مغامرةٌ سردية مغايرة، تختار عالمًا منبوذًا مجهولاً مخوفًا ولا تقتحمه بل في أناة متفردة تدخل سفر تكوينه، ثم تتابع تطوره وتنمره علي مالكيه الوهميين، وبين الخضوع والحلم تراقبه إلي أن يستوي علي عوده، ويبدأ في مقاومة خبثه وطرده، متحولاً من مكان عشوائي بلا ضابط إلي حي شعبي.. لكن سيف الحكومة الباطش ينهال عليه بضربة تقسمه ولا تقصمه، وبهذه الضربة الكوبري الدائري تستمد عزبة خيرالله الجبل وجودًا لا محو بعده. كيف تكونت العشوائيات في مصر؟ أين كانت الحكومة المصرية؟ لماذا لجأ إليها ملايين الناس؟ كيف نمت هذه العشوائيات؟ وكيف تحايل أهلها علي نقص مقومات الحياة الأساسية والخدمات الضرورية؟ ثم كيف أقاموا شعائرهم؟ وهل أصابتهم لوثة الفتن التي عمت القري والمدن في العقود الأربعة الأخيرة؟ لكن السؤال الأخطر: هل بشر هذه العشوائيات مثلنا أو أنهم أشبه بالسعالي والغيلان؟ الحق أن كل هذه الأسئلة لها إجابات وأسئلة داخل رواية "خير الجبل" الصادرة عن دار العين القاهرية للروائي والشاعر والصحفي "علاء فرغلي"التي يختار لها عزبة خير الله الجبل العشوائية، دون انحياز ميلودرامي لأهلها ودون مبالغة في إجرامهم وسيكوباتهم.. الأفضل في رواية خير الله أنها اعتبرت المكان بطلاً مأساويًّا رغم تعدد شخصياتها وثرائها، بدءا بالطفل علي الذي صار في نهاية الرواية طالبًا بإعلام القاهرة، وناجي الذي تحول من عامل يتبع رزقه إلي مبعوث في الصين لدراسة الصينية وآدابها.. وحدها "صالحين" استحقت بامتياز أن تكون بطلا أول، لكنها تنصهر مع المكان منتظرة ما يحمل الغد لها وله.
تدور أحداث النص حول الأشخاص الذين تضطرهم ظروف الحياة القاسية إلي السكني في هذه المناطق العشوائية، والغريب أن بعض هؤلاء الأشخاص لا يعوزهم السكن وإنما لقمة العيش أو الطموح في توسيع الرزق في منطقة بكر من وجهة نظرهم، ومنهم المحامون والفرانون، ومنهم من يريد أن يسكن في القاهرة دون التكلفة الباهظة كما فعل صف الضابط المتقاعد. تطلع صالحين وإخوتها الأربعة إلي جبل خير الله بعد سقوط البيت الفقير علي أمها وموتها فيه، قطعتا لحم و"علي" وناجي" وتتحرك الحياة بصالحين وإخوتها، فيما يتحرك المكان وتكثر بيوته وتتلوي طرقه كالثعابين، ويتجول الناص في عالم يحفظه بدقة، يكونه بتؤدة ويمزقه بحنكة جزار.. شخوص متسقة مع ذواتها وسياقها، بنية محكمة يعوزها تخل عن رواسب الرومانسية، ولا تخطئ العين مهارة الناص ولا قدرته اللغوية واهتمامه بالعمل شكلا ومحتوي. المكان الذي يبيعه البلطجي "المعلم الضبع" وهو لا يمتلك منه شيئًا، يسع ما لم تسع الأحياء الشعبية؛ فهو يستقبل المهاجرين والمطلوبين والهاربين والمتعبين من الحياة والمتشيعين الذين يجدون في هذا الجبل منفذًا ومنقذا، لكن المكان أيضًا يحمل إليه هؤلاء الأشتات جراثيم القاهرة التي ضربتها في الصميم؛ فلا يقتصر الأمر علي سيادة البلطجية بل تظهرالفتنة الطائفية وجرائمها التي تصل حد القتل. يبدو الضبع حاكمًا بأمره برجاله البلطجية الذين يأتمرون بأمره، فيما تظهر الحكومة ممثلة في الشرطة أولاً باعتبارها متواطئًا مع الضبع في صفقة معروفة للجميع، فللضبع المكان كاملاً، وللحكومة أن يرد لها الضبع حق الانتفاع في الانتخابات ومواسم تقفيل المحاضر، ومن يخرج عن هذا الناموس فلا مكان له.. كما حدث مع الفران الذي تعدي الضبع وشكا إلي الشرطة، وكما حدث في حادثة الميكروباص: "الضبع من الحكومة والحكومة من الضبع. "كلهم منهم فبعضيهم" كما قال الشيخ يونس مرارا. ذكّرهم بيوم ضرب ميكروباص الولد ياسين أمام مدرسته فأصيب بكسور في القدم والحوض أقعدته طريح الفراش شهرين كاملين. يوم نقلوا الصبي مغشيا عليه إلي مستشفي هرمل، واحتجزوا السائق والميكروباص، حتي فوجئ أبو ياسين بحنفي وصندل وأبوتلاتة يطرقون بابه ويخبرونه أن المعلم الضبع يبلغه أنه تنازل عن المحضر حتي لا يخرب بيت صاحب الميكروباص المحتجز لدي الحكومة لأن الله لا يرضي بخراب البيوت، وأخرج صندل المحضر المحرّر في قسم الشرطة والذي سبق أن وقعه أمام الضابط النوبتجي، من جيب الجاكيت معلنا أن: المحضر أهه في جيبي.. والمعلم هايراضيك".
لكن المكان ينمو وأهله معه أما الضبع ورجاله فلا، كما أن الحكومة تعجز في هدم المكان، وفي المقابل ينجح أهله في اقتناص اعترافها ومع دخول الكهرباء والمياه يجد الضبع أن الحل هو التركيز علي تجارة المخدرات، فيما تتقدم أسرة صالحين في التعليم بعد أن نجحوا في مواجهة متطلبات الحياة بعمل ناجي وعلي في غير أوقات الدراسة والمدرسة. لكن.. وكما يجري للأبطال في الملاحم الكبري يسقط المكان في الخطأ التراجيدي فالحكومة ستجعل الدائري يشق المكان، وسيلتهم معه جزءًا كبيرًا من المكان، ولا يفلح أحد هذه المرة في أن يوقفها، ويتأكد علي أن الحكومة هي صانعة هذه العشوائيات، وهي التي تركتها تنمو أو كما قال له حسن الكتبي: لعلي إن الحكومة تعتبر أن الناس في حاجة إلي قدر مناسب من الجريمة، كما هم في حاجة إلي قدر من الفقر والتلوث والعشوائية والمرض. القدْر الذي يمكن التعامل معه بآلية تختارها وتنفذها الحكومة بوسائلها. جريمة تشعرهم بالخوف. فقر يدفعهم للعدو لهثا خلف لقمة العيش، تلوث يشل حركتهم. عشوائية تكبل تفكيرهم وتحيل بينهم وبين أي قدرة علي التنظيم . ثم مرض يهدم ما تبقي من قدرة علي الصمود بعد لهث طويل خلف ما يقيم الآواد. هكذا إذن يسقط المكان: "خيرالله الجبل" أمام سكانه وأحبابه بأربعين مترا: "شريط بعرض أربعين مترا يقطع خير الله طوليا سيقيمون فوقه طريقهم الدائري ذا الاتجاهين، لترتفع البيوتُ الناجية من الهدم علي جانبي الطريق عالية، تُطِلّ متفاخرة علي براح واسع من الأسفلت الأسود، البراح الذي شَهِدَ سنوات طويلةً من شقاء مشترك، اقتسموا خلالها أرغفة الخبز وعبوات الزيت وأكياس السُكر وأواني الطعام وأوجاع الفقر والفقد، واصطف خلالها الجار إلي جانب جاره يتقبل معه العزاء في ميت له رحل، أو متلقيا للتبريكات في فرح هلّ، ووقف علي ساعده وفي كتفه ووراء ظهره. سنوات استقبلت خلالها الجارة جارتها الغضبانة من زوجها حتي يعود لصوابه ويطلب استعادتها، وكان الجار لجاره أقرب من أقرباء الرحم. سيقطعها - إذن طريق عريض تعبره سيارات مسرعة داخلها غرباء يسكنون بعيدا، ولا يتوقفون لالتقاط صورة في هذاالمكان".
»يمرُّ الدائري من وسط العزبة كما يمرّ مسار جوي فوق سحابها، جسرا عاليا مسورا لا يصلها بالعالم بنزلة أسفلتية تسمح لسيارات العزبة باستخدام الطريق. ولا حتي سلالم تسمح للمشاة بالصعود لاستيقاف سيارة عابرة«. لكن المكان لا يستسلم لهذه السقطة، وإنما ينجو متحاملاً ومحاولاً أن يكمل مسيرته، بالسعي نحو عيش وأمن، أو بما هو أهم بالحلم: "لم يتخرج ناجي بعد، ولا علي، تنتظر صالحين عودتهما في "بلكونة" تري أسفلت الطريق وتري البيوت التي تطل علي الطريق من الجانب الآخر، تقضي مساءاتها تتطلع إلي خير الله" شخصيات النص لا تفترق عن شخصيات أي مكان عشوائي؛ فهم مواطنون دون وطن، لا تتذكرهم الحكومة إلا في الانتخابات والمصائب، يحلمون بالعيش العادي، والأمن العادي، ويدفعون لقاء الأمن والعيش كل شيء.. إنهم شخصيات بلا طموح.. عدا هذه الأسرة الصغيرة التي ترفض عائلتها الزواج؛ لأنها تحلم وتزرع الحلم في أفرادها؛ فلا يركن ناجي إلي قوته، ولا علي إلي براعته في إرضاء الناس.. لغة السرد فصحي، والحوار بالعامية المصرية ويجمعهما خفة ظل الروائي التي تتسرب إلي السرد والحوار؛ فكأن أحدهما تأثر بالآخر، أو كأنهما تبادلا التأثير، أو كأن الكاتب آثر ألا يحدث فجوة بينهما؛ فحين يلقب الراوي شيخ الجامع ب: "الشيخ الضابط" يكون هذا لقبه لدي السكان مع ما استلزمته العامية المصرية من استبدال الظاء بالضاد "الشيخ الظابط" ويجمعهما أيضَا الحس الساخر المتناثر في النص فعلي مستوي السرد نجد: "ولولا استخدامه لكلمات الذي وذلك وهذا للمذكر والمؤنث معا، وجرّه المضموم ونصبه المرفوع لكان خطيبا مفوّها" أما الحوار فنجد: ""هم كانوا مشغلينك فحمة شواية يا قلب أختك؟"