في إحدي أيام الأحد، كانت منطقة الغورية تنعم بالهدوء. غالبية المحال التزمت بموعد عطلتها الأسبوعية. مسجد السلطان الملك الأشرف قنصوه يتضح بأكمله. بعض الملابس تُركت علي جدرانه كإثبات وجود لكل بائع. رائحة البخور والتوابل والبن التقت أخيراً. لا أحد يبحر إلي الداخل سوي أهالي المنطقة وعدد من طلبة الأزهر. كغيري من المارة، كانت علاقتي بالغورية لا تتعدي سوي معرفتي بوكالتها. الفرصة وحدها، والفراغ الذي خلفه الباعة، أثار شغفي إلي شوارعها المكشوفة. ثمة أشياء تكشف عن الغرباء؛ عيونهم المُحدقة إلي أعلي، ودهشتهم المتصلبة علي وجوههم، وأفواههم المفتوحة في انبهار. تبرع أحد الرجال بأن يرشدني - دون أن أساله - إلي أشهر الآثار الإسلامية هناك. "أول شارع شمال هتلاقي قاعة الدرديري.. تحفة معمارية"، قال الرجل مُردفاً: "لا تنس قراءة الفاتحة لمولانا". الكحكيين.. اسم الشارع الذي يقصده. أحمد الدردير.. اسم الشيخ الذي أوصاني به. الشارع أقرب إلي حارة؛ بيوته قديمة علي وشك الانهيار ومزدحم بالدكاكين. مررت علي مسجدين، لم التفت في البداية إلي أسمائهم. قصدت مباشرة قاعة الدرديري، كما ينطقون. تقع القاعة في منتصف الشارع، بالتقاطع مع زقاق السباعي، لها ثلاثة أبواب. تكومت أمام احدها أكياس القمامة التي انتشرت فيها القطط لتلتقط رزقها. السور الخارجي ليس مرتفعاً. انهيار جزء منه كشف عن مشربية واحدة. تجلس امرأة عجوز علي كرسي خشبي، تُدعي أم شعبان، تتطلع إلي القاعة بشيء من الحسرة. تستعيد ذاكرتها قائلة: "كان يعيش الدردير هنا، حتي صار الشارع يُلقب باسمه، وبمرور الوقت تحولت إلي قاعة أحكام عرفية. لقد دخلته في طفولتي، حيث كان مفتوحاً، ويحافظ عليه الجميع.. الآن تُحاصر أسواره القمامة، ويثير في نفوسنا القبح، ولا نعرف لماذا لا يهتمون به مثل ضريحه". تشير أم شعبان إلي مئذنة عالية، مُعلنة أنها تابعة لمسجد وضريح الدردير. ناصحة إياي بأن أذهب للسلام علي الشيخ. جدران البيوت الفاصلة بين القاعة والضريح تحولت إلي جالري يضم لوحات زيتية - لعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وفريد الأطرش - رسمها أحد الفنانين المجهولين. باقترابك من المسجد تلمسك حالة من السكينة، ربما سببها تجمع عدد من مريدي الشيخ حوله، إذ يطل ضريحه من خلف شباك أرابيسك، تعلوه لوحة رخامية مكتوب عليها (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). ويجاوره ضريح يحيي بن عقبة المُغلق للإصلاحات. أبو البركات يعرف الناس هُناك الكثير عن الشيخ أحمد الدردير؛ عام ميلاده، وحياته الأزهرية، ومواقفه مع الحكام، وحكاياته التي يراها البعض كرامات. أمام المسجد يوجد محل صغير للسندوتشات السريعة، أطلق عليه صاحبه - مصطفي محمد - اسم (أبو البركات)، لقب الشيخ، كي يأخذ منه بركة الرزق. يقول الرجل: "في حضرته لا أشعر بالخوف، أقصده كثيراً، فكان معروفاً في حياته بأنه يساعد من يحتاجه، حتي لمس الكثيرون بركته.. وهناك عبارة شهيرة يرددها من يزوره وهي (اركب الحمارة واقضي العبارة)، إذ وثق المؤرخون أن سيدي الدردير كان يركب دابته (الحمارة) ذاهبا أو آتيا من قضاء حوائج الفقراء والمظلومين". بالعودة إلي الكتب التي تناولت سيرته، نجد أنه استمد لقبه هذا كونه من نسل الفاروق عمر بن الخطاب. فيقول الشيخ عبد الحليم محمود في كتابه عن الدردير إنه "ولد عام 1715م وسط جو من التقوي والعلم والمعرفة، ووسط جو قرآني، فكانت عناية والده الشيخ محمد به شديدة، إذ رأي فيه بداية عالم جليل". أما كلمة الدردير فهي اسم أحد زعماء العرب الذين نزلوا قديماً في قرية بني عدي بمحافظة أسيوط، مسقط رأس الشيخ، حيث سُمي جده بالدردير، واشتهرت به العائلة حتي الآن. في مدخل المسجد، يجلس حارس ضريح الدردير، أشرف حسين، مُستقبلاً الزائرين بوجه يملؤه الوقار. لا يتحدث كثيراً. ولا تخرج منه أي إشارة، فغرفة المقام تبعد عن الباب الرئيسي بمسافة مترين. يحاط القبر بمقصورة من خشب الأرابيسك. المسك والبخور والأضواء الخضراء تشكل روحانية خاصة للمكان. يقول أشرف إنه لا يشعر بالراحة إلا بجواره، وإن من يأتي إلي هنا.. لا يقطع زيارته أبداً. ومن غرفة المقام، تصل إلي غرفة أخري. مستطيلة وضيقة. يرقد فيها السادة السباعية ورثة الدردير في نشر علمه وعلومه، والذين خلفوه في تولي مشيخة الطريقة الخلوتية. فبعد أن يفرغ الزائر من قراءة الفاتحة، وتلاوة الدعوات، وطلب حاجاته من الشيخ، يفعل الأمر ذاته مع تلاميذه، ليشعر بمداد الوصل. بعد ذلك، تأخذك غرفة المقام إلي ساحة الصلاة الشاسعة. تضم منبرا خشبيا، ومحرابا رخاميا مُحلي بنقوش إسلامية، ومكتبة متواضعة. أما أعمدته مرتفعة تحمل مصلي للنساء. لا تخلو الساحة من المريدين، والمُصلين، والأزهريين خصوصاً الأجانب منهم، فقد ألف الدردير كتباً عددها 21 في الفقه والتفسير والتوحيد والسيرة والقراءات وآداب البحث والبلاغة. ويُدرس له الآن في الأزهر كتابي "الشرح الصغير" و"الخريدة" في علم الكلام. الطريق إلي الله كما كان صوفياً زاهداً. يقول الشيح عبد الحليم محمود في كتابه: "لقد حزم أمره حين بلغ ثلاثة وثلاثين عاماً في أن يسلك الطريق إلي التصوف، فذهب عام 1748م إلي شمس الدين الحفني - شيخ الأزهر - لأخذ الطريق، فلقنه (لا اله إلا الله)، ومكث بعدها الدردير حتي أحرق الذكر جسده". يستكمل: "ثم لقنه (الله) حتي غاب عن الوجود. ثم (هو) وكان في هذا المقام كثير الأحزان، لا يدري ما يُفعل به. ثم جاء الاسم الرابع وهو (الحق) الذي به يضع المريد قدمه في طريق أهل الله. ثم (حي). وفي الاسم السادس (القيوم) كان الدردير لا يعي شيئاً بحاله. وإلي أخر اسم "القهار" الذي أفاقه، فكان بمثابة الصحو". أخذ الشيخ الدردير منذ ذلك الوقت يكتب عن التصوف. فمن أشهر عباراته: "إن نهاية التوحيد هي التصوف، ومن لم يتصوف لم يذق التوحيد". كما عُين شيخاً ومُفتياًَ علي مذهب المالكية خلفاً للشيخ علي الصعيدي. فصار شيخاً علي أهل مصر بأسرها حساً ومعني، وفق المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي. المكانة التي وصل إليها الدردير، جعلته لا يخشي السلاطين، ولا يحب التودد إليهم. يرقد في مسجده رجلاً عجوزاً علي إحدي النوافذ الداخلية، مُمداً رجليه في وجه المارة، اسمه سعيد فؤاد، حين سألته عن الشيخ، قال إنه يقتدي به، ويقلده. يُروي أنه في يوم دخل والي مصر علي الدردير في جامع الأزهر وهو يقرأ ورده من القرآن، فغضب الأول لأن الشيخ لم يستقبله ويرحب به، فقال أحد الحاشية للوالي "إنه مسكين ضعيف العقل.. لا يفهم إلا في كتبه"، وبعد أيام أرسل الوالي إلي الشيخ حقيبة من المال، فرفضها وقال لحاملها: "قل لسيدك من مدّ رجليه لا يمد يديه". يا كوم يجيلك يوم الحديث عن الدردير لا يتوقف هُناك. الكل يحفظ له حكاية عن ظهر قلب. أترك الضريح، متجهة مرة أخري إلي قاعة الشيخ، فهي مبني أثري - رقم 466 في حي الجمالية - أقامها الأمير حسام بن صالح الخشبي في منتصف القرن الثاني عشر ميلادياً علي الطراز الفاطمي، وتعد من أقدم القاعات السكنية الباقية في القاهرة، حيث كانت المنازل تُبني علي هيئة قاعات منفصلة. وسكنها الدردير الذي حولها إلي ساحة علم، فكان يصطف أمام القاعة طوابير من محبيه، يقفون لساعات، كي يروا وجهه ويتبركوا به. يعرض عليّ أحد سكان المنزل المواجه للقاعة - اسمه محمد أبو ضيف - الصعود إلي شقته في الدور الثالث لأراها من أعلي. المشهد البانورامي يُنذر بأن القاعة مهددة بالانهيار. جدرانها تتآكل يوما بعد آخر. الأسقف والممرات المؤدية إلي الغرف ممتلئة بالقمامة ومخلفات المباني التي يلقيها السكان من شرفاتهم. لها مشربية رئيسية من خشب الأرابيسك مُقسمة من الداخل إلي حجرتين، كما تحتوي علي العديد من المشربيات الصغيرة. يقول أبو ضيف: "ما ترصديه الآن أقل وطأة مما هو عليه نهاية كل يوم، حيث يزيل الحي في الصباح تلالا من القمامة.. حاولت مرة أن أمنع الناس من إلقاء مخلفاتهم بجوار الأسوار إذ وَضعتُ مزهريات ورد أمام البوابة الرئيسية، لكنهم تشاجروا معي". تضيف زوجته: "لم يتوقف الأمرعند حد القمامة، صارت القاعة تحوي الثعابين والعرس التي تتسلل إلي بيوتنا ليلاً". حسبهم، مرت القاعة بمراحل عدة من التدهور؛ ففي نهاية الثمانينات كان يقطنها عدد من الأهالي، وبعد زلزال 1992 انهارت أجزاء كثيرة منها، ما دفع السكان إلي الخروج. وفي إحدي السنوات تحولت بوابتها الخلفية إلي مخزن للبضائع التموينية، لكنه أُغلق فيما بعد. منذ 15 عام تقريباً تم ترميم القاعة وأُتيح للسائحين بدخولها لفترة قصيرة. في السنوات الأخيرة الماضية أهملتها وزارة الآثار كغيرها من الآثار الإسلامية حتي وصلت إلي ما عليه الآن. اهتمام وزارة الأوقاف بالمسجد وإعادة بنائه منذ عامين بمبلغ يصل إلي المليون جنيه، هو ما يثير تعجب الأهالي. فالمسجد له حكاية مشهورة بينهم؛ كان الدردير يمر من أمام قطعة أرض في شارع الكحكيين بها أكوام كثيرة من القمامة، فيردد بشيء من التمني: "يا كوم يجيلك يوم". إلي أن آتي هذا اليوم، فقد رد إليه سلطان المغرب مولاي محمد ما أنفقه علي ابنه، الذي تخلف بعد الحج وأقام في مصر، بعشرة أضعاف مُجازاة للحسنة، فقبلها الدردير، وحج منها، وبني زاوية علي هذه الأرض، التي صارت الآن مسجده وضريحه. بعد قرابة ثلاثة قرون من وفاة أحمد الدردير عام 1786م. انقلبت الآية. تحولت قاعته إلي "كوم" من القمامة، وصار الأهالي يرددون عبارته الشهيرة لعل تستجيب الدولة لهم، فكرامات الشيخ وحدها لا تكفي.