مع حسين عيد ، إبراهيم أصلان، عبد الحكيم قاسم رغم أن صداقتهما تعود إلي زمن بعيد، إلا أنه لا توجد صورة واحدة تجمع عائد خصباك بسعيد الكفراوي، وقد حضر الروائي العراقي المقيم في ألمانيا إلي القاهرة مؤخراً والتقي صديقه الكاتب المصري، ومع هذا لم يفكرا في الأمر. حينما عدت إلي الكفراوي لأسأله إن كان يمتلك صورة بدا مصدوماً: »مكنش فيه كاميرات زمان، ونسينا نتصوَّر لما كان هنا» وبالطبع لا يتعلق الأمر بالكاميرات لأن خصباك أرسل الكثير من الصور لشلتهما القديمة، يحيي الطاهر عبدالله، وإبراهيم أصلان، وعبدالحكيم قاسم ومحمد البساطي. في عموده الأسبوعي في جريدة الأهرام، كتب الراحل إبراهيم أصلان بتاريخ 31 مايو 2011: »قضيت مع أمل دنقل ومحمد البساطي أياماً هي الأجمل في شقة لا نغادرها، كان قد استأجرها صديقنا الروائي العراقي عائد خصباك»، لكن إبراهيم أصلان فاته سهواً أن يذكر بقية الأسماء التي لطالما اجتمعت في تلك الشقة الصغيرة، وهي غرفة واحدة صغيرة وملحقاتها، فات إبراهيم ذكر سعيد الكفراوي ويحيي الطاهر عبد الله وغالب هلسا وعفيفي مطر، يقول عائد: »هذه الأسماء وغيرها امتلكت جميعها في ذلك الوقت طاقات إضافية ليس علي صعيد الكتابة الابداعية فقط، إنما فيما كان يدور بينها من الجدل والنقاش والشد والجذب وفي الدفاع عن فكرة ما أو رأي بعينه، كان يحيي الطاهر عبد الله أشد تلك الأسماء صخباً وأقلهم هو سعيد الكفراوي، الكفراوي يضع عقله علي راحة يده ويحكّمه في أي قضية، لا يندفع أو يعلو صوته علي الفاضي والمليان، لذلك غالباً ما تكون الآراء التي يصرح بها وسط ذلك الضجيج لا تصدر عن هوي أو بهتان». قبل أن يقرر خصباك، صاحب »الصغار والكبار»، و»المقهي الإسباني» و»سوق هرج» السكن في تلك الشقة بعمارة مجاورة لعمارة يسكن فيها الراحل غالب هلسا، عرف يحيي الطاهر وأمل دنقل، عرفه عليهما سامي خشبة فور أن التقيا نهاية الستينيات، وعفيفي مطر عرفه بسعيد الكفراوي، سأله عفيفي: »هل التقيت بسعيد الكفراوي وهل قرأت له؟» وأجابه عائد: »لا». فقال عفيفي: »يبقي أنت ما كوّنتش فكرة كاملة عن القصة المصرية القصيرة». ومرة سأله إبراهيم منصور: »انت ماتعرفتش بسعيد الكفراوي؟» فقال: »لا.. لسّه»، فقال: »سعيد كاتب قصة قصيرة مختلف عمّن تعرفت إليهم، لا علاقة له بما يكتبه إبراهيم أصلان ولا بقصص يحيي الطاهر ولا بقصص بهاء طاهر»، كما كان لخيري شلبي رأي مشابه حينما عرف أنه لم يلتق بسعيد الكفراوي، فقد أبدي دهشته كما لو أنه ارتكب خطأ وعليه أن يصححه سريعاً. يعلق: »قرأت ما تيسّر لي من قصص سعيد، فأدهشني اهتمامه بالعابرين والغرباء، وأدهشني كذلك اهتمامه بما غير مألوف في تناوله قضايا الخلود». ويحكي: »بعد ظهر يوم جمعة كنا في مقهي ريش، أنا ويحيي الطاهر وإذا به يصيح: أخيرا هلّ العيد علينا. قلت: من ذاك يا يحيي؟ قال: سعيد الكفراوي. تعرفت علي الفتي سعيد ومن أول لحظة شعرت أني أعرفه بل وأعرفه جيداً، وقبل أن يجلس معنا قال يحيي الطاهر: تعال معنا يا سعيد، أصل عائد عنده قصة وأنا اقترحت عليه بعد أن قرأتها أن ينشرها في ملحق المساء عند عبد الفتاح الجمل. قال سعيد: سأذهب معكم ولكن بعد أن أقرأها، ممكن؟ جلس معنا وأنا سلمته القصة وكانت بعنوان »الموقعة» والتي أدرجتها ضمن قصص مجموعتي القصصية الأولي بنفس العنوان، وبعد أن انتهي من قراءتها قال: يلّا بينا، احنا ضروري نلحق عبد الفتاح الجمل في المِسا فوراً». ويري عائد أن عبد الفتاح الجمل لعب دوراً بالغ الأهمية في ظهور جيل الستينات في الرواية والقصة والشعر والفن التشكيلي، فهو الذي رعي هذا الجيل وقدّمه إلي القارئ المصري والعربي فلم تكن هناك إلا منابر قليلة للنشر، مثل مجلة »المجلة» التي رأس تحريرها القاص والروائي يحيي حقي صاحب »قنديل أم هاشم»، وبعض المطبوعات الأخري المحدودة الانتشار، لم تكن هناك منابِر أخري واسعة الانتشار لنشر كتابات الأدباء والمُبدعين في هذه الفترة ظهر عبد الفتاح الجمل مُشرِفاً علي المُلحق الأدبي لجريدة المساء، وكان يصدر في أربع صفحات يوم الأربعاء من كل أسبوع، واستطاع الجمل أن يحوّل مكتبه في الجريدة إلي مصنع للأدباء هدفه الاهتمام بالمواهب الجديدة وتقديمها إلي الجمهور، فكان أول من أعطاهم فرصة النشر في مُلحق نجح في اكتشاف الكنز المخفي من الطاقات الواعِدة. ولو راجعنا هذا المُلحق لوجدنا فيه ليس أهم الكُتّاب وحسب، بل الأغلبية الساحِقة من الأدباء والكُتّاب والشعراء والنقّاد الذين أثروا حياتنا الثقافية علي مدار الخمسين عاماً الأخيرة ومنهم جمال الغيطاني، وقد قال له عبد الفتاح الجمل: »لا أعدك بشيء، فقبلك أكثر من أربعين قصة مرشحة للنشر». يواصل عائد: »بعد أسبوعين، وصل سعيد الكفراوي إلي ريش رافعاً جريدة المساء أمامي قائلاً: لقد نُشرت قصتك في المساء، وأفردها أمامي، لا أنسي فرحته تلك وأنا متأكد لو أن تلك القصة المنشورة كانت له ما فرح تلك الفرحة، وبعد أن جلس قال ما رأيك نمر علي جمال الغيطاني ونخبره عنها ليقرأها؟ قلت لكني لم أعرفه بعد. قال: يالا بينا. وعلي مبعدة أقل من خمس دقائق باتجاه باب اللوق كان جمال جالساً يدخن الشيشة ويقرأ في جريدة، عرفني سعيد به فقام وأخذني إليه وقال: أنا الآن انتهيت من قراءة قصتك، وأخذ يبدي رأيه فيها بالتفصيل». ومرة.. ذهبوا إلي مقهي ريش قبل وصول نجيب محفوظ بساعة، وقادهم الحديث مع آخرين إلي أعماله، وقد رأي أحدهم أن شخصياته هي بقايا فكر بورجوازي، ورأي آخر أنه أديب الطبقة الوسطي وقال آخر إن عالم نجيب محفوظ يشكل سياقاً من العلاقات تجعل منه نصاً متكاملاً، فلا تقرأ رواية “كفاح طيبة” كما لو هي جزيرة معزولة لا علاقة لها ب”بداية ونهاية” و»خان الخليلي» و»زقاق المدق» و»الثلاثية» و»أولاد حارتنا» و»اللص والكلاب» وغيرها فهذه جميعاً تتحرك في نسق واحد. وصل نجيب محفوظ، كما يتذكر عائد، في السادسة بالضبط وبعد ساعة من وصوله مرّت من أمامهم علي الرصيف الفنانة محسنة توفيق، وكانت قادمة من جهة ميدان التحرير، ومحسنة توفيق قد احتلت قبل هذا مكانتها داخل قلوب العرب بشخصية »بهية» في فيلم »العصفور» للمخرج يوسف شاهين، التي لم تكن بعيدة عن شخصيتها الحقيقية والتي توصف بالثورية والمناضلة فقد اعتقلت في عهد الرئيس عبد الناصر مع من اُعتقل من المفكرين والكتاب اليساريين، ولطالما صرحت أن الثورات تقوم بها الشعوب وليس الأشخاص وأمضت في المعتقل سنة ونصفاً. كان نجيب جالساً ومحسنة توفيق وقفت في مكانها علي الرصيف ونادت: »أستاذ نجيب!»، وتقدمت قليلاً ناحيته فقام نجيب من مكانه وقد دفع كرسيه إلي الوراء قائلاً: “الله! ست الكل! أهلاً”، وصافحها وأخذ ظهر كفها إليه، ورفعه وطبع فوقه قبلة. يكمل: »في التاسعة غادر الأستاذ نجيب المقهي ونحن غادرناها إلي الأتيليه، يحيي وأمل ولم يأت سعيد معنا، قال عندي مشوار في دار الأدباء بشارع قصر العيني أقضيه وألحق بكم، وعندما لحق بنا رأي يحيي يضع سيجارته عند ملتقي الأصبع الوسطي والإبهام وعندما يسحب الدخان يغطي بأصابعه جميعاً فمه كما لو أنه لا يريد أن يضيّع منه قسماً من الدخان النازل إلي رئتيه، سعيد يعرف تماماً أن يحيي وهو يفعل ذلك معناه أنه في وضع متأزم فسأله: مالك يا يحيي؟ ويحيي بعد اتنين ستيلا قال: كل اللي حصل وتقول لي مالك يا يحيي؟! وسأله سعيد: وإيه اللي حصل؟ فقال يحيي: اسم النبي حارسها، محسنة توفيق سلّمت علي نجيب محفوظ وعملت نفسها مش شايفاني، ترضي؟ قال سعيد: أصل هي جت من ناحية التحرير فبقي الأستاذ نجيب قدامها وهي ماشفتكش، عادي، المرة الجاية تيجي من جهة طلعت حرب فتكون أنت قدامها فتقول: الله الأستاذ يحيي الطاهر عبد الله، يا مرحباً. رمي يحيي نظرة من يعرف هذه الألاعيب، نظرة من زاوية عينيه وقال: لو لعبتْ معايا هتشوف وش تاني”. ويتذكر قصة جديدة: »مرة كنا، أنا وسعيد الكفراوي ويحيي الطاهر نبحث عن مقهي فيه جهاز تلفزيون، جلسنا هناك وما كان يفصل بيننا وبين شارع 26 يوليو غير الرصيف، الموضوع هو أن يحيي الطاهر وفي برنامج (الثقافة في عيون الناس) علي القناة الثانية سيظهر علي الشاشة في الخامسة والنصف، قال يحيي لنا إنه قال في البرنامج كلاماً مهماً لا شك سنستفيد منه في حياتنا الثقافية ونحن يجب أن نستمع إليه، علي القناة الأولي كان المذيع يتحدث عن الشيخ زكريا أحمد وقد قال المذيع كلاماً لم أسمعه من قبل، أن الشيخ زكريا له أكثر من 1000 لحن منها 61 لأم كلثوم، وقال سعيد إننا يجب أن نطلب من صاحب المقهي أن يغيّر القناة إلي الثانية فقد بدأت الندوة لا شك والساعة تجاوزت الخامسة والنصف. قال يحيي: خليني اسمع ما يقوله عن الشيخ، لا تشوّش عليّ، ده الشيخ زكريا أحمد يا راجل! هل نتركه ونسمع كلاماً عن غيره؟!، وقلت ليحيي: يا يحيي، والندوة؟! فقال: اسكت أرجوك خلّيني أسمع، ده الشيخ زكريا! وعندما انتهي البرنامج انتهت الندوة وظهر المذيع ليقرأ الأخبار فقال سعيد: والعمل يا يحيي؟ قال: »ولا يهمك الحل موجود، يلا بينا نعدي الكوبري للجهة التانية ونروح لإمبابة عند إبراهيم أصلان، أكيد هوّ شاف الندوة وحفظ كلامي بالحرف وهو هيقولنا إيه اللي شافه». صداقة هذه المجموعة، لعب فيها سعيد الكفراوي دوراً محورياً، وكان يضيء الطريق لخصباك في شوارع القاهرة، وحينما يأتي إليها يكون الكفراوي بوابته. في إحدي الزيارات جاء عائد مع زوجته قبل وفاة عبد الفتاح الجمل، اتصل بالكفراوي واتفقا علي اللقاء في وسط البلد بصحبة عبدالفتاح، وقبل الغداء سألهما الكفراوي: إيه رأيك نفوت علي جمال الغيطاني في أخبار الأدب؟ وذهبوا بالفعل، وفي مكتب الغيطاني جلسوا مدة نصف ساعة، وقبل أن يغادروا سلموا عليه،وأخذ الغيطاني كف عبد الفتاح وقبلها. كان جيلاً عظيماً يحفظ الجميل للأباء.