الشعراء الحقيقيون، وحده الشعر من ينيرهم، لا يرتجون ضوءًا يُسلط بإذلال نفس علي قصائدهم، يعتقدون أن القصيدة ضوء ساطع في ذاته وعلي ذاته، لا يأبهون لذاكرة الإعلام السمكيّة وعيون الصحافة، مرة تنسي، مرة لا تري، ومرة تُغيب قصدًا، تناسته الإضاءة الإعلامية، لكن شعره ونثره بزغ شعاعًا ساطعًا. أنطوان أبو زيد، شاعر وروائي ولد في لبنان عام 1955، حاصل علي درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من جامعة القديّس يوسف عام 1987، وفي عام 2003 نال دكتوراه الدولة في التعلّيميَّة من الجامعة اللبنانية، ويعمل في تدريس اللغة العربية وآدابها بالمرحلتين الثانوية والجامعية بدءًا من عام 1980، كما تقلَّد عددًا من المناصب آخرها رئاسة قسم اللغات والآداب في كلية التربية من 2013 إلي 2016، وله العديد من الأعمال البحثيّة والنقديّة. أما علي مستوي الإبداع، فيمتلك رصيدًا كبيرًا من المؤلفات الشعرية والسردية، من دواوينه: فضاء حُرّ، سكني بين غلفتين، لتخدُمْكِ عيناكِ الجميلتان في الهوَّة، أعمق من الوردة، الأرض خفيفة ولا خشية، جسم ظلال وخطوات، نبات آخر للضوء. ومن أعماله في السرد: الحفّار والمدينة، زهرة المانغو، المشّاء، الملك الطاووس والبلبل، الفتي ذو اللغات الثلاث، أحياء بأحياء. بالإضافة إلي عدد كبير من المترجمات، من أبرزها: »النص والمجتمع» لبيار زيما، »الجدران لا تصنع سجنا» لجويل جياپيزي، »حروب القرن الواحد والعشرين» لإينياسيو رامونيه، »مقاومة» لسهي بشارة، »أصول التوتاليتارية» لحنة آرندت، »القاريء في الحكاية» لأومبرتو إيكو، »علم الدلالة» و»السيمياء» لبيار غيرو. حول هذا التاريخ وما وراءه من خبرات، كان لنا معه الحوار التالي: بدأتَ خافتًا ومنطويا، ثم كنتَ ذلك "النبات الآخر للضوء". هل تعتقد أنّ من يسير بهدوء ودون أن يصعّر للأدب خدًّا، يصل أسرع من غيره؟ من قال إنّ البداية يجب أن تكون ضاجّة وصاخبة إعلاميا؟ لا، لم أكن إنطوائيا، وإنما تركتُ مسألة البروز الإعلامي تلحق بالكتابة الشعرية التي يلزمها نضوج وتأنّ واختبارات، وهذه غالبا ما تجري في صمت وبعيدا عن الأضواء. وعلي أي حال، كان أول عمل شعري لي "نبات آخر للضوء" والذي نشرته علي عاتقي، رغم أنه كان وليد مرحلة من التجريب عنوانها الكتابة السريالية، لم أوفق فيه ربما لأني ذهبتُ في استغلال الصور الشعرية الغريبة حدّ التطرّف. أما الوصول الإعلامي للبعض من دون الآخر فمردّه برأيي إلي المنابر الصحافية (ولا سيما الصفحات الثقافية) التي كانت، لزمن قريب خلا، تسرّع انتشار فلان أو تبطئه. غير أنّ عملية التسريع هذه أو الإبطاء المقصود، بفضل الصحافة المكتوبة، لن تبقي الأضواء المزيّفة مسلطة طويلا علي الصاعد عنوة، أو سريعا. هل كنتَ شاعرًا علي طريقة النسّاك في اعتزالك المشهد وعدم التسرّع في الظهور لتنشغل في الشعر دون أن تنشغل بالضوء؟ وكيف وجدتَ العزلة مع الشعر دون الأشياء الأخري، احتكاك القصيدة بنفسها قبل أن تحتكّ بمجاوريها؟ لن أدّعي أنني زاهد الدنيا أو ناسك عن المشهد الشعري العام، رغم أنّ الاشتغال الشعريّ الحقيقي لا يلزمه الضوضاء، إنما العمل المتواصل والحفر عميقا في الذات ومساءلتها عن قضايا كبري وعوالم متناهية الصغر. ولكن ماذا يمكن أن تقول لشخص يكتب الشعر يوميا، أو يسيّل حياته شعرا بين أسبوع وآخر، ولا يجد دارًا للنشر تقبل بأن تصدر له كتابا من دون مقابل مادي، وهو – أي أنا – لا يملك مالا يكفيه ليومه وعائلته؟! إنه نسك بالإكراه. وبالعودة إلي "احتكاك القصيدة بغيرها " فهذا شأن بديهي، إن فهمت قصدك تقتضيه ضرورة تجاوز الشاعر ذاته وأساليبه الشعرية ووجهات نظره كلما شاء أن يكتب قصيدة جديدة. قلتَ مرة: "ما أكتبه ينفصل بداية عن الخطابة التقليدية، وينتمي إلي نوع يتطلّب استغراقا عميقا وكاملًا. إنها محاولة لقول الوجود والألم والوحدة بلغة تقرب الصلة بين الشاعر واللغة والمرجع الحياتي". هل هي دعوة لتحميل القصيدة عناء فكريا أو فلسفيا؟ وهل تري هذا النوع من لكتابة الشعرية خارج إطار الزمن بل لجيل الشعر؟ أقصد هنا الكلام علي الصلة بين الشعر والفكر. وبموجز العبارة ينبغي للشعر، برأيي، أن يكون صادرا عن تجربة إنسانية عميقة وصادقة، وقد يكون الفكر فيها ضئيل الحضور. إلا أنّ الحياة الثقافية المعاصرة توجب أن يكون الشاعر ذا ثقافة فكرية وفلسفية واسعة، بالإضافة إلي اطلاعه الواسع علي آداب زمنه، حتّي يتسنّي له أن يجدّد في موضوعاته، ويكون نتاجه الشعري إضافة ذات معني إلي تراث لغته وقومه. وقد أحسب شرط الثقافة الفكرية والفلسفية ضمانًا لجودة الشعر، حيال الركاكة والضحالة اللتين تغرق فيهما غالبية النتاجات الشعرية المعاصرة المستفيدة من طفرة النشر. أما الخوف من العناء الفلسفي فليس قائما، ما دمتُ لا أستخدم الفلسفة لقولبة الشعر، وإنما لطرح رؤي تزيده عمقا وجدّة. لا تخلو قصيدتك من السرد الشعري وبعض التفاصيل اليومية. هل من الضروري أن يحتمل الشعر بعضَ تفاصيل صاحبه ولا سيما اليومية منها؟ ربما يصحّ هذا الأمر علي أعمالي الأخيرة، بدءًا بالقصيدة الطويلة "الأرض خفيفة ولا خشية" حيث جعلت المكان الأول، مكان الطفولة والتكوين الجماعي في آن، مجالا للأسطورة الشخصية قيد الامحاء. كذلك الأمر في قصائد "أعمق من الوردة "، حيث تحوي سردًا يترافق مع وصف لشخصية شعرية متخيّلة، أو قل نموذجية حمّلتها مشاعر ذات أبعاد غنائية ووجدانية معينة. »وجئنا إليكَ أيها المنبسطُ وأوّلُ ما فعلناهُ أننا قشَرنا النّخيلَ كيْ تصعدَ العتمةُ وحدَها بلا قسَماتٍ، إلي حيثُ لا حِيَلَ إلاّ للملكِ الهواء. . » (الأرض خفيفة ولا خشية، مقطع:43) في رواية "الحفار والمدينة" كنتَ مؤرّخا واجتماعيا. هل يحتسب الروائيّ اختيار الموضوع مقدّما والإحاطة به، أم هي كالقصيدة تُكتب دونما صناعة آلية أو اختيارية؟ هل تظنّ أنّ بوسع كاتب وروائي أن يكتب رواية من دون أن يحيط بموضوع روايته، أو من دون أن يجري بحوثًا استقصائية في مجريات الواقع الذي يسعي إلي محاكاته في الكتابة؟ بل إنّ ذلك البحث المسبق في موضوع الرواية لطالما شكّل شرطًا أوليا في كتابة الرواية، منذ فلوبير وزولا وبروست وبلزاك وغيرهم وحتي صنع الله إبراهيم وعبد الرحمن منيف ونجيب محفوظ وغيرهم. وقد استعنت، فيما كتبته برواية "الحفار والمدينة" بتجربة عشتها شخصيا وأوردتها في القسم الأول من الرواية، لما أقمت قرابة السنة في منطقة الجمّيزة، في بداية حياتنا الزوجية. ثمّ إنّ الرواية، فيما طرحته من جوانب الفساد الذي صاحب عملية إعادة الإعمار، استحقت أن تكون نوعا من الشهادة لزمن بدايات التسعينيات من القرن الماضي. تتعمّد السرد البسيط الواضح غير المتكلّف، بينما تعارف الروائيون من جيلك علي أن يُتخم النص بالاشتباكات التي تجعله متكلّفا. لمَ خرجتَ عن المألوف، أتريد أن تقول إنك مختلف عن غيرك في الرواية وليس في الشعر فحسب؟ هذا توصيفك أنت لكتابتي الروائية التي تهيّبتها منذ ثمان وعشرين سنة لما أصدرت كتابي الروائي القصير "المشّاء" عن دار المسار، بعد كتاب سردي آخر بعنوان "أحياء بأحياء" رويتُ فيه بأسلوب خليط بين الريبورتاج والقصّة مشاهداتي في خلال الحرب التي جرت بين فريقين داخل المنطقة الواحدة (جعجع/عون) أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. أما مسألة الصوغ اللغوي المتقن فهي خيار أسلوبي لدي البعض (حسن داوود، مثلا)، ويدلّ علي استمرار أسلوب رفيع إلي جانب وجهة نظر جديدة في الكتابة الروائية. بينما الكتابة لديّ، من حيث الأسلوب، هي انصهار الذات (الكاتبة) بكلّ خبراتها الكتابية في محصّلة تأملاتها في النفس ومجتمعها الصغير. ولا يهمني أن أقارن بآخرين ما دامت وجهة نظري ومنطلقي متباينين عما طرحه الآخرون. وفي ذلك غني. شاعر وروائي وقاصّ، سؤال كان كثيرا يطرح علي من يمتاز بامتلاكه الثالوث الأدبي. أين تري أنطوان أبوزيد؟ ولمَ اخترت كتابة القصة والرواية؟ لا أدّعي امتلاك ناصية هذا الثالوث الأدبي كما سمّيته، وإنما أقول لك أني كتبتُ القصة قبل كتابة الشعر وكنت لا أزال في أوائل عشرينياتي ولم أنشر سوي قصتين في حينه. بيد أن الشعر كان ينتظرني في آخر مطاف أبحاثي، علي ما يقوله رينيه شار، »لأنّ الشعر هو الحياة المستقبلية لداخلية للإنسان المعاد اعتباره» بعد حروب كادت تطيح بكل شيء من حولي وفيّ. وبناء عليه، فإني أري نفسي في كلّ ما أنتجته، بغض النظر عن قيمته بنظر النقد، ذلك أنّ القصة أو الرواية تظهّر جوانب من عالمي تختلف عن الجوانب الكامنة والتأملية التي يكشف عنها الشعر. يقول الشاعر "إليوت" : "الشاعر الجيّد قد يسرق ولكنّه لا يتأثّر". كيف تري الشعراء الذين هم نسخٌ عن غيرهم؟ يردّني هذا السؤال إلي مسألة نقدية قديمة لم تؤت ثمارها، إذ أقرّ الآمدي والجرجاني وأبو هلال العسكري بالمشقات الكثيرة التي يتكبّدها الدارسون للتقرير في سرقة البحتري من أبي تمام، والمتنبي من أبي تمام وأبي نواس. بيد أنّ النتيجة التي توصّلوا اليها وتعنينا هي أنّ علي النقّاد أن يكونوا علي قدر عال من المعرفة وذوي اختصاص و"بُعدٍ عن الهوي" بحسب الجرجاني، حتي يصحّ لهم أن يحكموا علي وجود سرقات أدبية. لذا نرجو الله ان يكون ثمة نقاد لينظروا في كتابتي الشعرية ليحكموا علي مقدار هذه السرقات. أما التأثّر فهذا من طبيعة الحياة الأدبية وتواتر الأجيال والتثاقف الواجب علي المبدع. وفي ما خصّ الشعراء النّسخ فلا تهتم بشأنهم، لأنّ الزمن وسياقه كفيلان بهم. في حوار قلتَ: "صرت اعتبر الاشتغال اللغوي أهم بكثير من التركيز علي الصور الشعرية التي قد تتفاوت قيمة واتساعا ومشهدية في القصيدة الواحدة". في الحقيقة، كنتُ أردّ علي الركاكة الشائعة في الكثير من قصائد النثر المعاصرة التي يستسهل أصحابها نثر الكلام علي عواهنه وبتلقائية يتلاشي عندها الحسّ بجمالية بديلة، سعت اليها قصيدة النثر منذ انطلاقتها مع بودلير والويزيوس برتران وغيرهما. وقد ينسي البعض أنّ الشعر هو لغة، وأنه يكتب بلغة عربية ذات قواعد يعرفها جيدا حتي يقدر علي انتهاكها وموازاتها بإبداعيته ! كيف ينظر النقد لما تكتب شعرا ونثرا. وكيف تعامل النقد مع كتاباتك، وهل تري أن النقد الأدبي الآن علي خط سواء مع الشعر في تقدّمه؟ بمعني هل نستطيع أن نعتبر نقدنا حديثا قادرا علي مضاهاة الكتابة الحديثة؟ إني أدين للنقد الأدبي في الصفحات الثقافية بالفضل لكونه تابع إصداراتي الشعرية، وقدّم للبعض منها، وانتقد بعضها ("نبات آخر للضوء") سلبا، فأتاح لي التقدّم في مضمار مضاءة جوانبه بنظرات نقدية صائبة ومشجّعة في آن. ومع ذلك أعتبر أنّ النقد لم يسلّط ضوءا كافيا علي بعض الأعمال الشعرية، مثل "أعمق من الوردة" أو "الأرض خفيفة ولا خشية " التي اعتبرها البعض متأثرة بقصيدة "صور" للشاعر الصديق عباس بيضون من دون أن تمسّها إحدي أصابعهم بمراجعة نقاط التأثّر أو التمايز. أما النقد الأدبي لدينا، أي في عالمنا العربي المسحوق بألف نكبة، فلا أراه بالغا نقطة التوازي مع الابداع الشعري، عدا تجارب وأعمالا مفردة. في سؤال وُجّه إلي الشاعر والروائي سليم بركات فيما إذا يظلّ الكاتب في الرواية نفسه في الشعر، أم يختلف من جنس لآخر فكان جوابه: "الرواية تحتمل امتداد الشاعر في الروائي، بينما لا يحتمل الشعر امتداد الروائي في الشاعر، إلا في حدود ضيقة". لا أري انفصاما لذات الشاعر إلي الروائي، وإنما أعتبر أنّ لكلّ مجال أو جنس أدبي فضاءه الخاص به وإمكانًا لتنمية بُعد من أبعاده المتعددة ؛ فالشعر ينمي لدي الشاعر البعد الوجداني والجمالي والفكري، في حين أن القصّ والرواية ينميان البعد الوجودي الظواهراتي بلغة الفلسفة ويعالجان مأساة العلاقة المأزومة بين الذات والجماعة والزمن.