بعد افتتاحه رسميا.. نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد السيدة زينب رضي الله عنها    426 مليون جنيه إجمالي مبيعات مبادرة "سند الخير" منذ انطلاقها    رئيس اتحاد الجاليات الفلسطينية: إسرائيل لن تلتزم بقرارات العدل الدولية    فتح: نخشى أن يكون الميناء الأمريكي على شاطئ غزة منفذا لتهجير الفلسطينيين    روسيا: مستعدون لتوسيع تقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة    الخارجية الروسية: لا نخطط للتدخل في الانتخابات الأمريكية    كولر يعقد محاضرة فنية قبل مران اليوم استعدادا للترجي    بحوزته 166 قطعة.. ضبط عاطل يدير ورشة تصنيع أسلحة بيضاء في بنها    إعدام 6 أطنان أسماك غير صالحة للاستهلاك الآدمي بكفر الشيخ    "القاهرة الإخبارية" تحتفي بعيد ميلاد عادل إمام: حارب الفكر المتطرف بالفن    أحمد السقا عن أصعب مشهد بفيلم «السرب»: قنبلة انفجرت حولي وخرجت سليم    وزيرة التخطيط تشارك بافتتاح النسخة الحادية عشر لقمة رايز أب    مصر تشارك بأكبر معرض في العالم متخصص بتكنولوجيا المياه والصرف الصحي بألمانيا "IFAT 2024" (صور)    تضامن الدقهلية تنظم ورشة عمل للتعريف بقانون حقوق كبار السن    الحبس والغرامة.. تعرف على عقوبات تسريب أسئلة الامتحانات وأجوبتها    سعر الدولار فى البنوك المصرية صباح الجمعة 17 مايو 2024    الجزار: انتهاء القرعة العلنية لحاجزي وحدات المرحلة التكميلية ب4 مدن جديدة    مواعيد مباريات الجمعة 17 مايو.. القمة في كرة اليد ودربي الرياض    سيد عبد الحفيظ: مواجهة نهضة بركان ليست سهلة.. وأتمنى تتويج الزمالك بالكونفدرالية    بعد 3 أسابيع من إعلان استمراره.. برشلونة يرغب في إقالة تشافي    ليفربول يُعلن رحيل جويل ماتيب    مصر تفوز بحق تنظيم الاجتماعات السنوية للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في 2027    17 مايو 2024.. أسعار الحديد والأسمنت بالمصانع المحلية اليوم    مصرع ربة منزل ونجليها في حادث دهس أسفل سيارة بعين شمس    دون إصابات.. تفاصيل نشوب حريق بقطعة أرض فضاء في العمرانية    تجديد تكليف مي فريد مديرًا تنفيذيًا للتأمين الصحى الشامل    الخشت يستعرض دور جامعة القاهرة في نشر فكر ريادة الأعمال    برنامج للأنشطة الصيفية في متحف الطفل    وفاة أحمد نوير مراسل قنوات بين سبورت.. موعد ومكان الجنازة    طارق الشناوي ل «معكم منى الشاذلي»: جدي شيخ الأزهر الأسبق    الإثنين.. المركز القومي للسينما يقيم فعاليات نادي سينما المرأة    دعاء يوم الجمعة المستجاب.. «اللهمَّ اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها» ردده الآن    انطلاق قافلة جامعة المنصورة المتكاملة "جسور الخير-21" المتجهة لحلايب وشلاتين وأبو رماد    في 5 دقائق.. طريقة تحضير ساندويتش الجبنة الرومي    مرور مفاجئ لفريق التفتيش الصيدلي على الوحدات الصحية ببني سويف    طريقة عمل الهريسة، مذاقها مميز وأحلى من الجاهزة    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    خبير سياسات دولية: نتنياهو يتصرف بجنون لجر المنطقة لعدم استقرار    «الأوقاف» تعلن افتتاح 12 مسجدا منها 7 إحلالا وتجديدا و5 صيانة وتطويرا    أين وصلت جلسات محكمة العدل الدولية للنظر في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل؟    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 17 مايو 2024 والقنوات الناقلة    احذر.. قلق الامتحانات الشديد يؤدي إلى حالة نفسية تؤثر على التركيز والتحصيل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17-5-2024 في المنيا    سيولة مرورية وسط كثافات محدودة بشوارع القاهرة والجيزة    الاغتسال والتطيب الأبرز.. ما هي سنن يوم «الجمعة»؟    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لطلاب الشهادة الإعدادية بالجيزة.. غدا    جيش الاحتلال: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان وانفجار أخرى في الجليل الغربي    يوسف زيدان: «تكوين» امتداد لمسيرة الطهطاوي ومحفوظ في مواجهة «حراس التناحة»    النواب الأمريكي يقر مشروع قانون يجبر بايدن على إمداد إسرائيل بالأسلحة دون انقطاع    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    "كاميرا ترصد الجريمة".. تفاصيل تعدي شخص على آخرين بسلاح أبيض في الإسماعيلية    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العرب ونظرتهم للفنون الجادة
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 01 - 2016

في حين تتبني السلطة الحاكمة في بعض البلدان العربية مفهومًا مختلفًا للثقافة الجماهيرية عن ذاك الذي قدمه وانتقده بشدة فيلسوف مدرسة فرانكفورت "أدورنو"، ففي مصر علي سبيل المثال تُسمي الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة هيئة للثقافة الجماهيرية، وهي المنوط بها العمل علي نشر الثقافة والمعرفة في كافة المناطق الجغرافية والإقليمية من خلال فروعها المنتشرة هنا وهناك، وهي في نفس الوقت تنفذ عملا بيروقراطيا تابعا لوزارة الثقافة التابعة بدورها للحكومة، أما عن "الثقافة الجماهيرية" التي تحدث عنها أدورنو فهي تعني ذلك الاتجاه في الفن الذي تموله مؤسسات رأس مالية كبيرة وهدفه الأساسي هو الربح لذلك فمن المفترض أنه سيقدم لعدد كبير جدا من الجماهير من خلال وسائل الإعلام والآليات التكنولوجية الحديثة ومن المفترض أيضًا أنه سيرضي نطاقا واسعا من الأذواق بحيث يحقق أعلي معدل بيع ممكن.
والجانب الآخر من ارتكاز فرانكفورت علي النظريات النفسية فيما يتعلق بهذا الأمر كان ما سنسميه بالانفعال الزائف، ومن المؤكد أنه أيضًا كان يتحدث انطلاقا من خلفيته الماركسية، بناء علي أن الرأسمالية الاحتكارية فيما أحدثته من كبت وضغط مستمرين علي العاملين في المؤسسات الاقتصادية العملاقة والتي تدعوهم باستمرار أن يكونوا مرنين وقادرين علي قولبة طباعهم وشخصياتهم بناء علي ما يستجد من طبيعة العمل، بالإضافة لكونهم مضطرين دائمًا للبحث عن مزيد من المال طيلة الوقت من اجل استهلاك مزيد من السلع من أجل إرضاء حاجاتهم التي لا تشبع، في حين لا تلبث كافة المؤسسات الرأسماية أن تمنحهم منتجًا جديدا يلهثون خلفه، ولأنه الفرد- لا يملك سوي أن يستهلك المزيد من السلعة التي لا تفيض عن احتباجاته الآنية أو المستجدة من أجل أن يظهر من خلال ما يرتديه من أسماء تجارية أو ما يأكله من مطاعم ذات علامة تجارية مميزة بمظهر الفرد المتمدين الذي يطالبه به المجتمع الحديث.
هذه الدائرة المغلقة التي تفتقد كثيرًا لفسحة من الوقت يتنفس فيها الفرد ويستطيع خلالها أن يستكشف مشاعره الحقيقية وأن يفرغ طاقاته المكبوتة علي نحو جيد وحقيقي، وطالما أنه لا يستطيع أن يفرغ مشاعر الحب والكراهية وأن يمنح جسده ومشاعره انفعالا حقيقيًا، فلا يجد أمامه سوي السينما والموسيقي في أنماطها التي تمنحه قدرًا من الانفعال والحركة المزيفين، سواء في مشهد أكشن، أو في أغنية شعبوية تحفز علي الرقص العنيف، وهو ما عرفه هوركهايمر وماركوزة باعتباره انفعالا زائفًا.
قد يعاب علي مفكري فرانكفورت من هذا الجيل احتقارهم الظاهر للجسد، إلا أن هذا الاحتقار المزعوم لا يتخطي إطار المظاهر، ففي جوهر هذه الفلسفة لا يوجد تعارض مع الاحتفاء بالغرائز الجسدية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الذات الإنسانية، لكن ما كانوا يقصدون ويتوجهون باللوم اللاذع تجاهه هو استغلال هذه الغرائز والانفعالات من أجل إنتاج سلع تستطيع تحقيق أرباح جيدة، وعلي الرغم من أن النظم الشمولية التي انبنت علي الماركسية في غضون القرن العشرين قد أنتجت أنواعًا أخري من الكبت قد تكون أشد ضراوة ومن المؤكد أنها قد أثرت في الفن بطرق مغايرة عن تلك الناتجة عن النظام الرأسمالي، لكن ذلك لا ينفي أن الرأسمالية في طورها الحالي قد أنتجت نماذج لا حصر لها من الفن المشوه تسيطر علي جمهور الفن وتتحكم في أذواقهم.
بخلاف ذلك فإن أدورنو يصر علي نفي المفهوم الشائع عن كون منتجات الثقافة الجماهيرية في الموسيقي والسينما والأدب والفن التشكيلي هي فنون شعبية الطابع، هذا المفهوم كان سيفسر الانتشار غير المسبوق لتلك السلع، غير أن ادورنو يقدم مفهومًا آخر للفن الشعبي، فالشعوب تنتج فنونها الخاصة من داخلها وبشكل تلقائي وببطء، بينما تُفرض منتجات الثقافة الجماهيرية عليهم من أعلي.
وما يؤكد عليه أدورنو في شيء من النبوغ، هو أن الجماهير ليست علي هذا المستوي من السذاجة أو الغباء ما قد يفهم من السياقات التي سبق وتحدث عنها، بل إن أعداد الجماهير التي تكتشف يومًا بعد يوم سذاجة هذه الآليات الفنية، هي في ازدياد مستمر، لكن المعضلة الأكثر إثارة في الموضوع، هي أنهم علي الرغم من كونهم يعرفون طبيعة السلعة المقدمة لهم إلا أنهم يواصلون شراءها، بسبب من كونها البديل الوحيد المتوافر أمامهم والذي يمكن الوصول إليه بسهولة أكثر بكثير ممما نجد في الفن المستقل، وثانيًا: لأن استهلاك هذه السلع الفنية أصبح ضرورة للفرد حتي يكون داخلًا في سياق مجتمعه الحديث، حتي لا يبدو كمسخ غريب لا يعرف بعض الأشياء عن نجوم الشاشة ومطربي القنوات الفضائية المشهورين، تلك المقولات والمعلومات عن هذه الأمور التي يتحدث عنها الجميع ولا يمكن لأحد أن يتخلف عنها وإلا تم نبذه وتوصيفه ببعض الأمور المشينة من قبيل "الرجعي" و"الريفي الساذج" وما إلي ذلك من هذه الأمور، هذا بالإضافة لما سماه
أدورنو ب"الفردنة الزائفة".
البطل الخارق
شيء آخر لابد من الإشارة إليه لا باعتباره نتاجًا مباشرًا للنظام الرأسمالي كما كان يري أدورنو، بل باعتباره جزءا لا يتجزأ من طبيعة النفس البشرية لم يتغير منذ نشأة الإنسان وإن تواجد بشكل ضئيل نسبيًا في بعض الأقليات النخبوية علي مر العصور، ألا وهو البحث عن البطل الخارق، هذا البطل كان يتمثل في ذهن الإنسان البدائي علي هيئة إله أو نصف إله في الميثولوجيا اليونانية والبابلية والعربية، أو بطل شعبويًا قادر علي صناعة المعجزات ومحاط بهالة من الأساطير كما في السيرة الهلالية.
الإنسان الذي من لحظة ظهوره علي الأرض كان يشعر بالضعف حيال الطبيعة ولم يكن أبدًا في مأمن من كوارثها المتتالية، فاخترع النظام الاجتماعي الذي خفف وطأة فعل الطبيعة، ثم بدأ يضج من النظام، ويبدو أن هذا النظام أيضًا لم يحمه بالشكل الكافي من الأخطار المحدقة به والأشياء التي يعجز عن فهمها، هذا الإنسان المحصور بين ويلات الطبيعة وكبت النظام، كان عليه أن يخترع كائناته الأسطورية وأبطاله الخارقين، الذين بطبيعة الحال سيعوضون عبر الخيال شيئًا من إحساسه بالعجز، وبالنظر إلي طبيعة المنتج الفني الذي تنتجه سينما هوليوود (أفلام السوبر هيرو ومجرم الشاشة) أو بعض الروايات ذائعة الصيت (هاري بوتر كمثال)، والتي انتقلت بدورها للسينما والأعمال الأدبية المكتوبة بالعربية، سوف نجد تجسيدًا لا يكف لهذا البطل الخارق الذي يستطيع الإتيان بأشياء لا يقوي عليها البشر العاديون، من خلال الفانتازيا أو حتي عبر الأعمال التي تأخذ طابعًا واقعيًا في الظاهر، وما ينبغي التأكيد عليه أن هذه الآلية المضمونة التأثير علي الجماهير -البطل الخارق- قد استغلتها الثقافة الجماهيرية المرتبطة بالنظام الرأسمالي لكنها لم تكن أبدًا ناتجة بشكل مباشر عنه، حيث كانت متجذرة في نفس الإنسان منذ البداية وسافرت معه عبر كافة الأنظمة وهي تطالبه من وقت لآخر بصناعة شخصياته البطولية.
هل كانت آليات الثقافة الجماهيرية ناتجة بالكامل من داخل النظام الرأسمالي؟
ما يلجأ إليه الجيل الأول من مفكري النظرية النقدية هو محاولة إرجاع كافة امراض المجتمع الحديث للنظام الرأسمالي، وبخاصة ذلك النوع الذي يحمل طبيعة احتكارية والذي ظهر بقوة عقب الأزمة المالية العالمية في ثلاثينيات القرن العشرين في هيئة شركات ومؤسسات مالية عملاقة تنتشر فروعها حول العالم، وهو أمر لا يخلو من الصحة في كثير من الأحيان، بينما يلحق بهؤلاء المفكرين الفشل في مناطق أخري عديدة، خاصة حين يلتبس عليهم أن تكون بعض هذه المشكلات قد توارثها الإنسان من أنظمة سابقة، وعلي كل فإن استخدام الثقافة الجماهيرية لآليات من قبيل استغلال الليبيدو أو ما حاولت هذه الدراسة التنويه له عن استخدام آلية "البطل الخارق" وكيف ورثها الإنسان وكانت متجذرة فيه منذ عصور سحيقة، أما عن آلية الانفعال الزائف فهي طبقًا لما أنتجه هوركهايمر وماركوزة من مقدمات فهي أقرب لأن تكون ناتجة بشكل مباشر عن طبيعة المجتمع الرأسمالي، كما أن هذا تفصيل الآليات لا ينفي أن الثقافة الجماهيرية قد نتجت بجملتها عن تدخل رأس المال لتسليع الفن.
روح فلسفة أدورنو
تكمن هذه الروح في فلسفة أدورنو في إشكالية واحدة هي أن الفن الحقيقي الذي يستطيع تغيير الأفراد وبناء المجتمعات لابد أن يكون علي خط واحد مع الفكر في تنمية العقل النقدي لدي الجمهور تجاه العالم، يقول آلان هاو متحدثًا عن فلسفة أدورنو:
"ذلك أن التفاصيل في العمل الفني مصممة فقط لتناسب الكل البنية الكلية والإطار الخارجي للعمل- بدلًا من أن تظهر تلك التفاصيل- كيف تتشكل الأشياء في الواقع بطريقة تناقضية وديالكتيكية"
لكن ما أنتجته الثقافة الجماهيرية كانت علي النقيض تمامًا من هذه الروح التي ارتأت أن كشف الواقع الإنساني للبشر علي ما فيه من تناقضات وأضداد أثمن بكثير من عملية التنويم المغناطيسي بآليات الليبيدو والانفعال الزائف والتكرار الذي تحدثه الثقافة الجماهيرية، وما يطمح إليه أدورنو هو إبطال الفعل المخدر لهذه الفنون الاستهلاكية.
الثقافة العربية الحديثة ما بين السوق الحرة والأنظمة المتعثرة
الاقتصاد في الغرب قائم بأكمله علي الرأسمالية الاحتكارية في هيئة شركات عالمية عملاقة، بينما تتبع البلدان الشرق أوسطية بنسب متفاوتة نظامًا خليطا من الرأسمالية التنافسية إلي جانب الاحتكارية مع بقايا ضئيلة من نظم شبيهة بالاشتراكية، وتشارك فروع الشركات متعددة الجنسيات في نصيب كبير من كعكة التنافس في بلاد الشام ومصر والعراق ودول المغرب العربي، وتستولي علي نصيب أكبر في بلدان الخليج، وبناء علي ذلك فإن نموذج قولبة الفرد الغربي الذي تحدث عنه منظرو فرانكفورت من المفترض أن يخفت لدينا، إلا أن ذلك لا يتحقق فعليًا علي أرض الواقع.
باستثناء المناطق الريفية في معظم البلدان العربية حيث يعمل معظم الناس في الزراعة والحرف البسيطة وهم يتأثرون بالثقافة الجماهيرية نتيجة لآليات مختلفة، مضافًا إليهم معظم أبناء الخليج العربي حيث يتم الاستعانة بعمالة قادمة من الخارج بينما يقوم أبناء البلد بإدارة رؤوس الأموال أو تلقي نصيبهم عائدات البترول من الدولة، فإن المدن في بقية البلدان تعتمد أغلب الوقت علي التشغيل في الشركات والمصانع متوسطة أو صغيرة الحجم، وفي ظل غياب القوانين المنظمة للعمل والمنوط منها حماية حقوق العمال والموظفين، يعاني الفرد من ضغوط كثيرة كارتفاع عدد ساعات الدوام التي قد تزيد علي 10 ساعات يوميًا بالإضافة لانخفاض الأجور الذي يدفع أرباب الكثير من الأسر للعمل في أكثر من مكان علي مدار اليوم، مع غياب عامل الاستقرار وارتفاع معدلات الاستغناء عن العمال، نتيجة للتعثرات الاقتصادية أو لغياب دور القانون في حماية العاملين بهذه المؤسسات.
إن الفرد في المدينة بتلك المناطق يصبح تحت ضغط مستمر ينتج عنه نفس القولبة خاصة مع ازدياد التحفيز علي الاستهلاك من قبل المعلنين، ويصبح الفرد في المدينة في أمَس الحاجة لنوعية الفنون المخدرة التي سيتلقاها في الفسحة الضئيلة من وقته في تغييب كامل لذهنه المجهد من جراء العمل المفرط، كل هذه الأمور تنشط الحاجة لآليات الانفعال الزائف وتضاعف من احتياج الفرد الطبيعي لقطعة فنية تجسد البطل الخارق الذي يقهر جميع الضغوط، بالإضافة إلي آلية الليبيدو الموجودة بالأساس لكنها تبحث عمن يؤجهها في أوقات الفراغ لتعوض نقصًا كثيرًا لم يتم إشباعه في الواقع خاصة مع ارتفاع سن الزواج وازدياد نسب العنوسة في بعض المجتمعات، أضف إلي ذلك ضعف جودة التعليم في بعض هذه البلدان، فإذا كان الغربي قد عاني الاحتياج للبطل الخارق في عصور الكبت المجتمعي والسلطوي ثم استبدلها بنفس الحاجة في النظام الجديد لأسباب مختلفة، فإن الفرد في الكثير من المجتمعات العربية أصبح في حاجة ملحة لهذه الآلية التي تنمو في اللاوعي للأمرين معًا، كذلك ينطبق الأمر علي الليبيدو والانفعال الزائف فهنا نجد ثنائية الكبت المجتمعي مضافة لكبت المؤسسة التي يعمل لديها، نضيف لكل ما سبق تردي جودة التعليم في بعض المناطق بالشرق الأوسط، هذه الأمور مجتمعة تعيق التعاطي مع الكثير من الفنون الجادة أضعافًا مضاعفة عما يحدث في الغرب.
وما يغيب عن الذهن في الكثير من الأحيان هو أن المجتمعات العربية تحمل علي عاتقها مشاكلها الخاصة القادمة من الداخل مضافًا إليها مشاكل الغربيين التي يتم استيرادها، فإلي جانب كل ما سبق، سوف نجد الشركات المتوسطة الحجم قد بدأت منذ زمن ليس ببعيد في اتباع نفس المناهج التي تتبناها الشركات متعددة الجنسيات لتدريب العاملين علي المرونة لأقصي درجة والعمل تحت ضغط وقولبة شخصياتهم علي الإطار الذي يسمح لهم فقط بممارسة العمل، وهذا يفسر النمو المطرد لاستخدامات علوم التنمية البشرية في الشرق الأوسط، ومن المؤسف أن تُتبع هذه المناهج دون غيرها من التي تحترمها الشركات العالمية بخصوص حقوق العمال.
هذه الحاجة الملحة لأن يكون الفرد مرنًا للدرجة التي يمكن أن يتحول فيها إلي نموذج آلي يخدم مصلحة الشركة فقط، لم تصبح غريبة علي مجتمعاتنا، وهي في ازدياد مستمر، ويقتضي ما يقتضيه الأمر في الخارج من أن يكون الفرد في المدينة يشاهد نفس نوعية الأفلام ويهيم بعشق نفس النجوم ويردد نفس الموسيقي في فيض من توحيد الأذواق يشبه ذلك التوحيد للشخصيات الذي يحدث خلال ساعات العمل، وفي نفس إطار المشاكل المستوردة من الخارج، سوف نجد نموذج الحداثة الزائفة.
ارتفاع معدلات الطلب علي الهجرة في كثير من البلدان العربية، يعكس حقيقة مهمة وهي أن الفرد في هذه المناطق من العالم يشعر بالفارق الكبير إذا ما قارن نفسه بالفرد في الغرب، ونتيجة لعدم قدرته علي أن يغادر في أغلب الأحيان أو أن يكون هو نفسه هذا النموذج الغربي، يحدث خللًا ما، شعور بالنقص وصغر الذات، وهناك عجز دائم عن إدراك أن الفرد في الغرب يعاني من مشاكل تتلخص في القولبة والطبيعة الاستهلاكية، لذلك فالمواطن لدينا علي هذا الجانب يري أنه يعاني من عجز حقيقي، وعندما يعجز الإنسان عن بلوغ شيء يطلبه بشدة فإنه يتمثل به ظاهريًا.
هذا يفسر إذا ما عدنا لإشكالية الثقافة والفن بعض الأشياء، فالأزياء والسينما والموسيقي والأدب التي تم إنتاجهما في الغرب اعتمادًا علي آليات الليبيدو والانفعال الزائف والبطل الخارق و يتم استهلاكهما أو إعادة تدويرهما مرة أخري في الداخل العربي، وعلي نحو بالغ، حتي يستطيع الفرد أن يهتف لنفسه وللآخرين "انظروا هأنا أبدو حداثيًا ولا أختلف عن "براد بيت" في فيلم "السيد والسيدة سميث" ، كل هذه الأمور ليست بالجيدة أو الحسنة إذا ما نظرنا إليها من الخارج، ولا أريد لهذه الدراسة أن تأخذ مظهرًا وعظيا، لكن الحقيقة الباطنة هي أن الفرد في الحواضر العربية يظل محتفظًا بثقافته التقليدية في الداخل، بينما يتستر خلف سيل هائل من المظاهر الغربية في الخارج، من المؤكد انه لايوجد فرق بين أن ترتدي عقالًا أو ان ترتدي قميصًا من "كالفن كلاين" وحذاء رياضيًا من ماركة "نايكي"، لكن هناك فارقا كبيرا بين أن يتم قولبة الأفراد جميعًا ودفعة واحدة طواعية ليرتدوا نفس الشيء، كما أن التغيرات الحقيقية في المجتمعات تستلزم وقتًا طويلًا وحراكا من الداخل يظهر في الأخير علي مستوي الأزياء والسينما والأدب والموسيقي وكافة مناحي الحياة، لكن ما يحدث علي الأغلب هو طفرات مستوردة تشتعل سريعًا ثم تخمد ليحل محلها طفرات أخري، في نفس الوقت الذي يظل فيه التيار المستقل الذي يترجم الاتجاهين الجمالي والعقلي في الفن في منطقتنا كباقي مناطق العالم، يعمل في معزل عن الجماهير، لكن ما يزيد الأمر سوءًا هو أن الطبقات التي ينبغي علينا العمل علي تعريتها عن هذا التيار ليبزغ وينمو تشبه تلك الموجودة في الغرب مضافًا إليها موانع أخري قادمة من داخل المجتمعات العربية.
مصادر:
النظرية النقدية لآلان هاو، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب 2015، ترجمة ثائر ديب، (106-126)
مصادر أجنبية:
Adorno,T (1978 [1932]: on the social situation of music translated by wen blomster,Telos 35, 128-64
Adorno,T.(1991) The culture industry:selected essays on Mass culture, edited with an introduction by J.M Bernstein, London, Routeldge.
Adorno, T. (1993) Theory of pseudo-culture Telos, 95, 15-38


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.