استجابة ل«هويدا الجبالي».. إدراج صحة الطفل والإعاقات في نقابة الأطباء    بنك مصر يشارك في 26 عملية تمويلية ب246.7 مليار جنيه خلال 2023    الاتحاد من أجل المتوسط: مؤتمر الاستجابة لغزة عكس مواقف مصر نحو القضية الفلسطينية    وزير الخارجية الأمريكي: لن نسمح لحماس بتقرير مصير غزة بعد انتهاء الحرب    بعد غياب 34 يوما| الأهلي جاهز لعودة الدوري بمواجهة فاركو غداً    رغم أزمته مع لجنة الحكام، قمر الدولة يحكم مباراة الحدود ومنتخب السويس    اتحاد الكرة يرد على تصريحات رئيس إنبي    "يورو 2024".. بطولة تحطيم الأرقام القياسية    أخبار مصر.. تأجيل محاكمة سفاح التجمع الخامس ل16 يوليو فى جلسة سرية    تسلل ليلًا إلى شقتها.. ضبط المتهم بقتل عجوز شبرا لسرقة ذهبها وأموالها    سفير مصر بالكويت: حالة المصاب المصرى جراء حريق عقار مستقرة    محمد الشرنوبي يطرح أغنيته الجديدة "استغنينا" (فيديو)    وزارة الصحة تتابع مشروع تطوير مستشفى معهد ناصر وتوجه بتسريع وتيرة العمل    جامعة بنها ضمن أفضل 10 جامعات على مستوى العالم    البنك الأهلي يحصل على شهادة ISO 9001 في الامداد اللوجيستي من المواصفات البريطانية    يورو 2024| ألمانيا يبدأ المغامرة وصراع ثلاثي لخطف وصافة المجموعة الأولى.. فيديوجراف    إجازة المشاهير| «وفاء» هتحضر أكلة شهية و«نبيلة» هتفرق العيدية    السبت أم الأحد..الإفتاء تحدد موعد وقفة عرفة رسميًا    بلغت السن المحدد وخالية من العيوب.. الإفتاء توضح شروط أضحية العيد    ندوة مركز بحوث الشرطة لمواجهة الأفكار الهدامة توصى بنشر الوعي والتصدي بقوة للشائعات    مجدي البدوي: «التنسيقية» نجحت في وضع قواعد جديدة للعمل السياسي    بلينكن: نعمل مع شركائنا فى مصر وقطر للتوصل لاتفاق بشأن الصفقة الجديدة    المدارس المصرية اليابانية: تحديد موعد المقابلات الشخصية خلال أيام    أبو الغيط: استمرار الصراع فى السودان سيؤدى إلى انهيار الدولة    حملات مكثفة بالإسكندرية لمنع إقامة شوادر لذبح الأضاحي في الشوارع    7 نصائح للوقاية من مشاكل الهضم في الطقس الحار    محافظ المنيا يشدد على تكثيف المرور ومتابعة الوحدات الصحية    القوات المسلحة توزع كميات كبيرة من الحصص الغذائية بنصف الثمن بمختلف محافظات    بالأسعار.. طرح سيارات XPENG الكهربائية لأول مرة رسميًا في مصر    مبابي: أحلم بالكرة الذهبية مع ريال مدريد    "سيبوني أشوف حالي".. شوبير يكشف قرارا صادما ضد محترف الأهلي    10 آلاف طن يوميًا.. ملياردير أسترالي يقترح خطة لإدخال المساعدات إلى غزة (فيديو)    مراسل القاهرة الإخبارية من معبر رفح: إسرائيل تواصل تعنتها وتمنع دخول المساعدات لغزة    جامعة سوهاج: مكافأة 1000 جنيه بمناسبة عيد الأضحى لجميع العاملين بالجامعة    أسماء جلال تتألق بفستان «سماوي قصير» في العرض الخاص ل«ولاد رزق 3»    وفاة الطفل يحي: قصة ونصائح للوقاية    القوات المسلحة تنظم مراسم تسليم الأطراف التعويضية لعدد من ضحايا الألغام ومخلفات الحروب السابقة    إصابة 3 طلاب في الثانوية العامة بكفرالشيخ بارتفاع في درجة الحرارة والإغماء    مواعيد تشغيل القطار الكهربائي الخفيف ART خلال إجازة عيد الأضحى 2024    الجلسة الثالثة من منتدى البنك الأول للتنمية تناقش جهود مصر لتصبح مركزا لوجيستيا عالميا    أيمن عاشور: مصر تسعى لتعزيز التعاون مع دول البريكس في مجال التعليم العالي والبحث العلمي    مساعد وزير الصحة لشئون الطب الوقائي يعقد اجتماعا موسعا بقيادات مطروح    «أوقاف شمال سيناء» تقيم نموذج محاكاه لتعليم الأطفال مناسك الحج    وزير الإسكان يوجه بدفع العمل في مشروعات تنمية المدن الجديدة    عفو رئاسي عن بعض المحكوم عليهم بمناسبة عيد الأضحى 2024    إي اف چي هيرميس تنجح في إتمام خدماتها الاستشارية لصفقة الطرح المسوّق بالكامل لشركة «أرامكو» بقيمة 11 مليار دولار في سوق الأسهم السعودية    «الأوقاف» تحدد ضوابط صلاة عيد الأضحى وتشكل غرفة عمليات ولجنة بكل مديرية    الأرصاد تكشف عن طقس أول أيام عيد الأضحي المبارك    رئيس الحكومة يدعو كاتبات «صباح الخير» لزيارته الحلقة السابعة    "مقام إبراهيم"... آية بينة ومصلى للطائفين والعاكفين والركع السجود    اليونيسف: مقتل 6 أطفال فى الفاشر السودانية.. والآلاف محاصرون وسط القتال    نصائح لمرضى الكوليسترول المرتفع عند تناول اللحوم خلال عيد الأضحى    وزير الدفاع الألماني يعتزم الكشف عن مقترح للخدمة العسكرية الإلزامية    حبس شقيق كهربا في واقعة التعدي علي رضا البحراوي    النمسا تجري الانتخابات البرلمانية في 29 سبتمبر المقبل    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    «اتحاد الكرة»: «محدش باع» حازم إمام وهو حزين لهذا السبب    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 12-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مساء يوم طويل
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 01 - 2016


جزيرة
يلتفت ليرمي ببصره. لابد أنّه يقترب مِن الجزيرة، ذلك أنّ الجرم المهيب المغبش لقمتها الصخرية قد ازداد جلاءً في الفجر الطّالع. يسحب ساعداه الكليلان المجدافين بتأن جسد مُخدّر أضحي غير مبالٍ لا بالفكر ولا بالإرادة. لا يكاد يسمع صوتاً. يغطس المجدافان في الماء ويرتدان ويغطسان مِن جديد، فينشق البحر ويستكين للقارب ثُم يلتئم في سكون الصباح.
يلتفت ليرمي ببصره مرة أخري. تلوح الجزيرة، إذْ تتسع رقعتها كلما اقترب، كأنّها تتضاءل تحت وهج الشّمس الطالعة مِن ورائها تكاد أشعتها الأولي أنْ تُلامس سطح البحر، ويبثّ نسيم طري قشعريرة في جسد سأندرونيكوسز محمّلاً بوشوشة وأريج أشجار الصنوبر فوق الجزيرة. لقد مضي زمن طويل منذ شمّ رائحة جديدة آخر مرّة، تختلف عن الروائح العاديَّة أو حتّي رائحة سمك أو عشب أو ملح آخر الليل... مع ذلك، لا يملك سأندرونيكوسز متسعاً مِن الوقت كي يستمتع بمثل تلك التسلية رغم اشتياق روحه إليها. يعلم أنّه مضطر لكن يعجز عن تحديد السبب. يستقر عبوس غامض فوق شفتيه، كان يُعدّ ابتسامة ما داخل الدّير في بِيزَنْطّة. فِي سالف الأيام، لما كان ينتمي إلي عشيرة، وبالأحري، حتّي البارحة- لما أدرك أخيراً أنه كان يُجبر نفسه علي الإيمان طوال الوقت، أنه كان يُغالط نفسه بالاعتقاد أنّه كان مؤمناً بالانتماء إلي عشيرة. كلا، ليس البارحة بل ما قبلها، ذلك أنّ الصباح يشقشق، والأمس صار أكثر مِن مُجرّد يوم انقضي.
مِن الآن فصاعداً سيتوافر لديه الوقت. وقت ضاف. للموت، للحياة، لتجربة أشياء جديدة. في الحقيقة، وقت وفير جِدّاً درجة سيكون معها بلا معني أو قيمة جوهرية. تُري ما هي الطريقة المثلي للاستفادة مِن هذا الوقت؟ يجب عليه القيام بشيء ما، ربّما اختلاق أمر. لَكِنّ كي تختلق يتعين أن تجد القوّة علي اختلاق...
يضحك سأندرونيكوسز. لا يزال عاجزاً عن مقاومة إغراء مثل هذا اللغو، مثل هذا التأمل العبثي. هذا خادع، غير صالح، عنين...
كلا، ليس عنيناً. فمثل هذا التأمّل لا ينبغي أنْ يوصف بالعِنّة. لا ينبغي له أنْ ينسي أنّه قبل الوهن منذ البداية. لهذا السبب تمكّن مِن استعمال كلمة »عِشق« مِراراً وبحريَّة وباسترسال مُدوِّخ إلي أنْ صار له مُريدون عافوا لعبه بالكلمات فتيقّن هو الآخر أنّ العشق هِو صاري الكون الأساسي، لقد قبل الوهن منذ البداية...
أفلت المجدافين كي يقي راحتيه فرط النزف. كم مرّة أضطر إلي إفلات المجدافين منذ بدء رحلته، لم يعد يعرف. (ولِم العدّ بالأساس؟ ينبغي له الكفّ عن العدّ الآن علي الأقل) يغمر كفّيه في الماء فلا يكاد يحسّ براحتيه الممزقتين كأنّهما ما عادا له، خلا وجعهما، وجع مُبرَّح له هسيس، يُشبه ماءً أريق في زيت مُحترق.
هذا أيضاً سيمرّ، يُفكِّر، إجهاد التجديف؛ إذْ سرعان ما سيضطر لحمل الحجارة علي مدي الأيام القليلة المقبلة أو ربّما بعض ساعات. لا يدري.
مع ذلك لابد أنْ يؤمن المرء في البدء كي يختلق. قبل كل شيء، يؤمن...
لقد سقط في فخّ الوهن، بل أسوأ، في فراغ تفكيره المداور. لكن تُري ماذا لو كان قد سقط بالفعل؟ أي ضرر سيلحق به ما دام السقوط أو الإفلات قد أصبحا بلا معني الآن؟ حتّي لو كان علي استعداد لعيش اليومين الماضيين مرّة أخري، حتّي لو كان مستعداً للتقهقر ثانية داخل الأرض السبخة كي يبدأ مِن جديد، فإنّ أندرونيكوسز لا يزال فريسة استبصاره... عنيناً أم لا.
ثلاثة وثلاثون عاماً هي عمره، نفس العُمر الّذي صُلِبَ فيه فلاح حين انقضت حياته فوق تلّة في فلسطين غير مُدرك أنّه قد غيَّر العالم...
لكن لا ينبغي علي »أندرونيكوس« أنْ يُفكِّر فيه علي الإطلاق. جرت في النهر مياه كثيرة ولازالت تجري، كما يبدو، مِن جرّاء المصلوب. لا فائدة مِن التدليس. تجري الأحداث لا بسبب الرجل المعلق فوق الصليب، بل بسبب الفتنة بين المؤمنين به مِن كلا الجانبين الّذين يؤمن كل منهم بنفس القدر أنّهم هم المؤمنون الحقيقيون.
ما فائدة إلقاء اللوم؟ اليوم، من بين كل الأيام...
يتوكأ علي وهنه.
تُشرق الشّمس مُستهلة بنسيم طري يمتزج بالماء. يري قعر البحر يتلألأ تحت ظلال خُضرة رنانّة عميقة، تُشبه زجاجاً أو فاكهة ناضرة أو ثلجاً. لا يرغب »أندرونيكوس« الّذي تمكّن منه التعب في الالتفات كي يري أنّ الجزيرة مَنْقوعة في نور الشّمس الأكثر كثافة. يعرف ذلك، ولم يرغب في النظر. تغمره قشعريرة خفيفة رغم دفء الهواء، ثمالة برد الليلة الفائتة التي بالكاد تبدأ في التطاير مع طلوع الشّمس. يحسّ »أندرونيكوس« بالرضا عن نفسه؛ إذْ مِن الجميل أنْ ننتبه إلي تفاصيل ملموسة حقيقيَّة، أحاسيس بسيطة كهذه تبقي علينا ذَاهلين. لا ينبغي له أن يغفو بعد.
تُعتم المياه فجأة رُبّما بسبب ظل أخضر أعمق يمتزج مع بقع سوداء وصفراء. يجذب »أندرونيكوس« المجدافين، ليس بحّاراً، بل بالكاد يُمكنه الزّعم أنّه تعلّم التجديف خلال الرحلة الليلة الماضية، لكن حين يُعتم الماء يجذب المرء المجاديف، أثر من معرفة عادية لا تتطلّب خبرة أو تأملاً مسبقين.
تتمدد الأعشاب المتموِّجة مثل سيقان زهرة، متسلقة إلي السطح. تتضح الصخور الآن. آن أوان النظر إلي الوراء كي يقرر أين يرسو بالقارب.
يبطئ ويُجدِّف بحذر كي يتحاشي اصطدام القارب بالأرض. ليس خبيراً بالباقي مِن حافّة الشّاطئ، لكن هُنا فوق النّاحية الغربية من الجزيرة، الشّاطئ كله صخري. ما يهمّ أنّه وصل. يرتفع الماء بشكل غير ملحوظ تقريباً فيستقيم ويتأرجح القارب. ثمّة فسحة رائقة محصورة بين الصخور- بادية تحت الماء- تُفضي إلي ضفة مفروشة بالحصي. سيجرِّب الالتزام بالفسحة الرّائقة.
يتبدد الظلام وينحسر ظلّ الجزيرة البادي في الأفق دفعة واحدة تحت الشّمس الطالعة. علي حافتها يُفسح الماء للحصي فيتردد صوت صرير من أسفل القارب. خافتاً في البداية، ثُمّ يعلو كأنْ سطحين خشبيين يحتكان ببعضهما. تملأ الحيرة »أندرونيكوس« هل يستخدم المجدافين أم لا، ذلك أنّه لا يرغب في تحطيم القارب، فيقرر أنّ الخوض في الماء أكثر أمناً.
يرفع ثوبه ويضع قدماً داخل الماء البارد. يرفِّه حِسّ الحشمة لديه عن نفسه فيضحك، ثُمّ يُرخي عليه ثيابه في الماء. وبرويَّة، يتمكّن مِن وضع قدمه الأخري فوق حافّة الشّاطئ دون إمالة القارب كثيراً. بعدها يغطس. كان الماء أكثر عمقاً عمّا خمّن و عمّا بدا. قعر البحر زلق، يحاول التقدّم بحذر خطوة تلو الأخري يتلمّس صخوراً مستوية بأصابع قدميه، ويجرّ القارب بمحاذاته. صار الماء أكثر دفئاً الآن فألفته ساقاه، أمّا ثوبه الّذي التف حول خصره ثُم تعلّق برُكبتيه فإنّه يلتصق الآن بربلتيه.
يطلع من الماء يقطر القارب الّذي يصطك قعره بقاع البحر الخشن. تؤذي الصخور قدميه. هذه صخور مستوية مدوّرة هائلة، مع ذلك فالمشي فوقها ليس بالأمر اليسير... يواصل »أندرونيكوس« سحب القارب بعيداً عن الماء بالقدر الّذي يحول بين الأمواج وبين جرفه نحو الصخور الضخمة. أمّا الخيار الأسلم فكان تحريكه إلي أعلي نقطة فوق الشاطئ. يقطر القارب تارة ويدفعه تارة أخري، يسحبه ويُجاهد كي يتحاشي إتلافه. الآن يُلملم مئونته وحذاءه وثوبه وسكينه والمطرقة التي اشتراها من السوق منذ يومين والأزميل والفأس. بعدئذ قرص الجبن وكيس الدقيق وجرّة العسل...
يضحك مرّة أخري وهِو يتفرّس في كَوْمَة المتاع غير الزهيد. هل سيعثر علي الماء؟ لابد. يضع المجدافين داخل القارب حيث يساوره ظنّ أنّه سيكون بمأمن هُنا، ذلك أنّها إنْ تُمطر توفِّر له الصخور العالية ملجأ يحميه وتصرف مياه المطر بعيداً عنه. أمّا الشّاطئ الشّاهق المفروش بالحصي فسيصدّ المدّ أو تهديد الأمواج. قراصنة؟ إذا جاءوا فأهلاً بهم: لا طاقة ل »أندرونيكوس« بهم. يستقر رأيه علي ترك القارب هَهُنا.
يضع كل ما كوّمه فوق الأرض داخل كيسه ويلبس حذائه. يلف الأربطة حول كاحله مرّة واحدة ثُمّ يربطها. سيترك الكيس خلفه. يستطيع العودة إليه بعد حين، أمّا الآن فعليه العثور علي سبيل، رُبّما درب أو ماء...
يطوي الكيس أسفل القارب، تحسباً، لكنه قد يحتاج السكين أو الحبل. يسحب الكيس ويفكّه، يُخرج سكينه والحبل ثُم يحشر الكيس مرّة أخري أسفل القارب. يُمرر الحبل خِلال حلقة في مقبض السكين ويربطه حول خصره. كفّاه خاليتان. مضي زمن طويل جِدّاً لم تذق خلاله كفّاه طعماً للحريَّة، للعتق...
كان يحمل الأيقونات حين لا يكون مشغولاً برفع الصليب، المبخرة أو يدي الكفيف أو الكسيح، الأطفال، أفواههم وشفاههم، الشموع والأناجيل والمسابح... المجاديف، المجاديف السّاهرة المنيعة...
يهزّ جسده، لم يأن بعد أوان النوم. يتفحّص ما يُحيط به. الصخور شديدة الانحدار، مع ذلك لابد أن يتسلّقها ويشقّ لنفسه طريقاً. لا يُمكنه البقاء علي الشّاطئ، وعليه أن يتسلّق التلّ. لابد يعمل ذلك بأي طريقة.
تتألق السماء فوق التلّ. يقرر الاتجاه يميناً، ذلك أنّ الصخور عن شماله القريبة من القارب لا تبدو مُشجِّعة. حتّي إن شرع في تسلقها لن يبتعد كثيراً، ذلك أنّه يعجز عن رؤية أي شقّ يتشبّث به أو يعوِّل عليه موطئاً لقدمه. عن يمينه رُبّما ثمّة طريق...
يمشي عبر قوس الشّاطئ المفروش بالحصي الضيق بمحاذاة الجرف الشّاهق، إلي أن يصل إلي طريق مسدود ويجد نفسه تقف أمام فمّ خليج صغير. يعلو الماء المحشور بين الصخور الشّاهقة قبالة ما يبدو أُخدوداً. يُثبِّت »أندرونيكوس« عينيه علي هذا الأخدود ويري أنّ الماء لا يُغطيه كُليَّاً، فيخلع نعليه ويضعهما فوق صخرة ويُلقي بنفسه في الماء. تنجرح قدماه كأنّهما احترقتا، وفي كل مرّة يحركهما يمتزج خيط رفيع من الدمّ مع الماء. لقد كان ما قام به ضرباً من الحماقة. لابد أنّه رأي الرّواسب الكلسيَّة المحززة والأصداف المسنونة التي تغطي الصخور. صار أكثر تعقلاً الآن، لكن فات الأوان كثيراً... فالماء المالح يُسكِّن آلام جروحه. يتحرّك بتأن ويبدأ قاع البحر الصخري في الضيق. يحسّ بضرورة فكّ الحبل المربوط حول خصره فيتجرّد من ثيابه ويغوص عارياً كي يغمر جسده كاملاً بالماء. ينشر ثوبه كي يجفّ علي الشّاطئ ويثبِّته بحجر...
يزحف داخل الماء بترو كي يتحاشي إيذاء ركبتيه وراحتيه وبطنه. وسرعان ما يبلغ فوهة الأخدود. عليه أنْ يحسم أمره، هل سيدخل؟ سيجرِّب.
يُصغي. في كل مرّة يمور فيها الماء عبر الفتحة يسمع جَلْجَلة مِن بعيد. رُبّما يُفضي الأخدود إلي كهف. لابد أن يُجرِّب الدخول. لما كان صبيَّاً في السنين التي سبقت دخوله الدّير، اعتاد الخروج من أسوار المدينة كي يسبح برفقة أطفال الحي الآخرين. تعلّم كيف يسبح بمهارة وكيف يغطس. الآن صار علي وشك القيام بشيء لم يقم به منذ سنين.
يلتقط نفساً عميقاً ويندفع خلال الفتحة. يناوش عُشب البحر بطنه وفخذيه. ما مِن أصداف. عليه أنْ يمدّ ذراعيه بموازاة رأسه كي يمرّ، ذلك أنْ الفتحة تضيق. لكنه يعجز. يلهث، ويجب ألا يغرق. عليه الرجوع. يُسرع بالعودة، أسرع... إلي أنْ يُحيطه النور فيدفع برأسه فوق السّطح. يصيبه الدوّار فيلتقط نفساً عميقاً آخر ويغطس مِن جديد. هذه المرّة يمدّ ذراعيه مسافة أبعد ويتشبّث بالصخور ويدفع جسده عبر الفرجة الضيقة. يعلم أنّه لن ينجو لو أنّ السطح وعر، لكن يلفيه سهلاً. يُخرج يديه من الماء، ثم تبرز رأسه. ينتصب داخل كهف واسع.
كان المكان بأكمله منقوعاً في خضرة غائمة. في وسط الكهف بركة، ماؤها مصبوغ بأغمق درجات الزبرجد، أمّا القاع فتكسوه صخور بيضاء نظيفة ملساء زلقة. يُدقق »أندرونيكوس« النظر فيما حوله قاعداً فوق الحافة. يُمكن للواحد الحياة هُنا فترة، لكن صعوبة الوصول إلي المكان تجعل الفكرة مُنفرة. إضافة إلي ذلك، هِو ليس هارباً ولا خائفاً، لِمَ إذن يمكث هُنا؟
كان الماء يزداد دفئاً، لكن البرد يغمر »أندرونيكوس« رُبّما لأنّه لم ينم إلي الآن. عليه أن يظل يقظاً مُدّة أطول؛ إذْ ليس واثقاً بعد مِن أين يأتي النور. تنضح الفرجة بقدر ما لكن المصدر الحقيقي لهذا اللون الأخضر نصف الشفاف الفاتن لابد في مكان آخر. يجوز ثمّة فرجة أخري. فتحة أخري، خليج صغير آخر...
يرجع داخل الماء ويلتقط نفساً عميقاً ثمُ يغطس. يتحرّك ذراعاه بحريَّة أكبر هذه المرّة ويمر خلال الفرجة. يزحف لحظة ويخرج من الماء. أشرقت الشّمس وصار الهواء دافئاً. يمسح الماء عن جسده العاري بكفّيه ويلتقط ثوبه من فوق الصخرة. جفّ. جميل. جميل جِدّاً. يحسّ بالانتعاش. لابد أن أنزل كل صباح لاستحم، يُفكِّر، بعدها ينتبه: كي ينزل، عليه أولاً تسلّق...
يتفحّص الصخور الشّاهقة المحيطة بهذا الطرف من الشاطئ المفروش بالحصي. في الماضي، اعتاد نبلاء المدينة المجيء إلي هذه الجزيرة طلباً للنزهة. رُبّما لم ترس القوارب البهيَّة الفاخرة علي هذا الجانب من الجزيرة، مع أنّه الأقرب من المدينة. رُبما عليه أن يرتاح اليوم. وغداً يمكنه التجديف إلي الجانب الآخر كي يفتِّش عن درب قديم يتسلق من خلاله التل. أيَّاً يكن ما يتطلبه الأمر ينبغي عليه تسلق التل؛ إذْ من فوقه سيتمكّن من رؤية الجزيرة بأكملها، وربّما يكتشف بناءً استخدمه ذات يوم رجال الحاشية الّذين تسلوا فوق الجزيرة. حتّي بين الأنقاض مِن الوارد أن يصادف ركناً صالحاً للسكني، أو طوباً أو قرميداً يمكنه استعماله. »أندرونيكوس« ليس واثقاً؛ إذْ ربما عثر آخرون علي ملجأ في تلك الأنقاض، أو رُبّما استوطن صيادو السّمك المكان هُناك. مع ذلك، لا يوجد الكثير مِمَن علي استعداد لتجشّم عناء تسلق التلّ. يُقرر »أندرونيكوس« أن يُجرِّب.
يلبس نعليه، وفوق الكهف مباشرة يُبصر صخرة مستوية ستتلقي خطوته الأولي.
كانت الشّمس قد بلغت كبد السماء وأشعتها تلهب ظهره. لابد أن يبلغ بستان الصنوبر مهما يقتضي الأمر، ذلك أنّ جسده المنهك لن يطيق الحرّ.
يستطيع الواحد النّوم تحت أشجار الصنوبر وأكل لقمة خبز. في الليلة الفائتة قطع رغيفاً وظل يمضغه مُدّة طويلة، ومنذ ذلك الحين لم يذق طعم الزّاد.
في اللحظة التي يستقيم فيها فوق الصخرة يتراءي له التسلّق طيعاً. ويكتشف فوقه مباشرة صخرة مستوية أخري تُشبه الصخرة أسفل قدميه. تتفتت شظايا الصخرة وتهوي في كل مرّة تحاول فيها يداه التشبّث بالسطح، ويكتشف استحالة التمسّك بالتربة. يجوز لو شقّ الصخرة بسكينه؟ تمتثل التربة ببطء لطرف النصل ويبدأ حزّ صغير في الظهور. يحتاج للحفر أعمق قبل أن يتمكّن من أن يطبق فيه بكفّيه. يتسلل ألم حاد إلي ركبتيه. لو يتمكّن من العثور علي حزّ آخر، لدفع بجسده إلي أعلي. إجهاد آخر مُضاف... يُمسك بجذر مكشوف ويصبح ما تبقّي أسهل. يعجب »أندرونيكوس« مِن نفسه حين يبلغ الصخرة المستوية التالية، إذْ لم يكن متأكِّداً من قدرته علي ذلك.
مِن هُنا فصاعداً، يصير الجرف أقل انحداراً، ويصير في وسعه بلوغ قِمّة الجرف بالزحف علي ركبتيه فوق ممر تُغطيه إبر الصبار الناشفة. لا يسع المرء أن يحتاط تماماً لها. ما لبث أنْ وقف بين الأشجار التي بدت مثل شموع رخصت وانثنت واعوجت بتأثير النار. أيكة من الشموع العملاقة لها ألسنة ممدودة فاحشة وخضرة قاتمة... يواصل المشي. الأرض الآن منبسطة تقريباً لكن لا تزال زلجة. لديه ما يكفيه من الخبز داخل جِرابه يُخفف من جوعه، علي الأقل برهة. الكسرة الباقية من الليلة الماضية. بعد قليل سيضطر للنزول طلباً للمؤن. فكرة النزول تثبط عزيمته، لكنه سيتعامل معها فيما بعد، أمّا الآن، فيحتاج ألا يفكّر سوي في التسلق. ذلك أنّه في حاجة للعثور علي سبيل أو شق ممر، كي يواصل الصعود.
يهبّ نسيم خفيف تحت الأشجار، وتهمهم جلبة البستان الخافتة قليلاً بين ثناياه. أريج الصنوبر. لكن بخلاف رائحة الأشجار القليلة المتناثرة حول حديقة، هاهنا الأريج الطاغي القوي لأشجار صنوبر تترامي بعيداً عن مدي بصره، تُغطّي كل ما عدا البحر. يعجز عن احتمال العِطر، فيُخفض بدنه ويسند ظهره علي شجرة. النسيم ليس بارداً، بل دافئاً، فوّاحاً. مع ذلك يحسّ ببرودة ما فوق جلده. لا تنس البحر أبداً، يقول لنفسه. ويسمع صوته- خافتاً متبرماً. يلزمه الاعتياد علي سماعه. يلزمه التذكّر، كي يبعث كل ما طالبه الدير بنسيانه. حتّي إن اضطر للعيش مثل هؤلاء الرهبان الذين كابدوا بائقة الخلوة غير الدنيويَّة فوق هذه الجزيرة، منذُ ثلاثمائة أو أربعمائة عام مضي. دون أن يهتز إيمانهم أبداً، سواء عاشوا فوق قِمّة تل أو داخل البرية أو القفار. علي الأقل، هكذا آمن الناس.
تُري هل كانت هذه هي الحقيقة؟ أمّ أنّه الإيمان الّذي أرضي الّذين اختاروا التخلّف داخل القري أو داخل المدن، هؤلاء الّذين يعيشون معولين علي رفقة الآخرين لأنّهم عاجزون عن الفطام عمّا في الملأ مِن تسكين؟ لا أحد عرف الحقيقة. داخل الدّير، تحوّل بعض النُسّاك إلي أساطير. آمن الناس أنّ قوة إيمانهم كانت تقهر الجبال والوحوش الضارية والشيطان... مع ذلك، لا يزال ثمّة عدد غير قليل مِنهم مِمَن أربكتهم العُزلة ومُغالطات الأحلام التي توهموا أنّها الحقيقة، الّذين استساغوا أصواتهم وظلالهم بلهفة واعتبروها إشارات لآخرين، لمخلوقات روحانيَّة. وإلا، تُري كيف يُمكن للمرء أن يُفسِّر الأساطير التي لا تُحصي عن صراعات الرهبان مع الشيطان، ونزاله فوق قمم الجبال، أو وسط الصحاري؟
لِمَ استبد الخوف مِن الشيطان بالبشر، الشيطان الّذي لم يره أحد أبداً داخل المدن المزدحمة حيث لا أحد يمشي دون أن يدوس فوق قدم أخري؟
يُقدِّر سأندرونيكوسز أنّ الوقت غير ملائم لمزاولة مثل تلك الأسئلة؛ إذْ عليه في البداية أن يُعاين المنطقة ويتحراها ويعرف بيئته المحيطة...
بطريقة ما، يخطر له أنّ الصفر الّذي يسميه علماء الرياضيات مُطلقاً- ومفاجئاً- مُغاير لكل الألفاظ التي تذرّع بها حتّي الآن حين يُفكِّر في العدم. الله وحده القادر علي تبديل الفوضي إلي نظام، لكن البشر هُم مَن اضطر إلي تجاوز الصفر، إلي واحد، إلي اثنين، إلي ثلاثة... والغابة المحيطة به الآن هي الصفر، ومهمته هي بلوغ الواحد، الاثنين، الثلاثة، النزوح بعيداً عن هذا الصفر... أن يسوِّي شيئاً تلو الآخر، أنْ يفكّ مغاليق رمز ما بقدر ما تسمح له قوته وعقله وإنسانيته...
منذ زمن ليس ببعيد، كان قادراً علي مقاومة التفكير في شروط الضرورة، ولا يزال عازماً علي مقاومته. يشبّ بعيداً عن الأرض ويرفع بصره إلي أعلي ويري الأشجار أصبحت أقل فوق التل. وحيث يقف الآن، تبدو كثيفة في احتشادها، كل منها تحمي الأخري. رُبّما كان مُخطئاً. مع ذلك، يبدو أنّ نوراً أكثر ينفذ بين الأشجار البعيدة... سيري حين يصل إلي قِمّة التل.
يتسلّق. أتمّت الشّمس طلوعها وأشعتها تصل إليه من خلال الفُرج بين الأشجار. يمشي ناحية الشرق ويُقدِّر أنّ ساعات ثلاث تقريباً تفصله عن وقت الظهيرة. لا الوقت مُبكِّر ولا متأخِّر. لكن لو يرغب في تناول شيء أو رُبّما الراحة قليلاً، عليه أن يتسلّق وينزل إلي الشّاطئ ثُم يتسّلق مرّة أخري. ما مِن سبيل آخر.
يقطع كسرة من الرغيف الّذي كان يحمله في جِرابه ويضعها في فمه لكنه يمضغها فحسب. سيلهث إذا أكل أثناء التسلّق وعليه أن يجاري نفسه، فلا يبطئ كثيراً أو يسرع كثيراً أثناء الصعود. عليه أن يوازي بين إيقاع التسلّق وإيقاع قلبه وصدغيه ونبضه. الإيقاع السرمدي الفذّ الّذي وضعه الله داخل البشر. إيقاع متغيّر لكنه لا ينتهي، إذْ النهاية تعني شيئاً واحداً، لا شيئين.
الموت غير ذي نفع، فارغ. ينسي »أندرونيكوس« اللقمة داخل فمه. علينا تحاشي الموت بأي ثمن ما لم يتداعي الإيقاع الجوّاني، ما لم يقرر الله إيقاف ما خلقه سائراً، آنئذٍ لا حيلة. لكن لو أنّ يداً فانية تطعن جسدك كي تخنق هذا الإيقاع، آنئذٍ يمكنك القيام بشيء واحد فحسب. أن تنتزع تلك اليدّ وتثني ذلك المعصم بكل ما أوتيت من قوة، وإذا لزم الأمر تقطعها. لا ينبغي لنفس أن يكون لها الحقّ في انتزاع حياة أخري. أو، يُمعن »أندرونيكوس« التفكير، يمكنك القيام بشيء آخر. الهرب. كما يفعل الآن. لأنّه لا يمتلك ما يكفي من القوة ليثني المعصم أو الإيمان الكافي لمساعدته علي العثور علي القوة... الهرب...
مرّة أخري مُدركاً اللقمة داخل فمه، يمضغ سأندرونيكوسز الكسرة الإسفنجيَّة الممتلئة بلعابه، ويحسّ طعمها الكريه في حنكه. جذوع الأشجار بهيَّة. راسخة، داكنة، عَطِرَة. لم تعد تذكّره بالشموع الذّائبة بفعل الحرارة، ولا، فيما يتعلّق بهذا الشّأن، بحاجته للعثور علي الحطب. ويطرب لمرأي الطبقات الخشنة الطبقة تلو الأخري من اللحاء الرفيع- يُشبه جُزراً تناثرت علي صفحة بحيرة ضحلة- الّذي يتراءي غضّاً للعين... جنب الشقوق العميقة، تتألق- علي رغم من إعتامها قليلاً- دغدغة راتِينَج حريف...
ينبغي عليه أن يُفكِّر في أشجار الصنوبر جنباً لجنب مع كيزانه- مشقوقة، فالقة، ولم تنشق بعد- جنباً لجنب مع الإبر التي تفرش الأرض. ليس الصنوبر محضُ شجرة، بل هو الطبيعة ذاتها، دورة حياة كاملة، الأرض تحته والسماء فوقه، مُبددة بين الكيزان اليابسة المسوّدة كيزان أخري خضراء سقطت بلا مُبرر- مثل حيوات بدائيَّة أو أحلام منقطعة... ما دامت الرياح الوحشيَّة أو الشّمس أكثر مِن أي شيء آخر ما تسبب في سقوطها. ما دامت يد أخري لم تقطفها من الغصون...
يُفكِّر في قطع لقمة أخري من رغيف الخبز، لكن يقرر التمهّل. كم هِو مثير للضحك الاهتمام بأمر كيزان الصنوبر في حين يُحرث القمح وتُذبح الحملان. يُمكن لكيزان الصنوبر، هي الأخري، أن تكون صالحة أحياناً، هكذا إن تعجز عن العثور علي واحد فوق الأرض، اقطف واحداً. البشر ذوو سيادة، أحقّ هذا؟ ألم يخلق الله كل شيء للإبقاء علي حياة البشر؟ بخلاف الخرف، ما مِن أحد يستطيع مماراة هذه الحقيقة الأساسيَّة، يُفكِّر »أندرونيكوس«. يرغب في دحضها ويفشل. مع ذلك، سمح للسؤال بدخول رأسه. يُغمض عينيه ويرغب بالتفكير في شيء آخر. لأنّ المرء لو يستطيع دحض هذه الحقيقة الأساسيَّة، ماذا يبقي إذن؟ قطعاً لا يزال لا وجود لما يبرر استغلال البشر للبشر، لا يُمكن تبرير ذلك ألبتّة.
إنّ الله لم يخلق البشر كي يصيروا مطايا لبعض. حقّ، لكن ماذا لو أنّ التفكير بطريقة أخري يطيب لنا، في وجود الغطرسة التي غرسها الشيطان فينا... يخفق صدغاه، ويُدرك »أندرونيكوس« أنّه لم يشرب ماءً منذ ساعات. لكن جرّته الفخّار لا تزال علي الشّاطئ، داخل القارب... لن يكفيه الماء في الجرّة أكثر مِن يومين، أو ثلاثة علي الأكثر. بعد ذلك، ستتعفّن، ويملؤها الدود. كان »أندرونيكوس« قد ملأها من البئر الموجودة بوسط القرية حيث اشتري القارب، ويصعب التقتير في استعمال الماء في ظل تلك الحرارة. كان عليه التفكير بصورة أسرع بشأن توفير الماء؛ ذلك أنّه يبدو جليَّاً أنّ هذا الواجب أهم بكثير من تسلّق التل. ليس الماء فحسب، بل الينبوع الّذي يتذكّر سأندرونيكوسز أنّه قرأ عنه في كتاب راهب مُتقشِّف. الينبوع المترقرق الّذي وصفه الرّاهب لابد أن يكون في بقعة ما هُنا، وسيتوجب علي سأندرونيكوسز العثور عليه كي يبقي علي سطح الجزيرة...
كي يبقي هُنا. لو أنّ عليه الرحيل لأنّه لم يجد الماء فسينتهي به الحال وقد أهدر أيامه في التسكّع. وسيضطر للتمهّل قليلاً باستيطان مكان ما، والقيام بعملٍ ما. لن يتغيّر الكثير، عدا المكان، مع أنّه في هذه اللحظة يعجز عن التفكير في موقعه بالتحديد. حتّي الشاطئ المقابل يبدو وكأنّه يذوي بعيداً عن ناظريه... ولا مشاحة أنّ العودة إلي المدينة أمرٌ غير وارد. لا يرغب في الطواف هائماً علي وجهه. أمّا عن عمل شيء...
صنيعة العادة. يعجز البشر عن الحياة دون التفكير في عمل شيء. مع ذلك، كي نعمل شيئاً، لنقل نربي نحلاً أو دجاجاً أو طيراً أو أغناماً أو نرعي نباتاً، خضرواتٍ أو فاكهة... يضحك. يحتاج المرء إلي العالم كي يقوم بتلك الأشياء. بيضاً، دجاجاً، بذوراً، شتلات. يُمكنه العثور عليها في إحدي القري الموجودة علي الشاطئ الآخر، لكنه يفتقر إلي المال كي يشتريها، ولو قال للقرويين إنّه راهب، ربُما يسخرون من هيئته كراهب، وإن لم يقل، سيملؤهم الشكّ. في ذلك الزمان، علي القرويين الشكّ في الآخرين أكثر مما عداهم.
لكن هذا ليس وقتاً مناسباً للتفكير بهم. بل بالتلّ والماء والمأوي. أو بالأحري، الماء والتلّ والمأوي. ما من سبيل آخر.
يقع بصره علي بضع صخور وراء الأشجار. تكسو الطحالب الصخور. كانت الكُتب قد وصفت الطحالب علي أنّها صالحة للأكل. تكبح الجوع وتروي العطش، لكن لا يزال وقت قبل أن يضطر لتجربتها.
يُصغي »أندرونيكوس« إلي النسيم وحفيف الأوراق وخفقان الأجنحة وصيحات النورس والجداجد التي تبدأ في إصدار الأصوات مترددة. يري نبتة الخلنج تنمو بين الصخور. حَتّي لو أنّ هناك ينبوعاً، لن يتمكّن من سماعه. يعلم أنّه لا وجود لشلالات صغيرة أو ماء جاري علي سطح هذه الجزيرة، وعليه مواصلة السير علي قدميه. ثابتاً، ودون توقّف.
تبدو الصخور الآن كأنّها متضامة صخرة فوق أخري، درجة تلو الأخري. مَمَر، دَرَج من نوع ما. تخومه الطحالب وتكسوه إبر وكيزان الصنوبر الجافّة، وصدف مصون بشكل مثالي يتألف من حشرات لا يمكنك العثور عليها داخل المدينة، حيثُ تدوسها الأقدام وتسحقها وتبددها مع الزّمن فتصير تراباً. بخلاف هُنا.
المدينة... ماذا يجري هُناك الآن، يتساءل. مَنْ يُوطأ الآن؟ ماذا سُحق أو حُرِق في الشوارع؟ وكيف، بأي طريقة؟ أصدقاؤه الذين لم يروه بين الإخوان هذا الصباح، كيف تصرفوا مع مسألة غيابه؟ هل هرعوا لإبلاغ رئيس الدّير؟ أم تمهّلوا؟ ولو تمهلوا، حتّي متي؟ ولو أبلغوا، ماذا قالوا؟
لابد أنّهم انتظروا إلي بدء المجلس العام الّذي يُفترض أن يرأسه رئيس الدّير عقب قُدّاس الصباح مُباشرة. ذلك أنّه قبل الحشد العام، كان يُنتظر من كل راهب التطوع للتبرؤ من المعتقد العتيق، والتأكيد علي أنّ عينيه أبصرتا أخيراً رجز الوثنية المروِّع، وأن يُقسم ألا يسمح لنفسه أو للآخرين بارتكاب مثل هذا الإثم. آنئذٍ ينبغي الانتباه إلي هروبه، أو بالأحري غيابه. راهبان فحسب سيعلمان أنّه هرب. »لواكيم« و»أندرونيكوس« سيعرفان، حين يتذكران حالته القلقة قبل أمس، وطلبه المفاجئ للغفران من أجل زيارة المدينة، صوته المضطرب الحائر... ربّما يقودهم غيابه عن قُدّاس المساء إلي الاعتقاد أنّه قبع داخل صَومعته، لكن الصباح ربما أوحي بخلاف ذلك. علي أي حال، لو انتظروا إلي المجلس العام، فليس لأنّهم أرادوا أن يظفر بالوقت، بل لأنّهم كانوا يجهلون طريقة التصرف. وحينما تشيع أنباء فراره، سيدعوه حواريوه بطلاً، والّذين ينفرون منه سخائناً. أمّا كارهوه...
عن شماله تُفضي الغابة الصغيرة إلي رقعة خالية مفاجئة. يتسلّق »أندرونيكوس« صخرة مكبوسة بين كتلتين ملتزتين من الأشجار. البحر، البحر المتألق الهادئ الواسع الأزرق. زرقة فريدة جسورة، فيء يطغي علي زرقة شَمْلة الأمّ مريم كما وصفتها الرسومات. زرقة، تخلو من اللون الأحمر أو الأخضر أو الذّهبي. ينتبه للكتلة الصخريَّة الصغيرة غريبة الشكل علي الجانب الآخر من الجزيرة. هي الأخري تُعرف بوصفها جزيرة لكنها تخلو من الماء. ظمآنة، مُجرّدة، باستثناء الأشجار الجائعة. وراء تلك الجزيرة، قُدّام، تخوم الشاطئ المقابل الضبابيَّة غائبة في قلب الغيم. أمّا القرية التي اشتري منها قاربه، نقطة انطلاقه، فهي الآن مُجرّد بقعة في الأفق. إن لم يكن يدركها، فعليه أن يحسّها بقلبه وإلا فلن يتمكّن من التعرّف عليها من هُنا. ببطء، ببطء شديد، يُدير رأسه ناحية اليسار، كأنّما يغمره الفزع والعزوف. في الغيم، فوق بقعة أكثر قتامة من غيرها، احتشد مئات الناس تحت القباب يتبرأون من القديم ويحتضنون الجديد...
ليس بطلاً، بل يقف بمكانٍ ما بعيد تماماً عن البطولة.
لكن هؤلاء الّذين كرهوه... لِمَ كرهوه؟ بين الفينة والأخري، كان ثمّة قليلين أرادوا علاقة أوثق معه، لكنه لم يشجّعهم أبداً. داخل الدّير، الجميع أشقاء، وكان هذا كافياً. لم يهتم »أندرونيكوس« بالتقرّب من أحد، ولبعض الوقت، تحاشي التورّط في نقاشات؛ لأنّها لم تكن تثيره. ذلك أنّ نقاط الخلاف واضحة منذُ البداية، ومِن ثمّ لا تستحق الجدل بالأساس. وناهيك عن أن يُفضي الجدل إلي أي استنتاجات جديدة، فإنّه لا يوفِّر إلا رخصة للبعض للتذّرع ببعض الأسماء الموقرة والتستر خلف تلك الظلال المهيبة- في حين لا ينزلقون أبداً إلي دسّ عبارة سفي رأييز بكل جملة- ويرهبون السّامعين بهراء لا متناهٍ يتعذّر قياسه وبعيد عن التصديق. هذا كل ما يجنونه. جنوه. لابد أن يؤلف عباراته الآن في الزمن الماضي.
في البداية كان الهلع يستولي علي »أندرونيكوس« فلم يشارك في تلك النقاشات، ولا رغب في المشاركة، ولا عاد قادراً عليها. الأسوأ من ذلك أنّه لا أحسّ بالدافع ولا بالرغبة، لأنّه- وهذا ما أفزعه- لم يؤمن لا بأهمية ولا ضرورة مباحث النقاش. كان الجدل بشأنها عبثاً. وبدا له أنّ البشر أحجموا عن الأصول، وتكلّموا بدلاً من ذلك عن التفاصيل الثانوية. كان الوضع يُشبه التغاضي عن أساسات مبني لصالح الجدل بشأن لون أو شكل قرميد السقف.
كان منزعجاً من نفسه. لقد تمكّن مرّتين أو ثلاثة من الإفصاح عمّا يدور في ذهنه حين اكتشف بؤس الأولويات لدي إخوانه، حينها التفت الرهبان إليه وضحكوا ونبذوه بالقليل من تعقيباتهم الصارمة. لكن فيما بعد بدأوا في النظر إليه ببعض الريبة.
علي أكثر تقدير، لم يكن لدي هؤلاء الإخوان أي وساوس بشأن الإعراب عن تأييد راسخ لصيغة أو إيمان جديدين. يُحتمل سيدعونه سخائناً.خائنز. لأنّه هرب. أم أساء تقديرهم، وحمّلهم آثاماً لم يقترفوها؟
وماذا عن هؤلاء الّذين أحبوه؟ سلواكيمز؟ وسأندرياسز؟
يستقيم سأندرونيكوسز فوق الصخرة التي كان يُحدِّق من فوقها حالماً في البحر، والشاطئ المقابل.
كان »لواكيم« شابّاً، لكن دمث. كان شعره الأشقر بدرجات البني التي تضفيها جدائله. لحيته المجعّدة، شاربه، أشقر وأحمر وكافة الظلال بينهما. لواكيم« المهذّب. المترهبن المستحي الّذي، في الأيام الأولي، نأي بنفسه عن الرهبان، الّذي تعلّم شيئاً فشيئاً الحفاظ علي طرفي شفتيه مائلين كأنّما كان علي وشك أن يبتسم، الّذي تعلّم أن يبتسم، أن يستبطن وجوده، أن يطرح علي نفسه أسئلة، وأن يقبل الإجابات بعد عن يزنها. سلواكيمز. الآن في المحفل الكبير، ربّما جاء دوره. إذْ لن يستغرق أربعون راهباً وقتاً طويلاً- ما كان لهم غير ذلك- في قسم عبارات قليلة.
أم لعلّ غياب »أندرونيكوس« أطال أمد الطقوس.
لو كان »لواكيم« قد تقدّم بالفعل، فلابد أنّه أتمّ قسمه عبر عدد قليل من الخطوات الحائرة: لابد أنّه تجشأ عدة مرّات، بعدها أقسم بصوت راسخ وخافت.
ربما يشعر بالغضب من »أندرونيكوس«.
لأنّه رحل دون أن يُصارح »لواكيم« دون أن يصطحبه معه. ولأنّه لم يثق به بما يكفي ليصارحه بوجهته.
لقد أراد »أندرونيكوس« القيام برحلته وحده، ولم يرغب في الزجّ بأي أحد إلي محنته.
لهذا السبب، اتجه أولاً إلي جالاتا، اشتري مئونته، ورتّب مع أحد البحّارة هُناك علي اصطحابه إلي خلقدونيا. كان مقرراً أن يتركه القارب المحمّل بالبضائع المتجه إلي نيكوميديا في خلقدونيا. رُبّما لم يتعرّف عليه إلا أحد الرّكاب. تاجر نسيج كان بين أصدقاء طفولته. لعبا في الشّارع وسبحا معاً... واحد منهم.
لقد تعرّف عليه »أندرونيكوس«. كان الآن قد صار كهلاً يلبس طوقاً واضحاً للعيان، ويضحك من قلبه. راح يسوي ثيابه الزّاهية كأنّه يجذب العيون إلي نجاحه كتاجر. تثبّت »أندرونيكوس« من الحفاظ علي مسافة آمنة. رُبّما لم ينتبه الرّجل إلي وجود- دون أن يعني ذلك أنّه يعير اهتماماً لانتباهه من عدمه- هذا الراهب الهارب ذو اللحية الطويلة وقلنسوته التي تغطّي شعره البُنّي الطويل الّذي شاب في أماكن، وثوبه الحائل الّذي صار الآن أخضر غامقاً بدرجة أكبر، وأحمر قان أكثر منه أسود، مثل ظهور الغربان المرقشة.
لكن »لواكيم« لم يكن يتمكّن من اكتشاف مستقر »أندرونيكوس« بغض النظر عن جهده في المحاولة.
الآن تبلغ الظهيرة ذروتها. وعلي »أندرونيكوس« النزول من الصخرة كي يستأنف سيره.
إنّ ما يفعله خبل. يبدأ سطح البحر الوامض في إنهاك نظره. والوقت يمضي. لابد أنّه من الأسهل المشي بمحاذاة الصخور.
تعلو الصخور مثل دَرَج. وقَدْ صارت الصراصير أكثر صخباً، فراحت ترسل أزيزاً مدوِّخاً. رائحة النسيم تغدو أثقل. والأيك يُطلق شذاً ذكيَّاً فاحشاً معبقاً بالعسل. أمّا الصنوبر، المنقوع في سخونة الجو، فيخلط الرائحتين معاً ويطلقهما في الهواء.
يا الله، هل سأتمكّن من العثور علي النبع قريباً؟ يتساءل سأندرونيكوسز... ويسمع صوته يتردد. لم ينتبه إلي أنّه يتكلّم بصوت عالي. لابد أن يولي انتباهه لهذا. علي المرء أن يعرف دوماً ما إذا كان يتكلّم بصوت عالي أم يُفكِّر في نفسه.
نور الشّمس المتدفق خلال الفتحات بين الأشجار حارقة. يمكث »أندرونيكوس« هادئاً. يطمئن علي بقاء أفكاره لنفسه، ويواصل تسلّق التلّ. لن يتمكّن »لواكيم« من العثور عليه، ولابد أنّه يستشيط غضباً لأنّ »أندرونيكوس« رحل دون أن يقول له. لابد أنّ لواكيمز حلف القسم، قاطعاً العهد بالولاء الراسخ للعقيدة الجديدة.
في الأيام الأخيرة، كان »لواكيم« يُفتِّش في عقل »أندرونيكوس« يحاول أن يقتاس به السياق الصحيح للعمل، تُري هل تبيّن أنّ الشائعات التي راجت كانت حقيقيَّة.
طبقاً لتلك الشائعات، كان المرسوم صارماً. الصلاة أمام الأيقونات المرسومة، أو تقبيلها، أو انتظار أي شيء منها، ليس إلا شيئاً من الوثنيَّة. حتّي حين، كان الناس في الأقاليم الشرقيَّة الآن يستهجنون مثل هذه الممارسات التي من شأنها، في وجهة نظرهم، تعبيد سبيل محتوم إلي الهلاك. كذلك كان هناك العرب- مصدر توتر الولاية، وهم معروفون بعدائهم للأيقونات المرسومة. أمّا بالنسبة للسبب الّذي لأجله شغل الإمبراطور البيزنطي نفسه كثيراً بمثل تلك الأمور، فليس واضحاً بالضبط. لقد اعتبر المرسوم أنّه من غير المعقول بالنسبة لدين يُحرِّم عبادة الأصنام أن يجعل الوثنيَّة جزءاً من العبادة داخل كنائسه. في الوقت نفسه تقريباً، بدأت تنتشر بيانات مفادها أنّ الكنيسة لم يسبق لها أبداً أن اعتنقت بوضوح ولا بصورة رسميَّة موقفاً يُحابي الأيقونات المرسومة. لو كان هذا هو موقف الكنيسة، لماذا إذن غمرت الأيقونات الكنائس؟ لِمَ آمن الناس، بدءً من الإمبراطور مروراً بالجميع حتّي الشحّاذ في الشارع، أنّ تلك الأيقونات كانت مُقدّسة؟ كان »لواكيم« يحاول استيعاب هذا. أمّا »أندرونيكوس« فقد آثر ألا يُفكِّر حتّي في ذلك، مع أنّه هو الآخر، كان في حيرة.
أصنام، أيقونات، كل أشكال اللوحات ينبغي إزالتها، لابد من إحياء شكل من العبادة خالي من الوثنيَّة. كان هذا أساس دين حقيقي. أمّا الأيقونات فلا ينبغي إزالتها فحسب. كان ثمّة محاولة في السابق، حينئذٍ كان لهذا الإجراء عواقب رهيبة، أسوأ، مباشرة علي بوابات القصر. حقّاً، لم تكن تلك الواقعة تتعلّق بالأيقونات المرسومة فقط، بل كان ثمّة شعور مسيطر بين الجماهير المذعورة أنّ الإمبراطور يسعي تقريباً لوضع نفسه مكان المسيح. لم يكن ينبغي علي الإمبراطور، هكذا قيل، أن يُشجِّع مثل تلك القلاقل مرّة أخري. سيحرقون الأيقونات.
تُحرق. لسحق المعارضة. لتقليم أظافر المقاومة. لإحباط التفاني الأعمي للعقيدة القديمة. الآن أو في المستقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.