، بالقطع، الأداء مركزي هنا، وهو ما يميز الشفاهي عن الأدبي. فأنت حين تقرأ رواية، لا تحتاج إلي أداء، هذا هو الأمر ببساطة. كيف تري العلاقة بين الفن والإبداع وبين الدولة؟ أربط مفهومي للفن بالإبداع، والحركة والتغيير، والتجديد، ولا أربطها بزمن محدد. وأفكر في مجتمع أكثر أخلاقية مما نعيش فيه الآن. وأسترجع المرحلة التاريخية التي لم تكن بها دولة، علي الأقل بشكلها المركزي الحالي. الفن فكرة متحركة والدولة فكرة ثابتة، والفن يسبق الدولة، والدولة تعوق الفن. وبعد أن تحولت الدولة إلي أداة في يد الطبقة الحاكمة، أصبحت تحكم قبضتها علي المجتمع بشكل أقوي، مما أدي إلي مزيد من الركود. الفن هو الانطلاق والتغير والتحرر. الدولة والفن في علاقة متناقضة، وكل طرف منهما يعمل علي تحرير ذاته. الدولة تحاول إفساد الفن، والفن يحاول تطهير الدولة. وللأسف أحزن حين ينحاز بعض المبدعين إلي الدولة ويصطفون في صفها. ولقد وصفت الصراع بين الفن والدولة باعتباره صراعاً بين قوة أداء الفن وبين أداء قوة الدولة. وما علاقة الفن بالثورة؟ الفن فعل ثوري، لا يوجد فنان لا يبحث عن التغيير إلي الأفضل. وأعتقد أن الفن هو ثورة دائمة، وتثوير مستمر. وما علاقة الفن بالغة؟ هناك نزعة عالمية الآن للتوجه نحو المحلية واستخدام اللغة المحلية بمفهومها الواسع، حتي يخاطب الفنان شبه، وأي إنجاز يتحقق عالمياً لهذا الفن المحلي يعود علي الفنان وعلي شعبه. علي الفنان أن يناقش قضاياه القريبة، قضايا كل يوم، ويفهم خبرات أهله ويحاول أن يترجمها جمالياً. هل أنت متفائل بالجيل الجديد؟ الحياة سباق متعدد المراحل، ونحن نمرر عصا الخبرة من فرد إلي آخر، وسوف يمررها بدوره إلي آخرين. هذه هي متعة التدريس بوجه عام، وممارسة الأدب علي نحو خاص. وما هو جديدك الذي تعمل عليه الآن؟ ما زلت مُستغرقاً في كتابة مذكراتي.