لا أدري لماذا ألح هذا العنوان علي ذهني ولا كيف فرض نفسه عنوانا للمقال .. ربما لأنه كان سبباُ في مناقشات ومناكفات طويلة مع صاحبه؛ صديقي وأستاذي الراحل مصطفي طيبة حين أصدر كتابه هذا عام 1986. وربما لأن الذكري الخامسة عشرة لوفاته حلت للصدفة البحتة قبل اسبوعين، وتشترك مع ثورة يوليو 1952 في نفس الشهر. وقد يكون الجدل الدائر الآن حول ثورة ينايرالمصرية المعاصرة ومحاولات المقاربة بينها وبين ثورة يوليو، هو الذي استدعي هذا العنوان الي ذاكرتي في محاولة لا واعية للإجابة علي السؤال الجدلي الدائر حاليا: هل تعتبر ثورة يناير امتدادا لثورة يوليو وإحياء لمشروعها القومي من عدالة اجتماعية وانحياز للفقراء ومن ثم فإنها تعد تأكيداً لمصداقيتها، ام انقلابا عليها ورفضا لكل ما كرسته من سيطرة العسكر علي أجهزة الحكم ومن نظام حكم شمولي يبرز فيه الحزب الحاكم الأوحد مهما تعددت واجهاته الحزبية و"فتريناته" السياسية؟.. "طيبة" .. وله من اسمه نصيب كبير، كان حالة استثنائية. مناضل وزعيم شيوعي تم اعتقاله في 18 يوليو 1952 أي قبل قيام الثورة بخمسة أيام بتهمة محاولة قلب نظام الحكم (الملكي طبعا).وحين قامت الثورة راودته هو وزملاؤه أحلام وردية بقرب الإفراج عنهم وتبرئتهم نظراً لتشابه الأهداف. إذ ما الذي فعله ثوار يوليو سوي قلب نظام الحكم الملكي؟ لكن المفارقة ان "طيبة" قضي في سجون ومعتقلات الثورة 12 عاما بالتمام والكمال. رسم ملامحها برومانسية متناهية في كتابه المميز "رسائل سجين سياسي الي حبيبته"، وسجل في جزءيه كل خلجة، ولحظة ألم، وشاردة فكرة، ووقفة تأمل. كان من الطبيعي ان يخرج ممتلئا بالحقد علي الحقبة الناصرية التي سلبته زهرة شبابه. لكنه علي العكس كان يتمتع بقدر هائل من التسامي والموضوعية ما جعله يتناسي الألم الخاص لينخرط في الوجع العام. كثيرا ما كنت أعجب منه ويصل العجب لحد الإنكار والشجار. وكانت الذروة مع صدور هذا الكتاب الذي اعتبرته أنا نوعا من المراجعة السياسية، وكان هو يراه تحليلا موضوعيا مجردا. كان يحيرني كيف لم ينقلب كل الذين أوذوا في تلك الحقبة علي ناصر؟ لماذا يلتمس بعضهم له الأعذار في حين أن الآخرين لم يتسامحوا أو يسامحوه؟ بعد وفاة ناصر وفي فترة السادات ظهرت كتب عديدة تفضح العذاب والهوان الذي لاقاه المسجونون السياسيون في الفترة الناصرية خاصة من الشيوعيين والإخوان المسلمين وامتلأت السجون بكل الأطياف السياسية. لعل من أشهر ما قرأته عن تلك الفترة كان كتاب رسائل طيبة بجزءيه، وأيضا ما وضعه استاذنا الراحل مصطفي أمين في خماسيته عن سنوات السجن (سنة أولي حتي سنة خامسة سجن) فقد قبع بدوره - تسع سنوات كاملة في السجن. ظهرت هذه الكتب بعد وفاة عبد الناصر ومجئ السادات الذي قام في حركة مسرحية - بهدم السجون سيئة السمعة وفي المقابل عزز سجونا أخري وألقي بمعارضيه في السجون .. ما علينا كانت هذه الحقيقة بذاتها مثار جدل شديد بيني وبين طيبة فها هو الرجل الذي يدافع عن عبد الناصر لم تتح له فرصة الكتابة والنشر بحرية عن تلك الفترة إلا بعد غياب ناصر وزوال نظامه.. لكن من يقرأ كتب طيبة، وخماسية "مصطفي بك" يدرك من فوره البون الشاسع بين الرؤيتين اليمينية واليسارية، لكنهما اتفقا مع ذلك علي تسجيل ما لاقاه الإخوان المسلمين تحديدا من تشدد وعسف وإذلال، مر طيبة علي هذه الظاهرة بشكل هادئ وغير مباشر فلم تكن في بؤرة عدسته وهو يصور حياة السجون، لكن عند قراءة مصطفي أمين شعرت من دقة الوصف والإغراق في التفاصيل البشعة وكأنه يجذب قارئه من شعره ويدس رأسه في " جردل" البول الذي اضطر ذات يوم أن يشرب منه. وفي الجزء الثالث من خماسية مصطفي أمين يبدو التركيز علي أزمة الإخوان المسلمين والعنت والإذلال الذي لاقاه مرشدها العام الشيخ حسن الهضيبي والسيدة زينب الغزالي. هذه الكتب جميعا رغم ما تبدو عليه من شكل كتابة السير الذاتية، فقد خرجت جميعا علي هيئة "دانتيلا سوداء" تفصح اكثر مما تكتم ويبوح ما بين سطورها همسا بأكثر مما تجأر به السطور نفسها . في كتاب "رؤية جديدة للناصرية" لطيبة وجدت ما يبدد حيرتي ويرد علي تساؤلي لماذا تسامح بعض الضحايا ؟ إنه المشروع القومي لعبد الناصر الذي جمع ولم يفرق، واحتوي ولم يطرد ونهض ولم يخرب. مشروع الهوية القومية ودوائرها الثلاث التي وضعها عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة". القارئ لكتاب "رؤية جديدة للناصرية " قد يلتقي ببعض المفردات والمفاهيم الشائعة الآن التي تطالب بها ثورة يناير، وقد يجد ثوار يناير ضالتهم في بيان 30 مارس الذي استعار طيبة بعض فقراته مثل "تدعيم عملية بناء الدولة الحديثة في مصر، والدولة الحديثة لا تقوم بعد الديموقراطية إلا استنادا علي العلم والتكنولوجيا" قد يلفت انتباه كل من لم يقرأ تلك الكتب ما جاء في الميثاق حول الصراع الدائر علي تفسير " الدولة المدنية" و"الدولة العصرية "وموقف عبد الناصر منها فنقرأ هذه الفقرة: " إن جوهر الرسالات الدينية لا يتصادم مع حقائق الحياة، وإنما ينتج التصادم في بعض الظروف من محاولات الرجعية أن تستغل الدين ضد طبيعته وروحه لعرقلة التقدم، وذلك بافتعال تفسيرات تتصادم مع حكمته الإلهية السامية". وبالرغم من أن طيبة استغرق أكثر من نصف الكتاب في تعديد مآثر ناصر، إلا انه تحلي بالموضوعية حين تناول في ثلثه الأخير - برؤيته الثاقبة وتحليله المنهجي الناقد - التجربة التاريخية لثورة يوليو وحدد عيوبها بصراحة وأهمها في رأيه كان: ازدواجية السلطة بينه وبين محمد نجيب، ثم في مرحلة تالية بعد الإطاحة بنجيب تحولت الازدواجية الي صراع علي السلطة، ثم كان العيب الجسيم عند انفراد ناصر بالسلطة وهو اعتماده المطلق علي المؤسسة العسكرية لثقته الزائدة في المشير عامر مما ادي في - رأي طيبة - الي خلق بذور انفصال هذه المؤسسة عن الإطار التنظيمي للدولة واكتسابها مركز قوة وسلطة صعب بعدها علي القيادة السياسية - بزعامة ناصر- السيطرة عليها؛ الأمر الذي أدي الي هزيمة 1967. وأخيرا يعترف طيبة بفشل التجربة الناصرية في إدارة ملف الديموقراطية وهو الملف الذي كان هو شخصيا أحد ضحاياه. ما أحوجنا الآن ونحن نعيش في رحاب الذكري التاسعة والخمسين لثورة يوليو و فيما نتجادل لنضع اسس البناء لثورة يناير لإعادة قراءة التاريخ واستخلاص العبر والدروس. القارئ لكتاب »رؤية جديدة للناصرية « قد يلتقي ببعض المفردات والمفاهيم الشائعة الآن التي تطالب بها ثورة يناير، وقد يجد ثوار يناير ضالتهم في بيان 30 مارس الذي استعار طيبة بعض فقراته مثل »تدعيم عملية بناء الدولة الحديثة في مصر، والدولة الحديثة لا تقوم بعد الديموقراطية إلا استنادا علي العلم والتكنولوجيا«