تفاصيل اجتماع محلية النواب بشأن تضرر 175 أسرة بالجيزة    الرئيس السيسي يهنئ الملك تشارلز الثالث بذكرى العيد القومي    رئيس الأركان يشهد مشروع مراكز القيادة الاستراتيجى التعبوي بالمنطقة الشمالية    السيسي: ملتزمون بتعزيز التعاون والاستثمارات المشتركة بين القطاع الخاص في مصر وغينيا الاستوائية    بلينكن: اتفاق وقف إطلاق النار في يد حماس    وكيل «صحة الشيوخ»: الرئيس السيسي وجه تحذير للعالم من مغبة ما يحدث في غزة    الزمالك يوضح حقيقة وصول عروض لضم محمد عواد    فينورد الهولندي يعلن خليفة آرني سلوت بعد رحيله لليفربول    الكشف عن حكم مباراة ألمانيا ضد أسكتلندا في افتتاح يورو 2024    أبرزهم راقصي السامبا.. مواعيد مباريات اليوم الأربعاء    التعليم: ضبط 3 حالات غش خلال امتحانات الاقتصاد والإحصاء    أول بيان رسمي بشأن وفاة "أصغر حاج" أثناء أداء مناسك الحج    دعاء رد العين نقلا عن النبي.. يحمي من الحسد والشر    «الصحة» تنظم ورشة عمل لتعزيز قدرات الإتصال المعنية باللوائح الصحية الدولية    الاستخبارات الداخلية الألمانية ترصد تزايدا في عدد المنتمين لليمين المتطرف    وزير الدفاع الألماني يعتزم الكشف عن مقترح للخدمة العسكرية الإلزامية    تدريب وبناء قدرات.. تفاصيل بروتوكول تعاون بين مركز التدريب الإقليمي للري والمعهد العالي للهندسة بالعبور    المصري الديمقراطي: تنسيقية شباب الأحزاب استطاعت تأهيل عدد كبير من الشباب للعمل السياسي    البورصة: مؤشر الشريعة الإسلامية يضم 33 شركة بقطاعات مختلفة    مدبولي يتابع جهود توطين صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات    رئيس إنبي: سنحصل على حقنا في صفقة حمدي فتحي "بالدولار"    "لا أفوت أي مباراة".. تريزيجية يكشف حقيقة مفاوضات الأهلي    البنك التجاري الدولي وجامعة النيل يعلنان تخرج أول دفعة من برنامج التمويل المستدام للشركات الصغيرة وا    «السكة الحديد» تعلن تعديل مواعيد القطارات الإضافية خلال عيد الأضحى    هيئة الدواء تعلن تشكل غرفة عمليات لمتابعة سوق الدواء في عيد الأضحى    الداخلية: ضبط 562 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    احتفالًا بعيد الأضحى.. السيسي يقرر العفو عن باقي العقوبة لهؤلاء -تفاصيل القرار    التعليم تكشف تفاصيل مهمة بشأن مصروفات العام الدراسي المقبل    كيف علق الجمهور على خبر خطوبة شيرين عبدالوهاب؟    عزيز الشافعي: أغاني الهضبة سبب من أسباب نجاحي و"الطعامة" تحد جديد    في ذكرى ميلاد شرارة الكوميديا.. محطات في حياة محمد عوض الفنية والأسرية    عصام السيد يروي ل"الشاهد" كواليس مسيرة المثقفين ب"القباقيب" ضد الإخوان    عاشور يشارك في اجتماع وزراء التعليم لدول البريكس بروسيا    بيان الأولوية بين شعيرة الأضحية والعقيقة    نقيب الصحفيين الفلسطينيين ل"قصواء الخلالي": موقف الرئيس السيسي تاريخي    5 نصائح من «الصحة» لتقوية مناعة الطلاب خلال فترة امتحانات الثانوية العامة    «متحدث الصحة» يكشف تفاصيل نجاح العمليات الجراحية الأخيرة ضمن «قوائم الانتظار»    كومباني يحدد أول صفقاته في بايرن    «أوقاف شمال سيناء» تقيم نموذج محاكاه لتعليم الأطفال مناسك الحج    وزيرة الهجرة تستقبل سفير الاتحاد الأوروبي لدى مصر لبحث التعاون في ملف التدريب من أجل التوظيف    بدء العمل بأحكام اللائحة المالية والإدارية بقطاع صندوق التنمية الثقافية    شبانة: حسام حسن عليه تقديم خطة عمله إلى اتحاد الكرة    حماية العيون من أضرار أشعة الشمس: الضرورة والوقاية    أفضل أدعية يوم عرفة.. تغفر ذنوب عامين    المجتمعات العمرانية تحذر من إعلانات عن كمبوند بيوت في المنصورة الجديدة: لم يصدر له قرار تخصيص    إعلام إسرائيلي: صفارات الإنذار تدوي في مناطق مختلفة من شمال إسرائيل    يونيسف: نحو 3 آلاف طفل في غزة معرضون لخطر الموت    «الإسكان» تتابع الموقف التنفيذي لمشروعات المرافق والطرق في العبور الجديدة    غدا، النطق بالحكم في قضية قتل تاجر سيارات لشاب بالدقهلية    بطل ولاد رزق 3.. ماذا قال أحمد عز عن الأفلام المتنافسة معه في موسم عيد الأضحى؟    تفاصيل مشاجرة شقيق كهربا مع رضا البحراوي    وزير الأوقاف يهنئ الرئيس السيسي بعيد الأضحى المبارك    وزير الصحة: تقديم كافة سبل الدعم إلى غينيا للتصدي لالتهاب الكبد الفيروسي C    مسئول أمريكي: رد حماس على مقترح وقف إطلاق النار يحمل استفسارات    الأصعب لم يأت بعد.. الأرصاد تحذر من ارتفاع الحرارة اليوم    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    خلال 3 أشهر.. إجراء عاجل ينتظر المنصات التي تعمل بدون ترخيص    حظك اليوم| الاربعاء 12 يونيو لمواليد برج الميزان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدستور : صراع التحرير
نشر في أخبار الأدب يوم 19 - 10 - 2013

منذ أن عرفت مصر دستورها الأول عام 1923، وهناك دائماً صراع بين مضمون الدساتير ورغبة الشعب في أن يعبر عن طموحاته، واستمر هذا الصراع في جميع الدساتير التي لم تعبر عن إرادة الأمة.. ففي كل مرة يستولي نظام أو فكر أو جماعة علي الدستور فيخرج لنا محملاً بتوجهاتهم ورؤاهم، ولعل أبرز نموذج علي ذلك ما حدث في الدستور المعطل الصادر في 2012 .
في هذه الأيام تكتب مصر دستوراً جديداً.. ولكن يظل السؤال هل سيخرج من صلب الأفكار الحقيقية لثورة 25 يناير 2011 وامتدادها في 30 يونيو 2013، أم سيكون دستوراً يضاف لمكتبتنا وننتظر تغييره؟!
في أصول المسألة الدستورية
عرفت مصر عبر تاريخها الطويل حكاما جائرين وآخرين صالحين، وتتحدث الكتب عن خلفاء عادلين وآخرين ظالمين، ولكن مصر، ولا غيرها من الدول، لم تعرف شيئا اسمه الدستور. ففكرة أن تكون هناك وثيقة مكتوبة ومعلنة تحظي برضا الناس من شأنها وضع القواعد التي ستسير عليها إدارة الحكم، هي فكرة حديثة. ولعلنا نتذكر دهشة رفاعة الطهطاوي وهو يصف لنا هذه الوثيقة (الشرطة) التي لا عهد لنا بمثلها. فيقول الطهطاوي: " سوف نذكره بالرغم من أن أغلب جوانبه لا توجد في كتاب الله ولا سنة نبيه (...) لكي تعلم أن عقولهم قضت بأن العدل والانصاف هي من عوامل تمدن الممالك". وهكذا ولدت في ثقافتنا فكرة الدستور نتيجة للاحتكاك بالغرب (ولم يكن قد استعمرنا بعد).
علي الطريقة الأوروبية
وصار وجود الدستور هو أهم ملمح من ملامح حداثة الدولة. وفي أول محاولة لصياغة دستور للبلاد في عهد الخديو اسماعيل، تم تكليف الوزارة بعمل دستور للبلاد بهذه الصيغة: "وأن تجتهد النظارة قبل كل شيء في أن تستعد لاستحضار قوانين مماثلة للقوانين الجاري عليها العمل في أوروبا". وهي المحاولة التي توقفت بسبب الثورة العرابية وما أعقبها من احتلال لمصر.
كانت المطالبة بالدستور في قلب معركة الكفاح من أجل الاستقلال. فقاسم أمين يري تقدما في الحركة القانونية في البلاد يهدف إلي أن يتمتع المصري بالحقوق التي يتمتع بها نظيره الأوروبي، وهي الحقوق المتضمنة في الاعلان الشهير لحقوق الانسان. "مصر للمصريين" الشعار الذي رفعه أحمد لطفي السيد ليضرب استعمارين بحجر واحد: تركيا وانجلترا. وكان صياغة دستور لمصر هو العلامة الاكيدة علي أن مصر أصبحت دولة مستقلة وحديثة وبالاضافة إلي ذلك دولة ديمقراطية لأن غاية الدستور كما يري لطفي السيد، هو أخذ السلطة من الحكام ومنحها للأمة.
وأدركت انجلترا ما في المطالبة بالدستور من نزوع إلي الاستقلال فقامت تذكر المصريين بهويتهم. ويقول لطفي السيد: "أطمع في أن نتفق جميعا علي الحالة السيئة التي نحن فيها وعلي الوسائل التي يجب أن نستعملها للوصول إلي السعادة القومية التي أول مراتبها حكومتنا الدستورية... كلما قلنا ذلك غضبت الانكليز ، ويقولون لنا مرة أخري، إن التعاليم الغربية، تعاليم الحرية، مفسدة للشرقيين". ولحرمان مصر من دستور حديث حول الانجليز أنفسهم إلي مدافعين عن الهوية (الاسلامية)!!
الحريات وفصل الدين عن الدولة
بهذه الروح خاضت النخبة الليبرالية، بعد أن حصلت مصر علي استقلالها، معركة دستور 1923. كانت بالفعل معركة حيث انبري انصار الاستبداد السياسي والقهر الديني يحاربون كل محاولة لضمان حريات المواطنين. وكانت كل محاولات العرقلة تتم باسم الدفاع عن الهوية، أي خصوصية الشرقيين وعدم صلاحية نظم الغرب لهم. ولكن اسماعيل مظهر يري أنها معركة خاسرة لأن الحريات صارت أمرا واقعا حتي قبل صياغة الدستور. فهو يقول: " أليس النظام الدستوري، في ما ينطوي عليه من حرية عقيدة وحرية رأي ونشر، هو القائم اليوم في البلاد، وعنه تدافع قوي الأمة الحية كلها". و يحدد محمود عزمي الشروط الواجب الانطلاق منها حين وضع الدستور فيشير إلي بطلان الزعم القائل بأن الأنظمة الصالحة للغرب لا تصلح للشرق. ويدلل علي ذلك بإدخال النظام الدستوري في اليابان وهي من أعرق البلدان الشرقية ذ وبخاصة مجموعة القوانين المعروفة بالكود النابليوني". ويعبر عن استهجانه لمن يرفضون هذه القوانين الحديثة ويطالبون باسم الهوية بتطبيق الحدود فيقول:" أو ليس غريبا أن يطالب حضرات العلماء بتطبيق الحدود الاسلامية علي سكان مصر في هذا القرن العشرين فتقطع الأيدي والأرجل من خلاف ويرجم بالحجارة"
وإزاء الاصرار علي ضمان حرية الاعتقاد وحرية التعبير، احتج الشيخ بخيت عضو اللجنة التأسيسية للدستور محاولا وضع الملك في صفه فيقول: "كيف يعقل أن يمنح جلالة الملك أمته دستوراً يبيح للمسلمين منهم أن يرتدوا عن دين الاسلام، دون أن يكون عليهم في ذلك حرج". فيرد الدكتور محمد حسين هيكل رد من يدرك خطورة الغمغمة وعدم الوضوح في مثل هذه المواقف فيقول علي صفحات جريدة السياسة بلسان مبين: " قلنا إن الدستور يكفل للناس حرية الاعتقاد، ويبيح لهم أن يرتدوا عن الاسلام، من غير أن يكون عليهم في ردتهم حرج . وهذا القول ظاهر يامولانا من نص المادة الثامنة عشرة من الدستور الذي اشتركت في وضعه، فهو يقول "حرية الاعتقاد مطلقة"، ومعني الاطلاق يامولانا عدم التحديد بشيء، وعدم التقيد بشيء. فإطلاق حرية الاعتقاد معناه أن الدستور لا يقيد الاعتقاد بشيء ولا يتعرض لمن يختط لاعتقاده سبيلاً بسوء، سواء رضيت فضيلتكم عن خطه هذا الاعتقاد أم لم ترض، سواء خرج صاحبه عن الاسلام إلي النصرانية أو اليهودية أو دخل إليه من واحد منهما، أو خرج عن أديان الله جميعا إلي نظريات الفلاسفة المجردة، إلي عمايات الشيطان الملبسة. ذلك أن مصر قد أصبح بها دستور نص علي اطلاق حرية الاعتقاد ويبيح للناس كل ما يريدونه من ارتداد عن الاسلام من غير أن يكون عليهم في ردتهم حرج ينالهم في دنياهم... أليس هذا ظاهرا يا مولانا."
هؤلاء الفرسان ، إلي جانب كثيرين غيرهم علي نحو ما يبين الباحث المؤرخ صابر نايل في كتابه التجربة الليبرالية والعلمانية، المدافعون عن حداثة الدولة وديمقراطية الحكم وحقوق الأفراد لا يمكن اتهامهم بالعداء للإسلام والثقافة العربية. فالدكتور هيكل صاحب كتاب حياة محمد وكتاب في منزل الوحي كان ذا ثقافة إسلامية رفيعة وساهم في تعريف الأجيال الجديدة بعظمة الاسلام وعظمة رسوله، ومحمود عزمي الذي يستنكر تطبيق الحدود كان هو من كافح كي تصبح اللغة العربية لغة معتمدة في المرافعات أمام المحاكم، بل إنه كتب كتابين في القانون باللغة الفرنسية حتي لا يفسر خصومه دعوته بضعفه في الفرنسية، واسماعيل مظهر صاحب الترجمات والموسوعات والكتب المليئة بالاعجاب بعظمة الحضارة الاسلامية, لكنهم في النهاية يمثلون نموذجاً للمثقف العلماني، المؤمن، وفي نفس الوقت الحريص علي فصل الدين عن الدولة حتي لايستغله الحكام في العصف بالمعارضين.
الدستور الحالي يلغي نفسه !
ما بالنا اليوم فقدنا هذا الحسم وهذا الوضوح، وصرنا نتلمس الذرائع الواحدة تلو الاخري كي نتيح للحكام استخدام سلطة الدين. الآن يقولون لنا إن مهمة الدستور هي التعبير عن هوية الأمة. وهي وظيفة غريبة للدستور؛ فالانسان يعرف هويات الامم من فكرها وفنونها وتقاليدها وليس من دساتيرها، ولو قارنت بين دستور اليابان ودستور السويد، لن تجد في أي منها ما يدلك علي ثقافة الأمة التي ينتمي لها.
ومنذ أربعة عقود خيمت فوق الدستور سحابة الشريعة, فاعترض أنصار الهوية - أي أعداء الحريات - بأنها مجرد ديكور، والحال أن المطلوب تفعيلها.. ما معني تفعيلها؟ عدم الاكتفاء بالمبادئ وإنما أيضا الاحكام. ما المقصود بالاحكام؟ فالفقهاء مختلفون: هذا يحلل وهذا يحرم، فأي أحكام؟ إذن الأمر يحتاج إلي تعريف، فكانت المادة 219 ولكن من سيفصل في الأمر إذا كان هذا القانون موافق للشريعة أم لا. فتكون رقابة الأزهر هي التي من شأنها أن تجيز قوانين البرلمان أو تحظرها. وهكذا وجد الازهر نفسه لأول مرة في تاريخه وصيا علي كل السلطات، وهو أمر لا أتصور أنه كان يطمح إليه. المهم أننا سرنا في مسار يلغي فيه الدستور نفسه، لماذا؟
لقد تنوعت جهود المفكرين والفقهاء الدستوريين ولكنها انتهت إلي مجموعة من المهام يختص بها الدستور الحديث وهي:
تنظيم أداء السلطات العامة للدولة عن طريق تحديد مجال الاختصاص؛
حماية حقوق الفرد ضد أي تعد محتمل من السلطة؛
تقييد السلطة عن طريق الفصل بين السلطات؛
أن يفرض الدستور نفسه بوصفه قانونا فوق كل قانون، ويكون معيارا لصلاحية أو فساد كل ما يستحدث من قوانين.
في جميع بلاد العالم ذات النظام الدستوري، يقوم البرلمان بإصدار القوانين ثم تأتي بعد ذلك هيئة، إما مجلس الشيوخ وإما المحكمة الدستورية، لتري مدي اتفاقها مع المواد التي يتضمنها الدستور، وتحكم بناء علي ذلك بقبولها ورفضها. لكننا نحن في مصر طبقا للدستور الحالي وربما طبقا لتعديله المنتظر، نحكم علي صلاحية القوانين باتفاقها مع الشريعة وليس مواد الدستور، والهيئة التي تفصل في الأمر هي الأزهر وليست المحكمة الدستورية. وهذا نجد أنفسنا أمام دستور لا يعتبر نفسه معيارا لصلاحية القوانين وإنما يحيل إلي معيار آخر، فيلغي نفسه.
لقد قال البعض للتهوين من تعارض ذكر الشريعة في الدستور مع حداثة نظام الحكم، أن كلمة "مصدر" هنا مقصود بها الاستلهام. تماما كالقانون الروماني بالنسبة للتشريعات الأوروبية الحديثة. ومن هذا المنظور تكون الشريعة مصدرا ثرياً. ولكن في هذه الحالة ينبغي ألا تكون معيارا لصلاحية القوانين، فلم نسمع في أي دولة أوروبية عن قانون تم رفضه لتعارضه مع القانون الروماني، وانما الحجة الوحيدة هي تعارضه مع الدستور.
ولنقل في النهاية باختصار أن النظام الدستوري هو برلمان يقوم باصدار القوانين وهيئة تدرس مدي مطابقتها لمواد الدستور. أي تدخل آخر هو تدمير للنظام الدستوري بأكمله. وهو ما يحمل في داخله الكثير من المخاطر، لأن الشعب الذي وضع شعار الدولة المدنية علي رأس مطالبه في ثورة 25 يناير، لن يهدأ حتي يظفر بها، وسوف يزيح من طريقه كل صور التلاعب التي تسعي لحرمانه من حقه في دستور يصون حرياته مثل دساتير باقي دول العالم المحترمة.
سالت من أجله الدماء في الميادين
ومصالح القوي السياسية تنتصر دائما:
الدستور المصري بين إرادة الشعب وألاعيب السياسة
لم يتوقف كثيرون أمام ظاهرة تدعو للتأمل فيما يتعلق بكتابة الدساتير المصرية، وهي أننا نكاد نكون البلد الوحيد الذي قام بتغيير دستوره أكثر من ثماني مرات من عام 1923 وحتي 2012، يأتي ذلك رغم العمل بدستور 1971 لأكثر من أربعين عاما، فمنذ أن عرفنا معني الدساتير بالشكل المتكامل عام 1923، ونحن نمتلك في مكتبتنا الدستورية عدداً لا يستهان به.
والمتأمل للخلفيات والظروف التي تنشأ فيها الدساتير، لابد أن يتوقف عند السبب الحقيقي لتعاقب هذه الدساتير، وهو وجود قوي ضغط ومصالح سياسية هي التي تتحكم في كتابة الدساتير المصرية، وتتراجع الغاية الرئيسية للدستور أمام الرغبة في أن يحقق هذا الفصيل او ذاك أغراضه، في أن يأتي الدستور معبرا عنه، ولعل خير نموذج لذلك ما حدث في دستور 2012.
الحركة الوطنية ودستور 1923
في السطور التالي أستعرض المناخ العام الذي ولد في ظله عدد من الدساتير، وأبدأها بدستور 1923، الذي جاء تتويجا لثورة 1919، ولم تكن ولادته سهلة، فبسببه قدمت وزارة ثروت باشا استقالتها، وذلك بعد أن احتجت الحكومة البريطانية علي مادتين في الدستورتخص وضع السودان " تجري أحكام هذا الدستور علي المملكة المصرية جميعها عدا السودان، مع أنه جزء منها، يقرر نظام الحكم فيه قانون خاص" فاستقالت وزارة ثروت، وخلفتها وزارة محمد توفيق نسيم، التي عبثت بالدستور، ورضخت لاعتراضات الجانب البريطاني، وقاومت الحركة الوطنية هذا العبث الدستوري، فتم تشكيل وزارة يحيي باشا في 15 مارس 1923، التي صارت علي نهج سالفتها في إرضاء الإنجليز، الذين ضغطوا علي الملك، ليصدر دستور 23 خاليا من المادتين السابقتين، ويعلق محمد حماد مؤلف كتاب " قصة الدستور المصري.. معارك ووثائق ونصوص" علي هذا الدستور قائلا: " كان دستور 1923 خطوة مهمة للحياة الديمقراطية، لكنه لم يخل من أوجه النقد، خاصة أنه أعطي الملك الحق في حل البرلمان وإقالة الوزارة، فمكن الملك وهو صاحب السلطة التنفيذية من التحكم في السلطة التشريعية وهي البرلمان".
ويعبر عن هذا الصراع في كتابة دستور 1923 الدكتور سيد عيسي محمد مؤلف كتاب " الدساتير المصرية" بقوله: إن دستور 1923 جاء تعبيرا عن تيارين متناقضين في أهدافهما، الأول يمثل الحركة الوطنية التي هدفت إلي تأكيد سلطات الأمة، والتيار الثاني تمثل في القصر والسلطة البريطانية في صنع القرار السياسي، وكانت رغبة التيار الثاني في عدم قيام حكم دستوري نيابي سليم في مصر، لأن ذلك يمثل خطورة علي مصالحهم ونفوذهم ليظل الاحتلال حقيقة واقعة والقصر أداته في الحكم".
وجاء دستور 1930 نتيجة للخلاف بين الملك فؤاد وحكومة النحاس باشا، التي أصرت علي إصدار قانون محاكمة الوزراء، وكان من بين بنوده محاكمة الوزراء الذي ينقلبون علي الدستور، أو يقومون بحذف حكم من أحكامه أو تعديله بغير الطريق الذي نص عليه الدستور، ومحاكمة كل وزير يبدد الأموال العامة، وتقدمت علي إثر هذا الخلاف وزارة النحاس باستقالتها، وجاءت حكومة صدقي باشا، التي عطلت اعمال البرلمان، وسعت لتعطيل دستور 1923، لتعم المظاهرات البلاد، خاصة في القاهرة، بلبيس، المنصورة، بورسعيد، الإسماعيلية، السويس، طنطا، والإسكندرية، وتم إطلاق الرصاص الحي في أكثر من منطقة، وسقط الكثير من الضحايا من قتلي وجرحي، ولم تهتم الوزارة بهذه الاحتجاجات، ليصدر القرار الملكي بإلغاء دستور 1923، ويصدر بدلا منه دستور 1930، الذي يعتبره الكثير من فقهاء الدستور بمثابة ردة دستورية، وهو ما يعبر عنه د. سيد عيسي محمد بقوله: يعتبر دستور 1930 نكسة في التطور الديمقراطي المصري بكل المقاييس، فقد حد من سلطة البرلمان، ودعم من سلطة البرلمان، ودعم من سلطة الملك والسلطة التنفيذية، فقيد من حق النواب في سحب الثقة بالوزراء، واشترط أن يكون الطلب موقعا عليه من ثلاثين عضوا علي الأقل، موضحا المسائل محل المناقشة، ولا يطرح الطلب للمناقشة قبل ثمانية أيام من تقديمه، ولا يصوت عليه إلا بعد يومين من إتمام المناقشة، ويصدر بأغلبية جميع أعضاء المجلس، ودعم هذا الدستور سلطة الأعضاء المعينيين في مجلس الشيوخ لتصل إلي ثلاثة أخماس، وبعد سنوات من رفض دستور 1930، والتحركات الواسعة للحركة الوطنية، سقط هذا الدستور المعيب.
ويحكي محمد حماد اللحظات الأخيرة التي أدت لسقوط دستور 1930: " تألفت الجبهة الوطنية في ديسمبر 1935، من أحزاب: الوفد المصري والأحرار الدستوريين، والشعب، وبعض المستقلين، وشكلت لجنة لوضع صيغة خطابين، الأول للملك فؤاد بخصوص عودة الحياة الدستورية، وقد وقع عليه جميع رؤساء أحزاب الجبهة الوطنية، أما الخطاب الثاني فكان للمندوب السامي البريطاني بخصوص موضوع المعاهدة المصرية البريطانية، ووقع عليه جميع الموقعين علي الخطاب الأول باستثناء رئيس الحزب الوطني، وقد استجاب الملك فؤاد لطلب الجبهة الوطنية، وأصدر أمرا ملكيا في 12 ديسمبر 1935 بعودة العمل بدستور 1923".
وظلت مصر تعمل بدستور 1923 حتي قيام ثورة 1952، التي ظلت لمدة 18 عاما تحكم بدساتير وإعلانات دستورية مؤقتة، إذ كان الإعلان الدستوري الأول في 10 ديسمبر 1952، وهو الإعلان الذي بموجبه تم إسقاط دستور 1923، وكان الإعلان الدستوري الثاني في 10 فبراير 1953، وهو الإعلان الذي نظم الفترة الانتقالية، وكان الإعلان الدستوري الثالث في 18 يونيو 1953، وهو الإعلان الذي سقطت بموجبه الملكية، وأعلن قيام الجمهورية 1956، ثم دستور الوحدة 1958، وأخيرا دستور 1961 .
دستور الرئيس
وبعد هذه الدساتير المؤقتة، وعندما جاء الرئيس السادات ، طلب في 20 مايو 1971 من مجلس الأمة المنتخب وضع دستور دائم للبلاد، فتشكلت لجنة تحضيرية من خمسين عضوا، ثم ارتفعت لتصبح ثمانين عضوا، واستعانت بمجموعة من الخبراء في مختلف التخصصات من أساتذة جامعة ورجال دين وقضاء وقانون، وانتهت اللجنة من عملها في يوليو 1971، وتم الاستفتاء الشعبي في 11 سبتمبر 1971، بنسبة موافقة 99٪ من إجمالي المستفتين.
ويعلق محمد حماد علي هذا الدستور وما فيه من إيجابيات وسلبيات: " صدر دستور مصر الدائم 1971، وتضمن 193 مادة، ونص في إحداها علي أن الشعب هو مصدر السلطات، ولكنه وضع كل السلطات في يد واحدة هي اليد التي تدير النظام السياسي، يمنح السلطات ويمنعها، يد رئيس الجمهورية محور النظام وعموده الفقري... وقد لفت نظر الناقدين لهذا الدستور أن نصيب الرئيس وحده من الدستور، يبلغ 59 مادة، وهو رئيس الدولة، ورئيس السلطة التنفيذية، وهو رئيس المجلس الأعلي للهيئات القضائية، وهو القائد الأعلي للقوات المسلحة، وهو الرئيس الأعلي للشرطة، وهو رئيس مجلس الدفاع الوطني، وهو أيضا رئيس الوزراء إذا حضر اجتماعاته ، وأعطي الدستور له حق حل مجلسي الشعب والشوري، وهو يعين ثلث أعضاء مجلس الشوري.. كان وضع رئيس الجمهورية في دستور انور السادات شاذا، فقد أعطي للرئيس كل الصلاحيات التي تجعل منه فرعونا له ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، وليس من طريقة ولا وسيلة لمحاسبته، وأصبح هو الشعب مصدر كل السلطات".
واستمر العمل بهذا الدستور ما يقرب من ثلاثين عاما، أدخلت عليه فيها تعديلات تهدف إلي تثبيت أركان النظام، وطالبت قوي عديدة طوال فترة حكم الرئيس الأسبق مبارك، بوضع دستور جديد للبلاد، إلا أنه كان دائم الرفض، وكانت لديه تقريبا إجابة واحدة: " ما زلت أري أن تعديل الدستور ليس من أولوياتنا الراهنة، وما زلت أري أن تعديل الدستور الآن، سوف يفتح الباب لخلافات عميقة في الرأي حول قضايا أساسية، لا تزال موضع خلاف بين القوي السياسية في مصر"، لكنه في عام 2005 عدل المادة الخاصة باختيار رئيس الدولة لتكون بالإنتخاب بدلا من الاستفتاء، لكن القيود التي وضعت كانت ثقيلة، ورأي البعض ان هذا التغيير يصب في صالح مشروع التوريث، الذي ثار عليه وعلي النظام الشعب في 25 يناير 2011، وأسقط نظام مبارك في 11 فبراير 2011، وشهدت البلاد الكثير من الأحداث، التي انتهت بتولي د. محمد مرسي من جماعة الإخوان المسلمين منصب الرئيس، وتم وضع دستور في مناخ استقطابي حاد، وسيطر المنتمون لتيار الإسلام السياسي علي نصيب الأسد في تشكيل الجمعية التأسيسية، وصدر دستور 2012، وسط معارضة التيار المدني وعدد كبير من فئات المجتمع، التي رأت أن هذا الدستور لا يصب في صالح مدنية الدولة، وكان هذا الدستور واحداً من الأسباب الرئيسية التي عجلت بإنتهاء حكم الإخوان، حيث ثار الشعب ثانية في 30 يونيو، وتم عزل الرئيس السابق د. محمد مرسي في 3 يوليو، وإعلان خارطة للطريق تتضمن تعطيل دستور 2012، وتشكيل لجنة من خمسين من الممثلين لمختلف التيارات والفئات المصرية لوضع دستور للبلاد، وبصرف النظر عن الجدل الدائر حول هل سيتم تعديل أم تغيير الدستور، فإن هناك تخوفات عديدة تجاه الدستور القادم، وهل سيلبي مطالب ثورة 25 يناير و3 يوليو أم لا، لكن ما يطمئن هو وجود شخصيات قادرة بالفعل علي إنجاز دستور يليق بنا وبتضحيات هذا الشعب الممتدة عبر عقود طويلة من أجل حياة ديمقراطية سليمة، قوامها دستور وطني يؤسس لدولة المؤسسات، وأن تكون فيه السيادة للشعب ممارسة لا شعارات.
مش مهم نبقي زي أوروبا، احنا ممكن نفاجئ العالم بحاجة جديدة
ما الذي يريده الناس من الدستور؟
قبل انتخاب محمد مرسي رئيساً، كنت أتحدث مع أصحاب المحال المغلقة في منطقة القصر العيني المغلقة هي الأخري- وأخبرني أحدهم إن أملهم الأخير في الرئيس القادم. لمن يذكر، وقتها تعلق الناس ب"الرئيس القادم"، كأمل ينجيهم مما يسمونه "وقف الحال". هل يذكرنا هذا بالوضع الحالي؟ بأمل الناس في الدستور؟ يبدو التشبيه ملائماً مع فارق واحد: القوي السياسية هي من تراهن علي الدستور. المواطن العادي لا يشغل باله بالدستور، هو يراهن علي الشخصية القوية المركزية الآتية لحكم مصر.
هذا الحكم تعميمي بالطبع، خاصة مع حالة التسيس التي يشهدها الشارع المصري، وانفتاح الشارع علي السياسة لأول مرة بهذا القدر منذ عقود عديدة. يبقي السؤال هنا: لو تم ختيار عينة عشوائية وسؤالها عما تريده من الدستور، ماذا ستكون الإجابة؟
تبدو مني، وهي طالبة ثانوي محجبة، راديكالية جداً ضد الإخوان المسلمين. تطالب بحظر الأحزاب القائمة علي أساس ديني، وخاصة التي ثبت تورطها في جرائم الإرهاب. بدون هذا لن يكون لأي دستور معني ولن يكون هناك عائق أمام الحكم الديني مرة أخري. بخصوص الحريات والمواد العقائدية في الدستور تبدو حاسمة: "المفروض مايبقاش فيه تمييز بين أي مصري ومصري تاني". وماذا لو كان هناك مصريون شيعة أو بهائيون؟ "هما حرين (أحرار)، مادام ما أذوش حد. عبد الناصر مشّي اليهود وراحوا بعد كدا علي إسرائيل". ولكن هل تقبل مني أن يكون رئيس مصر مسيحياً. ترد: "إيه المشكلة؟ هو مش مصري؟"
بائع ملابس يبدو أقل حسماً منها في موضوع الحريات العقائدية. رأيه أن الحظر لابد أن يسري علي جماعة الإخوان المسلمين فقط، وليس علي السلفيين مثلا، لأن الإخوان أثبتوا فشلهم مرة تلو الأخري كما كذبوا علي الجماهير، وهو ما لم يفعله السلفيون مثلاً حتي الآن.
ولكن السلفيين ظلوا حلفاء للإخوان علي مدار حكمهم؟
صحيح، من برر منهم جرائمهم يحاسب، ولكن الخوف أن يُعتقل أي أحد يطيل ذقنه مثلاً.
الشيء الآخر الذي يطالب به أن يضمن الدستور حقوق "الغلابة"، بمعني ألا يسمح لأحد أن يكون ثروة بينما هناك ناس "مش عارفين يأكّلوا عيالهم"، هذا سيحدث عبر مشاريع التنمية، في رأيه، لو كان هناك مشاريع تنمية في الصعيد أو في سيناء لم يكن سيأتي ليبيع الملابس في القاهرة. يشير إلي المظاهرات المتعددة التي تحدث هذه الأيام: "لو كل الناس ضمنت تاكل وتشرب مش هتلاقي حد متضايق ولا حد نازل يعمل إضرابات ولا اعتصامات".
هناك أيضاً ذلك الحس الشعبي بالدعابة، والذي لا يمكن معرفة نسبة ما يحتويه من الجد إلي نسبة ما يحتويه من الهزل. محمد رأفت، طالب هندسة، يقول إنه يؤيد عدم تجريم الحشيش. "ممكن يبقي مكسب لينا ويوفر لنا دخل اقتصادي، وبعدين إيه الفرق بينه وبين الخمور؟". الشيء الآخر هو الحد الأقصي للأجور: "مينفعش نتكلم عن الحد الأدني للأجور ومفيش حد أقصي. طيب هيجيبوا فلوس منين؟".

قبل انتخاب رئيس، انتشرت ملصقات فارغة في وسط البلد مكتوب عليها "لو كنت رئيس"، وتحتها مساحة فارغة، بحيث تسمح لكل مواطن أن يكتب ماذا كان سيفعل لو كان هو رئيس الجمهورية. كتب واحد: "كنت لغيت كل الامتحانات. قفلت ميدان التحرير. كنت فتحت ميدان التحرير بعد ما قفلته. كنت خليت هيفا ونانسي ياخدوا الجنسية عشان يبقالي دية". شيء مثل هذا يحدث هنا. طلبات تبدو لا معقولة من الناس تجاه الدستور، ولكنها في النهاية تعني شيئاً. زينب محمد، أم تصطحب أولادها، تقول إن علي الدستور أن يهتم بحقوق ربة المنزل. علي الدولة أن تقدم راتباً لربة المنزل إذا كانت تخدم المجتمع كما يقولون: "الدستور بيناقش حاجات غريبة، مش بنقول حاجات مش مهمة، لكن مش بتلمس الناس". بالنسبة لدستور الإخوان الماضي فهي سمعت كلاماً عنه، ولكنها لم تقرأه. سمعت مثلاً إنه يجعل كل شيء في يد الإخوان والسلفيين: "دا مش عدل، لانهم كانوا فاكرين نفسهم لوحدهم في البلد، وكانوا فاكرين نفسهم لوحدهم المسلمين، وعشان كدا وقعوا، ودي حاجة من عند ربنا، إنك مينفعش تحكم البلد دي لوحدك".
شاب يرتدي تي شيرت ويطيل شعره يقول إن علي الدستور أن يجعل المواطنة هي أول اهتماماته: "فيه مواد بتاعة الشريعة، انا بسأل ليه هي موجودة؟ لما نحط بدالها مادة تقول أي حد عاوز يحتكم لشريعة معينة يحتكم ليها مادام مابيضرش غيره"، تبدو هوية مصر فكرة شاغلة له. "الدستور لازم يحط شكل الحكم في مصر عامل ازاي. مصر لازم تبقي دولة بنظام رئاسي برلماني. مش مهم مصر تبقي زي أوروبا ولا زي تركيا. احنا ممكن نعمل حاجة جديدة نفاجئ بيها العالم، زي ما فاجئناه قبل كدا في الثورة".
هاني صفوت، يقول إن علي الدستور أن يحرص علي عدم التمييز بين المواطنين، وأن يشير إلي أن مصر دولة حديثة. "لو ذكرت موضوع الدولة الحديثة في الدستور فسوف نستطيع أن نكسب معركة الدستور، لأن هناك من يريدون لمصر أن تكون جزءا من القرون الوسطي وليست جزءاً من العالم الآن.". بالإضافة لذلك، فالثقافة لابد أن تكون موجودة في الدستور. لابد من تشجيع الشباب علي التفكير وعلي التعلم، لأنه بدون هذ فسوف يكون الشباب عرضة للتطرف في أي مرحلة من مراحل حياتهم.
صاحب مقهي في منطقة عابدين ينظر لي باستهانة وأنا أحدثه عن الدستور. بالنسبة له فكل الكلام عن الدستور الآن هو كلام سياسيين لا يهتمون بإيصال أفكارهم للناس. تأتي الزبائن إلي مقهاه ثم يبدأون في الجري حين اقتراب ميعاد الحظر، وعمال المقهي أيضاً يريدون اللحاق بالمواصلات ليصلوا بيوتهم قبل الحظر، وهو ما يتسبب في خسارة فادحة له. يختم كلامه بجملة معبرة: "مش لما الناس تعرف تمشي في الشارع الأول نبقي نتكلم عن الدستور؟!".
موضوعات التعبير كما يكتبها البالغون
دستور علي نفسك يا أخ!
وكأن الدستور وصفة تتولي إعدادها لنا ساحرة طيبة، بمجرد الانتهاء منها وحفظ نسخة في مكان آمن وتوزيع مستنسخات علي المواطنين، فإن حياتنا ستنقلب في اليوم التالي مباشرة، تغادرنا المشاكل والمعوقات.. يختفي الفساد، تتحقق العدالة الاجتماعية، يسود الأمن والأمان ربوع البلاد، تفهم كل سلطة ما لها وما عليها فلا تبغي إحداها علي الأخري.
أليست مفارقة أننا دوماً في بلاد العرب نفخر بأن أول دستور في العالم نص علي حقوق الإنسان هو الوثيقة التي كتبها الرسول محمد (صلي الله عليه وسلم) بعد الانتقال من مكة إلي المدينة، رغم ذلك فإن تلك الحقوق تكاد تكون معدومة تماماً في كل البلاد العربية والإسلامية، ألا يعني هذا أننا لا نؤمن من الأساس بالفكرة، لكننا فقط نساير نظماً وتقاليد سياسية استقرت في العالم.. من حيث الشكل نحن سباقون في مهر الاتفاقات والقوانين، في التوقيع علي المعاهدات التي تنص علي المبادئ السامية، والتي نؤكد طوال الوقت أنها لا تخالف ديننا الحنيف، بل علي العكس ليس فيها جديد بالنسبة لنا، ما المانع أن ننضم لتنظيمات تدافع عن حقوق المرأة والأقليات، هذا في الأساس جزء أصيل من تراثنا وإذا كان الغرب قد استوعب أهمية هذه الحقوق الآن، فنحن لدينا نصوص مقدسة أقدم من تاريخهم ذاته تقول المعني نفسه وبعبارات محكمة ولغة بسيطة مباشرة ومعجزة في الوقت ذاته.
الوصفة السحرية للدستور الجيد: ضع المبادئ المناسبة التي لن يعترض عليها أحد، الحق في السكن والعمل وحرية التنقل والتعبير عن الرأي وخلافه. صياغة لغوية فخمة، كلمات كثيرة عن الأمة والوطن والمجتمع، نصوص مهيبة عن الأرض والسماء والبحار والحدود. اخلط المقادير مرة واثنتين ثم زف البشري للناس بأنك جئت بما لم يأت به أحد من قبل. شئ بقدرته تحقيق سعادة طالما حلموا بها، النسخة التي تملكها تحمل من السحر ما يكفي لذلك، وليس مطلوباً منهم إلا الإيمان بها والتهليل لها لتؤتي أثرها.
ما الذي يعنيه الدستور حقيقة؟ نعرف أنه القانون الأرفع والأسمي في أي دولة.. لا نص (إنساني) آخر أعلي منه، حتي أجمل الروايات والأشعار وأذكي النظريات العلمية لا يمكنها الدخول في منافسة مع "الدستور" حول رفعة المكانة، هذا علي الأقل ما نفهمه من قراءة الشروحات والمفاهيم التي يقدمها لنا الفقهاء الدستوريون والمفكرون. القوانين جميعها لا بد لها أن تهتدي بالدستور فلا تخالفه، وهذه الوثيقة هي أيضاً التي تحدد اختصاصات السلطات المختلفة ومجالات عملها، والشكل القانوني الذي يسيرها.
لكن هناك قاعدة أساسية وسابقة علي هذا كله، هذا السيد الدستور لا يأتي من فراغ، ولا يتنزل علي جماعة من السماء يأمرهم باتباعه، هو نص اكتسب قداسته باتفاق فئات المجتمع وأطيافه المختلفة.. نقدسه لأن حياتنا وأمورنا لن تسير إلا بدونه، لهذا فالمفترض أن تعديله وتبديله من الأمور الصعبة، يتطلب ذلك إجراءات خاصة واستثنائية، بالطبع هذه قاعدة نظرية، تثبت الوقائع المختلفة أنها ليست حقيقية.. في سوريا كانت هناك حالة خرق صارخة ليس لأجل الشعب بالطبع وإنما لتفصيل مادة تناسب بشار، لتواصل سلالة الأسد طغيانها، وفي مصر تم هذا في عهد مبارك سواء لمد فترة حكمه أو لمحاولة فتح الباب أمام نجله لتولي المنصب خلفاً له، وفي طول البلاد العربية والإسلامية وعرضها نجد نماذج تدلل بوضوح علي أن المقدس ليس هكذا بالفعل، هو هكذا فقط عندما يلبي للسلطة رغباتها في المزيد من التضييق والاستئثار بالمناصب، والمحكمة الدستورية لا تملك من القوة الدفاع عما انشئت خصيصاً من أجله إلا إن كانت مدعومة بسلطة أخري، أي أن الهدف المبدئي والأساسي الذي كتبنا من أجله الدستور وهللنا له لم يتحقق: احترام القواعد الدستورية، الفصل بين السلطات، عدم جواز التعديل إلا وفق المصلحة العامة وبإجراءات خاصة.
إنما حسناً، ما فات قد راح لحال سبيله، ولسنا في حاجة لنبش الماضي وإلقاء تبعاته علي الحاضر والمستقبل، الآن زمن مختلف نحترم فيه القوانين والحريات والدستور بالتأكيد، التجربة السابقة علمتنا أننا ومعنا مصر التاريخ والجغرافيا معرضون للضياع بدونه. بالطبع مفردة "السابقة" هنا ستكون محل خلاف، هل تعتبر أن مرسي وجماعته ودستورهم مرحلة انقضت بشرها و(شرها)! أم ما زلت تعيش في وهم أنهم جزء فاعل من المجتمع وسيعود للتأثير فيه؟ ليس هذا سؤالاً يتعلق بفزورة 2013 المصرية: انقلاب أم ثورة؟ إنما يتعلق بكيفية تعاملنا مع الدستور ونظرتنا إليه، كيف؟ كلنا نذكر قصة الدستور الإخواني: مرسي استأجر خبيراً دستورياً، وذلك الخبير استعان بعدد من الكتبة لإنجاز المهمة، كتب اولئك الرجال في سهرة واحدة دستوراً، وفي الصباح ذهب مرسي ليتسلم نسخة منه ومنح الأسطي المشرف علي الورشة ما يستحق من ثناء، وأقاموا احتفالاً بالمناسبة.
ورغم الانتقادات التي وجهت لتلك اللجنة فإنها لم تفعل في الواقع سوي التعبير بصراحة ووضوح عن تاريخنا الملعون، مرسي والغرياني والإخوان كانوا صادقين في سعادتهم بذلك الكتيب في أيديهم، لأنهم، مثلنا، لا يعرفون ما الذي يعنيه الدستور بالفعل، لذا لم يفعلوا سوي ما تربينا عليه ونعرفه جميعاً.. الدستور موضوع تعبير له مقدمة وخاتمة، مثل الرسائل التي كنا نتعلم كيف نكتبها: "يطيب لي..." هذه تصلح كمفتتح للرسالة، وفي النهاية.. "أتمني لكم.."، أو "مع وافر الاحترام..". ماذا بين الجملتين؟ ما يعن لك علي ألا يخالف السائد، مقدمة وديباجة وخاتمة. شكل لا أكثر. ودستور الغرياني التزم بالقواعد لهذا لم يفهم هو ورجاله أسباب الاعتراض، ولم يملك أحدهم الجرأة ليسأل: ومنذ متي كان للدساتير عندنا قيمة.. انتم بتستعبطوا؟!
لم يكن الخلاف مع الغرياني وكتبته علي ما دونوه، الخلاف كان علي شخوصهم، موضوع التعبير الخاص بكم سييء لأننا لا نحبكم ولا نريدكم، لكن بعد ذهابكم سننظر في الموضوع الذي كتبتموه وسنقوم بتعديله، لماذا نتعب أنفسنا بكتابة موضوع جديد طالما النجاح مضمون والمادة لن تضاف درجاتها للمجموع النهائي.
ما تفعله لجنة الخمسين اسمه في لغة الصحافة، لمن لا يعرف، "الديسك"، يأتي لك محرر مبتديء بموضوع صحفي تقوم أنت بتهيئته ليناسب قواعد النشر، تضيف إليه قليلاً، بعض الجمل، عناوين ساخنة، وبعدها يتم نشره باسم صاحبه ولا يذكرك أنت أحد.. هذا ما تفعله لجنة الخمسين تقوم ب "تدسيك" دستور الغرياني ليناسب قواعدنا القديمة والمتعارف عليها، هكذا سيكون لدينا موضوع تعبير، آسف.. دستور نفخر به.. بمقدمة وديباجة وخاتمة، نصوص معتبرة تحمي وتصون الحريات وتساعدنا علي التقدم والنهوض.. بالطبع ستنجح لجنة الخمسين في مهمتها، ليس هناك عند (العرب) أيسر من كتابة دستور، وقبل نظمه مضمون أن يكون: تاريخياً، غير مسبوق في تأكيده علي احترام الحريات، هل هناك دستور في العالم العربي لا يحمي ويصون الحريات ويمنح أفراده الفرص متساوية؟ كل دساتيرنا العربية رائعة ومهيبة يقشعر البدن وتدمع العيون من فرط إنسانيتها. هل هناك مثلاً دستور عربي يقول إننا سنمنع المفكرين من قول ما يريدون بشجاعة، هل هناك دستور يقول إننا سنلقي بالمعارضين في السجون، أو ننظم لهم حفلات تعذيب، هل هناك مادة في أي دستور عربي تفيد بأن البلاد ملك حكامها وأن الشعوب عبيد لذوي النفوذ، طيب هل لدينا دستور واحد يشير ولو من بعيد إلي أن الدول العربية والإسلامية حرة من حيث الشكل إنما في حقيقتها ألعوبة في يد الغرب! أكيد لا، سيكون هذا جنوناً ولن يوافق عليه أحد، شعوباً وحكاماً، الأفضل للكل أن نكتب الصواب ونمارس الخطأ، بالضبط كما يطلب المدرس من تلاميذه الكتابة عن ضرورة النظافة، وجمال بلادنا، من سيكتب أن شوارعنا مليئة بتلال القمامة؟
في الفترة الماضية كنت أقرأ عن ظروف كتابة الدستور الأمريكي، تجربة شيقة بالفعل، بداية من اختيار الأعضاء، وكيفية كتابة الدستور، والأهم طريقة عرض المواد علي الشعب، فقد أسست اللجنة مجلة خاصة لهذه المهمة لشرح ما تقوم به، عملية معقدة الإطلاع علي تفاصيلها يقرب المسألة إلي أذهاننا عن الفرق بين الدساتير وبين الكتيبات والمنشورات التي ينبغي اعتقالها بتهمة انتحال صفة "دستور". وربما هذا ما يصنع لكلمات ما قوة علي الأرض فتصبح دستوراً ينبغي احترامه بالفعل والالتزام بقواعده، وتجد من يدافع عن وجودها وتحققها علي الأرض، وبين كلمات أخري تتصنع المهابة. إنما.. لا بأس، ربنا يكتر من دساتيركم يمكن واحد منها في يوم يصيب.
دستور يكتبه الشعراء .. وليه لأ؟
البداية كانت من صفحة صبري فواز!
وفواز ممثل معروف، أو علي حد تعبيره المفضل مشخصاتي، لكنه في الوقت نفسه شاعر، يمكنه أن يحتل مقعدا في الصف الأول للشعراء لو أنه كتب بنصف موهبة ونصف تفرغ، لكنه فضل أن يحتل مقعد الضيف كلما زار مدينة الشعراء.
الشاعر داخل صبري فواز هو الذي التقط المفارقة، فسيد حجاب، العضو البارز في لجنة الخمسين لكتابة الدستور المصري هو نفسه الشاعر الذي كتب جملة تصلح أن تكون أهم مادة في أي دستور في العالم:
مين اللي قال الدنيا دي وسية
فيها عبيد مناكيد وفيها السيد؟
سوانا رب الناس سواسية
لا حد فينا يزيد ولا يخس إيد
صبري كتب علي صفحته بموقع فيسبوك أن مهمة سيد حجاب الوحيدة، والتي ستكون إنجازا كبيرا، هي أن يعمل علي أن تكون هذه الجملة هي المادة الخام للدستور.
هذا الأمر، المفارقة واكتشافها وتسجيلها، هو امتداد لجدل دائر منذ سنوات وربما قرون، حول دور الفن والفنانين وفي القلب منهم الشعراء في صياغة المفاهيم السياسية، أو بالأحري جوهر هذه المفاهيم، وهل هذا ضروري أم أنه غير ضروري أو أنه يضر بالشعر وبالسياسة.
هذا الجدل ظهر منذ وقت طويل، ربما بداية من السبعينيات علي مستوي مصر والعالم العربي. حين سرت بين الأدباء نغمة معترضة علي جيل الستينيات من الشعراء، واهتماهم ب"الشأن العام" و"الأيدلوجيا"، وعبر عقد الثمثانينيات كان السائد أن "طبيعة" الشعر تتعارض مع مواكبة الحدث السياسي. وبالطبع كان هناك هجوم وتجاهل وتجهيل متعمد بين الشعراء لطائفة كبيرة ومهمة من الشعر العربي الحديث، قصائد كتبها أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، والأبنودي وصلاح جاهين وسيد حجاب، وغيرهم كثيرون، تم اعتبارها عبئا علي الشعر، لأنها تهتم بمتغيرات السياسة وتوابعها الأيدلوجية، وانحيازاتها ذات الطابع الذهني.
في التسعينيات، تصاعدت حدة الاستبعاد، وظهرت الحركات الشعرية القائمة بالأساس علي معارضة تجاوز الذات في القصيدة إلي أبعد من الحدود النفسية، وتعمدت الدوريات الشعرية عدم نشر أي قصائد تقترب من قاموس "الوطن" أو "الناس" أو "الكفاح" أو أ من مفردات السياسة، وسادت تعبيرات مثل "الحنجوري" و"زجلية الشعر" و"المباشرة"، ومطالبات بالكف عن محاولة الحديث عن التغيير في الشعر استنادا إلي القول بأن الشعر يفتقد للقدرة علي التغيير، وأن الشاعر لا ينبغي أن يبحث عن القيادة أو التدريس، وإنما الشاعر هو الصديق.
واستمر هذا الأمر حتي ظهر "جيل التغيير" في منتصف العقد الأول من القرن الجديد، الذي هو بالصدفة بداية لألفية جديدة. فمع ظهور حركة كفاية وغيرها من الحركات، تم استدعاء التراث المغضوب عليه فنيا، ليواكب عملية "التثوير" التي سادت المجتمع، وهكذا عاد للساحة نجم وجاهين ودنقل والأبنودي وحجاب بعد سنوات طوال من التهميش المتعمد، لم يتم استدعاؤهم كقصائد قديمة فقط، بل إن من بقي منهم علي قيد الحياة عاد ليكتب الشعر مرة أخري بعد عقود من التوقف، بغض النظر عن مستوي القصائد التي كتبوها.
قد يفهم من هذه السردية أنها تستهدف الدفاع عن هذا اللون من الكتابة والرغبة في استبعاد مضاد لما يمكن أن نسميه "قصائد الذات"، غير أن هذا غير مقصود بالمرة، وغير مرغوب فيه، نحن فقط نود الإشارة إلي، والإصرار علي، أن الكتابة ليس لها شكل واضح محدد، ليس لها "مازورة" من يلتزم بها يصبح أديبا، أو شاعرا، ومن يخالفها يستحق لعنات ربة الشعر وآلهة القصائد.
الشعر مدينة لها ألف باب، وقصائد إيمان مرسال وعماد أبو صالح وإبراهيم داوود لا تقل ولا تزيد عن بوابة جاهين والأبنودي وحجاب لمجرد شكل الكتابة، أو موضوع القصيدة، نحن فقط نبحث عما يشبهنا ويريحنا ونتبناه.
المؤسف في الأمر أن الاستبعاد من داخل البيت الشعري واكبه استبعاد آخر من الساسة أنفسهم، أو من أنصار الشأن العام، ففي الوقت الذي غضب فيه الشعراء علي الشعراء المهتمين بالشأن العام، غضب فيه أرباب الشأن العام من تدخلات الشعراء، وأصبح السائد أن النظرة الشعرية تفسد "الواقعية" التي يجب أن تتسم بها السياسة، وبعد أن كان الشعراء من أول العقاد وحتي صلاح عبد الصبور لهم دور في العملية السياسية، سواء من خلال إدارة أجهزة الدولة، أو عضوية البرلمان أو غيره، جري استبعاد الشعر، وربما الأدب، والثقافة كلها من العملية السياسية ومن الشأن العام كله.
ظهر هذا واضحا أثناء استماع لجنة الخمسين للفنانين، حيث اجتاح مواقع التواصل الاجتماعي اعتراض علي ظهور الفن والأدب والثقافة علي هذا النحو، وأن هذا يعتبر مضيعة للوقت والجهد والمال في حين أن الأولي هو الاستماع إلي رجال السياسة والاقتصاد، ووصل الأمر إلي الاعتراض علي وجود المبدعين والمثقفين في لجنة الخمسين من أساسه، رغم أنهم لا يتجاوزون 6٪ من أعضاء اللجنة، والشعر يحتل 2٪ من خلال عضوية العم الطيب سيد حجاب!
بالطبع قد يكون هناك أداء ما من الشعراء أنفسهم أدي إلي ظهور هذا، أو إلي تمكنه، غير أن الواقع يقول إن هذا الاستبعاد التام والهجوم الزؤام غير مبررين، ويدلان علي وجود رغبة مسبقة في استبعاد الفن والثقافة نتيجة رؤية بسيطة وواضحة تقول إن الثقافة والفن والشعر والإبداع .. كلام فارغ. والآن، نحن نقدم هذه المحاولة لكسر هذا الخصام.
الشعر بإمكانه أن يقول، وأن يقدم رؤية، والشعراء بإمكانهم كتابة الدستور، نعرف بالطبع أنه يحتاج بعدها لصياغة القانونين، فلا أحد يمكنه الانفراد بالعمل، ولا يجوز حذف طرف من أطراف المعادلة، لأن هذا الحذف هو الذي يجعل الميزان في النهاية مختلا.
من دواوين الشعراء استخرجنا الأبيات من القصائد، واخترنا ما يقدم رؤية أو مطالب أو أحلام بشأن مواد الدستور التي نتبناها بداية من اسم البلد ونهاية بحقوق العمال ودفع الضرائب، مع الأخذ في الاعتبار أننا لم نتدخل بالتصرف في الأبيات إلا في أضيق الحدود.
وما نقدمه هنا ليس دستورا بمعني الكلمة، ونعرف أن هناك اختلافا حول الكثير من المفاهيم، كما أن هناك خلافا أكبر حول مستوي الأشعار المقدمة، أو فلنقل بعضها، إضافة إلي الحديث عن نزع بعض الأشعار من سياقها أو زمنها، وكل هذه اعتبارات مشروعة، وإن كانت لا تمنع المحاولة، محاولة التفتيش في الشعر عن صوت الضمير لاعتبارات تخدم هذا السياق الذي نتحدث عنه، ولا تتجاوزه. إنها محاولة أولي، وليست قولا فصلا، ولا رغبة في تفضيلات سياسية أو فكرية بعينها
وبالمناسبة، فإن رحلة البحث كانت مدهشة، بغض النظر عن الهدف الرئيس للتفتيش في الدواوين، فقد وجدنا أن كثيرا مما كتبه شعراؤنا في عقود سابقة، يتماس مباشرة مع اللحظة الراهنة، لا نستطيع أن نقول إنها نبوءات بمعني ما، بقدر ما هو تعبير عن أن مشكلاتنا باقية كما هي منذ عقود، وأن الشعراء هم من يرصدونها بهذا العمق، فالشعر مازال قادرا علي أن يلعب دور الضمير .. أحيانا.
الباب الأول
الدولة وهويتها وأمنها القومي
مادة1
اسم الدولة
علي اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء
أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء
صلاح جاهين
مادة2:
هوية الدولة
النيل بيجري ولا مابيجريش
النيل بيجري والعجل بيدور
والفجر طالع بالصنايعية
ومصر لازم تبقي مصرية
وكل كلمة تقولها أغنية
وكل أمنية وأمل دستور
فؤاد حداد
مادة3:
البعد العربي
عرب اللي دايب من أمل وحنان
كل الشوارع تعرفه والدور
ألفين سلام مطرح ما عينه تدور
قال كلنا نحب الوطن يا ولادي
أنا كنت بحلم بالنهار دا الليلة دي
صبحت بلادي بلادي
وأنتوا المغنيين وأنا الجمهور
فؤاد حداد
مادة4
العاصمة
هنا أنت في مصر
أنت في القاهرة
أنت في بيتك
في ملاعب طفولتك
أنت مع نفسك
ومع الذين سيبدأون الغناء معك
إبراهيم داوود
مادة5
حول الأراضي المصرية
"ورثناهن عن آباء صدق
ونورثهن إن متنا بنينا
ونحمي أرضنا حقا وصدقا
نحاذر أن تقسم أو تهونا
عمرو بن كلثوم
مادة6
التحالف الشعبي
يعيش أهل بلدي
وبينهم ما فيش
تعارف
يخلي التحالف يعيش
تعيش كل طايفه
من التانيه خايفه
وتنزل ستاير بداير وشيش
لكن في الموالد
يا شعبي يا خالد
بنتلم صحبة
ونهتف .. يعيش
أحمد فؤاد نجم
الباب الثاني
الحريات
مادة7
سيادة القانون ومبادئ أساسية
في بلد لا يحكم فيه القانون
يمضي فيه الناس إلي السجن بمحض الصدفة
لا يوجد مستقبل
في بلد يتمدد فيه الفقر
كما يتمدد ثعبان في الرمل
لا يوجد مستقبل
في بلد تتعري فيه المرأة كي تأكل
لا يوجد مستقبل
صلاح عبد الصبور
مادة8
حرية العقيدة
ديني لنفسي ودين الناس للناس
الحلاج
مادة9
الحريات العامة
أنا مش تبع مخلوق
يا سيدنا البيه
أنا حر
ف اللي يقول ضميري عليه
صلاح جاهين
مادة10
حرية الرأي
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
المتنبي
مادة11
حرية التعبير
خلي الكلام ياخد براحه يا خال
ما تقولشي حرية وأنا صوتي مش صوتي
وابقي جاوبني لما يفلت سؤال
بدال ما تكرهني وتناور علي موتي
الأبنودي
مادة12
عدم التمييز
مين اللي قال الدنيا دي وسية
فيها عبيد مناكيد وفيها السيد؟
سوانا رب الناس سواسية
لا حد فينا يزيد ولا يخس إيد
سيد حجاب
مادة13
ضد العنصرية
افتح قلبك مرة
للأسمر والسمرا
ليه نضحك علي بعضينا
ده الكون جوانا وفينا
يضحك لكن بإيدينا
عصام عبد الله
مادة14
المرأة
البنت زي الولد
ماهيش كمالة عدد
في الاحتمال والجلد
مذكورة في المعجزات
صلاح جاهين
مادة15
دور المرأة في المجتمع
غلبت اقول للرجال خلوا المره حره
تخش رخره المجال تفهم و تتدري
العاقله بنت الحلال ما يضرهاش بره
مادة16
ضد النفي
كل دار أحق بالأهل إلا
في خبيث من المذاهب رجس
أحمد شوقي
مادة17
ضد التعذيب
أنا كل يوم أسمع فلان عذبوه
ما أعجبش م اللي يطيق بجسمه العذاب
وأعجب من اللي يطيق يعذب أخوه
جاهين
الباب الثالث
نظام الحكم
مادة18
مبادئ أساسية
لا تسألني إن كان القرآن
مخلوقا أم أزلي
بل سلني إن كان السلطان
لصا أم نصف نبي
أمل دنقل
مادة19
طبيعة الحكم
"الحُكم يسر والرئاسة مدتا
ن .. الأمر شوري والحقوق قضاء"
أحمد شوقي» بتصرف يسير «
مادة20
مواصفات رئيس الجمهورية
فاجومي من جنسنا
من ضلعنا نابت
لا من سماهم وقع
ولا من مرة شابت
ولا انخسف له القمر
ولا النجوم خابت
ولا يطاطيش للعدا
مهما السهام صابت
أحمد فؤاد نجم
مادة21
يمكن خلع الحاكم، إذا:
إذا أعطيت ملكا فلم تحسن سياسته
كذاك من لا يسوس الملك يخلعه
ابن زريق
مادة22
القوات المسلحة والعلاقات الدولية
عواطفنا الدولية
لسلام البشرية
وجيوشنا نسلحها
لحماية البشرية
مأمون الشناوي
الباب الرابع
حقوق وواجبات المواطنين وشروط المصالحة
مادة23
مبادئ أساسية
مصر الغلابة اللي بتخلق مصر
وإذا كان صحيح لعصرنا أصوات
يبقي الغلابة هم صوت العصر
الأبنودي
مادة24
يعمل الحاكم علي تحقيق القول:
واقطع لكم لحم كتافي
وأبيع هدومي ولحافي
ولا اشوفش جايع ولا حافي
يغمني و يبكيني
بيرم التونسي
مادة25
طوائف المجتمع
الحدادين نافخين معاي الكور
والخبازين قايدين معاي الفرن
أخبز لكل الناس عشا وفطور
والفلاحين ماليين معاي الجرن
داقين في قلبي السبع والعصفور
منورين المونة والمعجنة
فؤاد حداد
مادة26
الفلاح
من أول ما صبحت صباحها
ألم جراحها
أزحزح طوبة من مطرحها
ألف وأقول
سر الأرض عرق فلاحها
فؤاد حداد
مادة27
العامل
ليه أمشي حافي
وانا منبت مراكيبكم
ليه فرشي عريان
وانا منجد مراتبكم
ليه بيتي خربان
وانا نجار دواليبكم
بيرم التونسي
مادة28
المصالحة الوطنية وشروطها
الرحاية تلف لفة
تتنصب للحلم الزفة
الرحاية تدش قمحة
ينخبز علي نار جبينك
ميت رغيف
يا أبو روح دايما مسامحة
لما باب الظلم يفتح
ينقفل باب المصالحة
صبري فواز
مادة29
التاجر والضرائب
يسرني و يهنيني
أدفع ضرايب علي عيني
أدفع ألوفي و ملاييني
لكن تعالوا حاسبوني
أكون سعيد و أكون شافع
لو تتصرف علي شيء نافع
مثلاً مصانع و مدافع
ولا علي القصر العيني
بيرم التونسي
مادة30
دور المجتمع المدني
وإنْ هو حَلَّ أرضاً قام فيها
جِدارٌ للحضارة أَو دِعام
فمدرسة لحرب الجهل تبني
ومستشفي يذادُ به السقام
ودارٌ يُستَغاثُ بها فَيَمضي
إلي الإسعافِ أنجادٌ كرامُ
أحمد شوقي
الوطن قبل أي شيء
أعضاء لجنة الخمسين.. وجوه الثورة
تشكيل لجنة الخمسين في عهد الرئيس المعزول كان بداية الكوارث التي حلت بمصر علي مدار عام كامل، أصبح بمثابة الكابوس الطويل الذي لن نفيق منه إلا علي مأساة وهو ما تحقق بالفعل. تأسيسية المستشار حسام الغرياني كرست لتدخل الإخوان وهيمنتهم علي مقدرات الدولة، فالدستور الذي تم سلقه علي مرأي ومسمع من الجميع كان لجماعة معينة تكره وطنها وتتعالي عليه، وتتعامل باعتباره عزبة أو أبعدية لها، ولمندوبها في القصر الرئاسي.
كان وجود الأحزاب المدنية، علي قلتها، والتي انسحب ممثلوها تباعاً من اللجنة، مجرد ديكور، وكانت المناقشات الحامية، أو التي حاولوا تصويرها فيما بعد، بين ممثلي الأحزاب الدينية، مجرد تمثيلية، لإيهامنا أن هناك مناقشات من الأساس، فكل شيء كان يتم تدبيره بليل، في مكتب الإرشاد بالمقطم، وعبر ترزيته، ومستشاريه في القضاء، الذين باعوا ضمائرهم وأنفسهم بتبعيتهم للجماعة، كما ترك المجلس العسكري السابق الأمور علي عواهنها، واستجاب لضغط الجماعة التي أوحت له أنها ستبطش بالشارع في حال عدم تحقيق أوامرها، وعبر ممثله في لجنة الدستور السابقة، اللواء ممدوح شاهين، تمت الصفقة، التي كرست للحكم الإخواني الفاشي.
كانت وجوه الإخوان والسلفيين وممثلي الجماعة الإسلامية تشي بما ينتظر مصر خلال عام أجهز فيه الإخوان علي الأخضر واليابس، وجوه تنتمي إلي العصور الوسطي، وترغب في الهدم أكثر من البناء، ولكن فيما يتعلق باللجنة الجديدة، وبغض النظر عن المناقشات التي تجري حالياً، والاختلافات الكبري في وجهات النظر، فإن معظم أعضائها لهم باع طويل في النضال، وفي البناء.
وعلي سبيل المثال هناك الدكتور مجدي يعقوب، الجراح العالمي، الذي عاد إلي الوطن خصيصاً من أجل أن يسهم في علاج المصريين الذين تعبت أفئدتهم من الحكم الديكتاتوري والفاشي المتوالي، وأنشأ مستشفي عالمياً في أسوان بالمجان للغلابة العاجزين عن توفير ثمن العلاج لأبنائهم، وهو وجه لا يمكن أن يختلف عليه إثنان، فالرجل أثبت أن الإنسان لا يستمد عظمته بمزيد من التوسع في الشهرة والمال، وإنما بتقديم يد العون إلي من يحتاجها، وهناك الناشط السيناوي، والروائي مسعد أبوفجر، الذي عمل طوال سنوات علي نشر الوعي بين أبناء سيناء، وندد بالدولة الأمنية القمعية، وما يزال، في علاقاتها وتعاملاتها مع أهالي سيناء، ودفع ثمناً فادحاً، حيث تم اعتقاله، وخرج أكثر قوة مما كان وما زال يمارس رسالته عبر كتاباته ونشاطاته المختلفة، وهو إضافة حقيقية للجنة، وما ينطبق عليه ينطبق أيضاً علي الناشط النوبي الروائي حجاج أدول، الذي تحمل لسنوات طويلة وخصوصاً في عهد الرئيس المخلوع، تهماً بالعمالة، ومحاولة استعداء الخارج علي مصر، في الوقت الذي كان يطالب فيه بحقوق جزء من الشعب، يستحق أن يعيش في كرامة، بعدما لاقي من تهجير قسري لعائلاته وتراثه وذاكرته، ولا أحد ينكر أن وجود المثقفين عموماً أعطي ثقلاً هائلاً للجنة، فمن يمكنه الاختلاف علي اسم الفنان التشكيلي محمد عبلة؟ أو الشاعر سيد حجاب؟ علي سبيل المثال؟ وجود المثقفين يعني أن الخيال حاضر، وأن الرغبة في الحياة بحرية وعدالة ستكون علي رأس الأولويات.
هناك أيضاً ممثلة المجلس القومي للمرأة السفيرة ميرفت التلاوي، وهي في كل تصريحاتها تؤكد أنها ستهتم بالدستور كوثيقة هامة لمستقبل مصر، لا لرعاية حقوق المرأة والطفل فقط، وأنها ستركز أيضاً علي كل مواد الدستور الجديد، وليس مواد المرأة، وهي تري أن قضايا التعليم والصحة والفقر والمعاشات والتأمينات كلها قضايا تهم المرأة باعتبارها جزءاً من المجتمع .التلاوي تري كذلك أن الدستور يجب أن يتعامل مع المرأة باعتبارها مواطنة في المجتمع لها كامل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وعليها واجبات ولا يتعامل معها من باب الأمومة والطفولة لأن هذه صفة واحدة فقط في المرأة وليس كل صفاتها، وبالتالي هناك أهمية لتعديل هذا الوضع المقلوب أولاً وبعدها يأتي الحديث عن باقي حقوق المرأة من ناحية التعليم والزواج والصحة والعمل وباقي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وألا يتم التمييز بينها وبين الرجل علي أساس الجنس أو أي شيء آخر.
حتي الدكتور خيري عبد الدايم نقيب الأطباء والمعروف بقربه الشديد من جماعة الإخوان المسلمين والذي كان عضوا أساسيا في الجمعية التأسيسية التي قامت بكتابة دستور "الإخوان والسلفيين" عام 2012 قال إنه ضد "المواد التي صوت ضدها في الجمعية السابقة والتي رأسها المستشار حسام الغرياني مثل مادة العزل، مؤكداً أنها نقطة سوداء في الدستور السابق لأنها تفرض وصاية علي الشعب المصري، كما قال إنه ضد المادة 219 المفسرة للشريعة الإسلامية والتي لا معني لها في ظل وجود المادة الثانية من الدستور والتي تنص علي أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
حسين عبدالرازق ممثل التيار اليساري دائم الحديث عن المشاكل الضخمة في دستور 2012. إنه دستور معيب وسيئ، ولا يعبر عن المصريين، إنما عن جماعة الإخوان المسلمين، ولهذا لابد من إلغائه، بحسب رأيه، وكتابة دستور جديد يليق بالمصريين، وتنوعهم.
الدكتور محمد أبو الغار ممثل التيار الليبرالي، أحد وجوه الثورة، وهو طبيب معروف، ومثقف، وهو يسعي بحسب كل تصريحاته وكتاباته في الصحف إلي التعبير عن أهداف الثورة داخل الدستور الجديد وضمان حقوق المرأة والأقباط والشباب وأهالي المناطق الحدودية كأهالي سيناء والنوبة، هناك أيضاً محمد سامي ممثل التيار القومي المشغول بقضية العدالة الاجتماعية وكيفية تحقيقها في الدستور الجديد، وهو متحمس لفكرة إلزام رئيس الدولة بتحديد موعد إتمام العدالة الاجتماعية من ناحية التعليم والصحة والإسكان والعمل، ومعالجة مواد المرأة والطفل ووضعها في الدستور الجديد.
وهناك ممثلو الشباب، مثل محمود بدر، الذي يعود إليه جزء من الفضل هو وزملاؤه في حركة "تمرد" الذين ابتكروا بخيالهم اللامحدود فكرة الاستمارة التي وقعها الشعب، وجمعوا ملايين منها، لطرد ممثل الإخوان من القصر الرئاسي، ووجود مثل هؤلاء الشباب يعني أننا نسير علي الطريق الصحيح، وأن الشباب الذين كانوا يُذكرون في الخطابات المتيبسة لذيول النظامين البائدين سيكونون فاعلين وحاضرين. إنهم الضمان لعدم تيبُّس عروق اللجنة، وهم القادرون علي تقديم اقتراحات تخص المواطنين لأنهم الأكثر قرباً من الشارع بحكم تحركاتهم فيه قبل 30 يونيو، أما ممثلو النور فإنهم آخر بقايا اللجنة السابقة، وهم امتداد لقصورها ورغبتها في التعطيل وتقديم كراهية الحياة علي الحياة نفسها، وبكل تأكيد مضي الزمن الذي يمكن أن يخضع فيه المصريون للابتزاز، ومن يريد أن يقدم شيئاً فأهلاً وسهلاً، أما الكلام الذي يأتي بهدف إفساد الدستور فلا طائل من ورائه، لأن دستور مصر الجديدة يُكتب ولن يلتفت إلي من يريدون الحياة في الكهوف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.